يوم ثقيل!
إن من يعرف قيمة الوقت ويدرك فداحة خسارة من تتوالى عليه الأيام والليالي دون عمل أو إنجاز ديني أو نيوي هو وحده الذي يمكنه أن يستشعر ثقل مرور يوم واحد من تلك الأيام عليه
في جلسة من جلسات الصفا مع بعض الأحباب الذين جمعتهم الأخوة في الله، خطر ببال أحدهم أن يطرح سؤالًا فيه بعض الغرابة والحداثة، حيث طلب من الحاضرين أن يتحدث كل واحد منهم عن أثقل يوم مر عليه في حياته.
والحقيقة أن الفائدة التي يمكن أن يجنيها المسلم من مثل هذه الجلسات الإيمانية، وما يطرح فيها من أسئلة حياتية معاصرة، وأجوبة على تلك الأسئلة هي في الحقيقة خلاصة خبرات حياة مديدة، وعصارة تجارب ومواقف كثيرة؛ ربما لا يمكن تحصيلها في أماكن أخرى غير تلك الجلسات.
كثيرة هي الأجوبة التي كانت في الحقيقة مقنعة، فقد ذكر أحد الحاضرين قصته مع مرض ألم به بشكل مفاجئ، وأقعده عن الخروج من البيت وممارسة حياته المعتادة، مضيفا أن أثقل يوم مر عليه في حياته هو اليوم الأول من أيام مرضه، حيث الوجع والألم في النهار، والأرق وعدم القدرة على النوم في الليل.
إجابة أخرى على السؤال تناولت قصة انتظار أحد الحاضرين نتيجة امتحان السنة الأخيرة من كلية الطب، حيث يؤكد صاحب القصة أن ذلك اليوم كان أثقل يوم مر عليه في حياته، فأنفاسه كانت محبوسة حسب وصفه، وعقارب الساعة التي في يده لم يكن يشعر أنها تتزحزح من مكانها، حتى ظن أن هذا اليوم لن يمر بساعات ودقائق من شدة ثقلها.
إلا أن الإجابة التي لفتت نظري ونظر الكثير من الحاضرين، هي تلك التي تناولت القضية والإجابة على السؤال من زاوية أخرى، حيث ذكر أحدهم قصته مع أثقل يوم مر عليه في حياته، إلا أن ذلك اليوم لم يكن يوم مرضه أو تخرجه من الجامعة أو انتظاره حكم محكمة أو خبرًا عن أمر يهمه ويشغله أو... إلخ.
وإنما كان ثقل ذلك اليوم بسبب (عدم الإنجاز) أو بتعبير أدق: بسبب مرور ساعات ذلك اليوم ودقائقه عليه دون عمل دنيوي مباح ينفعه ومن يعول أو ينفع أهله وبلده وأمته، أو عمل أخروي يدخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال صاحب القصة: نعم... لقد كان أثقل يوم مرّ علي في حياتي هو ذلك اليوم الذي لم أنجز فيه أي عمل دنيوي ينفعني، ولم أستثمره في طاعة الله وعبادته كما ينبغي، ولعل سبب ثقله هو عدم اعتيادي على الجلوس دون عمل أو إنجاز.
لقد مرت عليّ ساعات ذلك اليوم بطيئة ثقيلة، كنت خلالها أتنقل بين العبث بالهاتف الجوال وتصفح وسائل التواصل الاجتماعي دون غاية أو هدف إلا ملء الفراغ وتمضية الساعات، وبين الجلوس على الشرفة أو النافذة أراقب المارين على الطرقات.
شعرت في نهاية ذلك اليوم بانزعاج شديد وضيق في الصدر لم أعهده من قبل، وعزمت على عدم ترك نفسي مرة أخرى فريسة للفراغ القاتل، أو لقمة سائغة لداء ضياع الأهداف وغياب جدول للأعمال الدنيوية أو الأخروية اليومية.
قلت في نفسي وأنا أستمع لمشاعر صاحب القصة في ذلك اليوم الذي وصفه بـ(الثقيل): كم هي عدد الأيام المشابهة لذلك اليوم في حياة كثير من شباب المسلمين؟! وهل يستشعرون في نفوسهم ثقل تلك الأيام؟! أم إن تكرار مرور الأيام والليالي عليهم دون القيام بأي أعمال ذات قيمة أو إنجازات على المستوى الشخصي أو العائلي أو الاجتماعي قد حولت مرور الزمن عليهم إلى مجرد أوراق تتساقط من مفكرة التقويم.
كثيرة هي الأسباب التي يمكن ذكرها لظاهرة ما يسمى "مرور الأيام والأعوام على كثير من شباب الأمة دون عمل أو إنجاز"، لعل أبرزها: ضياع الأهداف الحالية والمستقبلية على الصعيد الشخصي والعائلي والاجتماعي، وغياب الحافز والدافع الديني أو الدنيوي لاستغلال أثمن ما يملكه الإنسان في هذه الحياة؛ الأمر الذي جعل الفراغ والبطالة والكسل ودنو الهمة هي الصبغة المهيمنة على المشهد وللأسف الشديد.
الغريب في انتشار مثل هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي هو تناقضها التام مع توجيهات وأوامر الدين الحنيف، فمن المعروف أن الإسلام هو أكثر الأديان السماوية حضا على استثمار الأوقات وتحذيرًا من إضاعة العمر وإهداره بالمعصية أو بما لا ينفع في الدنيا والآخرة.
لقد أكدت السنة النبوية مسؤولية الإنسان عن عمره وحياته، ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه» (صحيح الترغيب:3593).
كما اعتبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الفراغ نعمة عظيمة من نعم الله تعالى ينبغي أن تستثمر بطاعته وفيما ينفع، ففي الحديث عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (البخاري برقم:6412).
كما أن أقوال السلف الصالح وأفعالهم تشير بوضوح إلى مدى حرصهم الشديد على استثمار كل ثانية من حياتهم، انطلاقًا من إيمانهم بأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الإنسان عبارة عن أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضه كما ورد عن الحسن البصري رحمه الله.
ومن هنا يمكن فهم قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة"، وقوله أيضًا: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".
إن من يعرف قيمة الوقت ويدرك فداحة خسارة من تتوالى عليه الأيام والليالي دون عمل أو إنجاز ديني أو نيوي هو وحده الذي يمكنه أن يستشعر ثقل مرور يوم واحد من تلك الأيام عليه، فيتدارك ما فاته ويعوض ما ضاع من ساعات عمره الثمين.
أما من ألفت نفسه الفراغ والبطالة، واستمرأت الكسل واللامبالاة، واعتادت على مرور الساعات والأيام فنصيحتي له أن يقوم بعمل واحد ذا قيمة يومًا ما، ليدرك من خلاله مدى السعادة التي سيشعر بها لا محالة، وحينها فقط سيظهر له الفرق الشاسع بين حياة الجد والعمل والإنجاز وحياة الخمول والكسل والفراغ، وسيستثقل بعدها يومًا واحد يمر عليه دون عمل أو إنجاز.
عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: