دقائق الانتظار... فرص للاستثمار
كثيرة هي دقائق الانتظار التي يضطر كثير منا رغمًا عنه أن يقضيها في المواصلات إن كان طريق الذهاب إلى العمل أو المدرسة أو المصلحة أو العودة منها مزدحم
كثيرة هي دقائق الانتظار التي يضطر كثير منا رغمًا عنه أن يقضيها في المواصلات إن كان طريق الذهاب إلى العمل أو المدرسة أو المصلحة أو العودة منها مزدحم، أو في انتظار إتمام العائلة استعدادها لمشوار صلة رحم أو عيادة مريض أو المشاركة بفرح أو التعزية بحالة ترح، أو في انتظار طابور التوقيع على أوراق رسمية أو إتمام معاملة لدى الدوائر الحكومية أو... أو...
ثقيل جدًا وقع تلك الدقائق على كثير من الناس، فمعظمهم -إن لم نقل كلهم- في عجلة من أمره، وغير قليل تلك المشكلات والنزاعات التي قد تنشب بين المنتظرين في تلك الدقائق المعدودة، ولعل السبب الأهم في كل هذا هو عدم استثمار تلك الدقائق بما يعود على المسلم بالخير والنفع والفائدة الدنيوية والأخروية.
لا أظن أن أحدًا يمكن أن يستثني نفسه من الاضطرار لانتظار هذه الدقائق، فلا بد لكل واحد منا من استخدام المواصلات بشكل شبه يومي، كما لا يكاد ينجو أحدنا من الوقوف في طوابير إتمام المعاملات بين الحين والآخر، ناهيك عن اضطرارنا جميعًا لانتظار أهلنا للذهاب معا لصلة الأرحام أو زيارة أحد الأصدقاء أو التسوق أو التنزه أو... إلخ.
الناس إزاء هذه الدقائق صنفان:
صنف لا يتوقف عن التأفف والتذمر والتضجر طوال لحظات هذه الدقائق وثوانيها، وهو ما يجعلها تمر عليه وكأنها ساعات من شدة ثقلها على نفسه، ناهيك عن آثارها السلبية على جسده، حيث الأعصاب المشدودة والتوتر الظاهر والحنق والغضب الذي لا تخفى سلبياته على كل بصير.
لا يقتصر الأمر عند هذا الصنف من الناس عند حد إضاعة هذه الدقائق بما يضره ويؤذيه في نفسه وروحه وجسده، بل قد يتعدى الضرر حدود نفسه إلى الآخرين من حوله، من خلال اختلاق مشكلات مع الزوجة التي لم تكن جاهزة في الوقت الذي يريده الزوج، أو مع الأولاد الذين انتظرهم الأب طويلا في السيارة عند باب المدرسة أو البيت، أو مع غيره من المراجعين في طوابير الدوائر الحكومية لسبب أو لآخر... إلخ.
وصنف آخر قد علم أنه لا مفر من مرور هذه الدقائق عليه شاء أم أبى، ومن ثم استثمرها بما يفيده في دينه ودنياه، فشغل نفسه خلالها بإتمام ورده وذكره اليومي الذي قد يكون قد نسيه أو فاته في الصباح، أو استغل هذا الوقت بمذاكرة محفوظاته من كتاب الله تعالى غيبًا، او استفاد من وسائل الاتصال الحديثة ففتح هاتفه المحمول وتلا شيئًا من القرآن الكريم ريثما تنتهي هذه الدقائق، أو قرأ بضع صفحات من كتاب مفيد كان قد اختاره ليكون في جواله لمثل هذه الأوقات.
قد لا يتصور البعض حجم الفائدة وعظم المنفعة التي سيجنيها من يستثمر دقائق الانتظار هذه، لأنه لم يدقق يومًا في مجموعها الذي قد يصل أحيانًا إلى عدة ساعات في بعض الأيام، وهو ما يعني أن قدرًا لا بأس به من أعمارنا تذهب سدى في المواصلات وطوابير الانتظار لإتمام معاملة في دوائر الحكومة أو... أو...
يستطيع حافظ القرآن الكريم الذي يلتزم بورد يومي من كتاب الله تعالى قد يصل إلى خمسة أجزاء أن يتم أحيانًا هذا القدر الكبير من المذاكرة في تلك الأوقات، فإن لم يكن فجزء كبير منه على أقل تقدير، وهو ما يجعله يوفر وقت المذاكرة لعمل آخر ديني او دنيوي.
أما غير الحافظ فيستطيع أن يتلو ورده اليومي من كتاب الله تعالى في هذه الدقائق، كما يمكنه أن يزيد على ذلك بقراءة ورده من أذكار الصباح والمساء، ناهيك عن الأذكار الأخرى التي لا تختص بوقت من الأوقات، وفيها من الأجر والثواب العظيم ما يفتقر إليه كل واحد منا.
وقد لا يصدق البعض أن كثيرًا ممن استثمر هذه الدقائق واستغلها أحسن استغلال قد أنهى قراءة الكثير من الكتب وربما المجلدات في هذه الدقائق مع مرور الأيام، وأنه أضحى ذا ثقافة عالية ومن القراء النهمين الذين لا يكادون ينتهون من قراءة كتاب حتى يباشرون في غيره.
إن طريق تعامل بعض المسلمين مع هذه الدقائق بشكل غير إيجابي يثير الكثير من العجب والغرابة، فديننا الحنيف يدعو المسلم إلى استثمار كل ثانية من الحياة بما ينفعه في دينه ودنياه، ففي الحديث عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَه» (سنن الترمذي برقم/2417 وقال: هذا حديث حسن صحيح).
كما أن الأجر والثواب الذي ورد في الأحاديث الصحيحة لكثير من الأذكار ينبغي أن يدفع العاقل من المسلمين ليستثمر هذه الدقائق بتلك الأذكار، فقد ورد في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (صحيح البخاري:3293).
وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (البخاري:6405).
وهناك الكثير من مثل هذه الأحاديث التي فيها من الكنوز والجواهر والأجر الجزيل ما لا يمكن استعراضها جميعًا في هذا المقال.
فهل يمكن لمسلم عاقل بعد ما سبق أن يدع دقائق الانتظار هذه تفوته دون أن يستثمرها بما يزيد من رصيد حسناته في الآخرة، وينمي ذاكرته وعلمه وثقافته في الدنيا؟!
عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: