القرآن هوية المسلمين
سعيد بن محمد الكملي
من ضل الطريق فليتمسك بالقرآن، من غابت عنه المعالم ولم يدري إلى أي شيء يرجع فليرجع إلى المعلم الذي نصبه الله والذي لا يختلف عليه المسلمون، القرآن لا يختلف عليه أحد، وبالأخص المسلم في ديار غير المسلمين، هذا أولى بالرجوع وأحق
الذكر الحكيم
- التصنيفات: القرآن وعلومه - قضايا إسلامية معاصرة - قضايا إسلامية -
هذا الموضوع، كان سبب اختياره ما لاحظته في بعض الأسفار من تذبذب عند المسلمين في هذا العالم الغربي ولاسيما الذين قَدُم عهدهم بوجودهم في هذه الديار فيتذبذبون بين الهويات ولا يجدون لهم معلما يرجعون إليه ليحددوا هويتهم، وهذا المعلم واضح نصبه الله للمسلمين وهو القرآن العظيم، كل من غابت عنه هويته فلينظر إلى كتاب الله يجدها فيه، ولأفرق في هذا بين مسلم مغربي أو جزائري أو ألماني أو فرنسي، كل ذلك لا يضير فالإسلام ليس دينا عربيا، وليس دينا للعرب وهو دين ارتضاه الله للناس عربيهم وعجميهم، لكن الهوية المطلوبة للجميع هي الهوية التي أظهرها الله في القرآن العظيم، قال ربنا: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم" تردد العلماء في تفسير هذه الآية، وأرضى التفاسير عندي هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، أي: فيه شرفكم، {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أي: فيه شرفكم، وقال ربنا سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] لشرف لك ولقومك.
القرآن صنع في العرب مالم يصنعه شيء إطلاقا، روى الدارمي وابن حبان عن عامر بن عبد الحارث أنه لقي عمر، عمر رضي الله عنه أيام خلافته ذهب إلى مكة فلقيه عامل مكة وهو عامر بن عبد الحارث، لقيه بعُسفان، وعسفان هذه قرب مكة، يعني خرج لاستقبال أمير المؤمنين، فلما لقيه عمر قال له: من استخلفت على الناس؟ قال استخلفت عليهم بن أبزع، يعني لا يصلح أن يخرج عامل المدينة ويترك المدينة ليس عليها أحد يتولى أمور الناس، فلما رأى عمر بن الخطاب أن عامله على مكة خرج لاستقباله سأله من ترك في محله إلى حين يعود، فقال له: من استخلفت على الناس؟ قال: استخلفت عليهم بن أبزع، عمر لايعرف شخصا اسمه ابن أبزع، فقال له: ومن ابن أبزع؟ قال: مولى من موالينا، المولى يطلق على معاني في اللغة العربية، من جملة المعاني أن المولى هو غير العربي، ليس بعربي صريح، أو أنه يكون عبد فأعتق، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى من الموالي ـ هذا شيء عجيب أن تستخلف على العرب مولى .
سأذكر لكم هذا لتقفوا على العجب في هذه الحادثة، قال: استخلفت عليهم مولى من الموالي، فقال يا أمير المؤمنين: إنه حامل لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» (صحيح مسلم: 817)، فرفع به مولى حتى أمره على قريش في قعر قريش، في مركز
قريش وهو مكة، لتفهموا هذه القضية ـ أنتم تعلمون أن قريشا هذه قبيلة، لكن لعلكم لا تعلمون أن قريشا في الواقع قبائل، منهم بنو هاشم الذين هم قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم بنو أمية الذين هم قبيلة عثمان بن عفان، ومنهم قبيلة بنو عدي وهم قبيلة عمر بن الخطاب، ومنهم بنو تيم وهم قبيلة أبي بكر، ومنهم مخزوم وهم قبيلة خالد بن الوليد، ومنهم بنو زهرة وهم قبيلة سعد بن أبي وقاص، قبائل.. لكن أشرف هذه القبائل بنو هاشم لأن منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآن قريش لما مات الني صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر وهو تيمي، من بني تيم بن مرة، طبعا قرشي لكنه تيمي، وقريش فيها بنو هاشم، فيها علي بن أبي طالب، لما ولي أبو بكر، أبو قحافة الذي هو والد أبي بكر سأل فلما علم أن الناس استخلفوا أبا بكر قال: ورضيت بذلك بنو هاشم؟، كلهم قرشيون، هل رضيت بنو هاشم أن يليها رجل من بني تيم؟ فاستغرب لذلك، إذن إذا كان يستغرب أن يلي تيمي هاشميا فكيف يُتصور أن يلي غير عربي أصلا قوما من العرب، يكون حاكما عليهم؟ كيف يُتصور هذا؟ كيف تقبله العرب، وكيف تقبله قريش؟ ما لسر في قبوله؟ لا نه القرآن.
العرب كانوا معروفين بالأنفة الشديدة، لا يقرون الضيم أبدا، وتقوم الحروب، كان أحد الملوك العرب واسمه عمرو بن هند، هند أمه وقد نُسب إليها، هذا كان ملكا في الحيرة، وهي مدينة اندثرت الآن وهي قرب الكوفة، وهذه المدينة كان فيها بعض ملوك العرب من أسرة المناذرة، أحد هؤلاء الملوك واسمه عمرو بن هند قال يوما لجلسائه هل تعرفون رجلا تأنف أمه من خدمة أمي؟ أنت ملك وأمك أم الملك.. يسأل: هل تعرفون أن واحدا من العرب تأنف أمه أن تخدم أمي؟ وهو يظن أنه لا أحد من العرب تأنف أمه من خدمة الملك، فقال له جلساؤه نعم، قال: من؟ قالوا: ليلى بنت مهلهل، أم عمرو بن كلثوم، الشاعر المعروف صاحب المعلقات، قال: ولماذا تأنف أمه أن تخدم أمي؟ قالوا: لأن أباه مهلهل بن ربيعة شاعر فارس العرب وشاعر ها معروف، وعمها كليب وائل، أعز العرب، وزوجها كلثوم بن عتاب فارس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد من هو منه، فأرسل عمرو بن هند الملك إلى عمرو بن كلثوم الشاعر واستزاره، يعني طلب أن يزوره، وطلب منه أن يأتي بأمه لتزور أمه، وأتوا بالهدايا، فلبى عمرو بن كلثوم الدعوة. استقبلهم عمرو بن هند ونصب خيمة كبيرة وجاء بوجوه مملكته، وجاء أيضا عمرو بن كلثوم بوجوه قبيلته بني تغلب وجاء معه بأمه، فدخلت أم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل على أم الملك واسمها هند، لماذا كل هذا؟ لتخدم أم الشاعر أم الملك،
فلما جاؤوا معهم بالهدايا قالت هند لليلى: ناوليني يكفي ليقال قد خدمتها أن تناولها شيئا، فقالت هند لليلى ناوليني كذا! فقالت ليلى: صاحبة الشأن تقوم له، فكررت عليها أم الملك الطلب، فلما كررت عليها صاحت ليلى قائلة: واذلاه! فسمعها ابنها وهو في خيمة عمرو بن هند فرفع بصره فإذا سيف معلق في الخيمة فقام إليه فاخترته فقتل الملك، فكان هذا سببا في قتل ملك، ثم قام أصحابه إلى أصحاب الملك فقتلوهم جميعا ثم رجعوا، وفي ذلك يقول في معلقته:
بِأَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرو بْنَ هِنْـدٍ... تُطِيْـعُ بِنَا الوُشَـاةَ وَتَزْدَرِيْنَـا
بِاَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرُو بْنَ هِنْـدٍ... ترى أنا نكون الأرذلينا
بِاَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرُو بْنَ هِنْـدٍ... نَكُـوْنُ لِقَيْلِكُـمْ فِيْهَا قَطِيْنَـا
القيل هو الملك، والقطين هو الخادم
تَهَـدَّدُنَـا وَتُوْعِـدُنَا رُوَيْـداً... مَتَـى كُـنَّا لأُمِّـكَ مَقْتَوِيْنَـا
فَإِنَّ قَنَاتَنَـا يَا عَمْـرُو أَعْيَـتْ... عَلى الأَعْـدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَـا
إِذَا عَضَّ الثَّقَافُ بِهَا اشْمَـأَزَّتْ... وَوَلَّتْـهُ عَشَـوْزَنَةً زَبُـوْنَـا
عَشَـوْزَنَةً إِذَا انْقَلَبَتْ أَرَنَّـتْ... تَشُـجُّ قَفَا المُثَقِّـفِ وَالجَبِيْنَـا
وَرِثْنَـا المَجْدَ قدعَلمت معد... نطاعن دونه حتى يبينـــــا
إلى آخر الأبيات..
فما السبب؟ ... تخيلوا أنتم الآن قوم لا يرضون بأم الملك أن تأمر أمهم يرضون بعد ذلك أن يليهم مولى من الموالي، ما لسبب في هذا؟ القرآن! القرآن يفعل العجب، تعرفون أن حرب البسوس دامت أربعين سنة، يعني من بدأها وكان في عمره ثلاثين عاما هذا يموت ويعقبه ابنه الذي ولد لما بدأت الحرب ويبلغ الابن عشرين سنة ويخوض الحرب أيضا وقد تمتد الحرب ثلاثة أجيال، كم يتفانى فيها من الناس، وهي حرب كان فيها يوم تحلق اللمم ويوم كذا ويوم كذا... ما سبب هذه الحرب؟ ولماذا قامت؟ من أجل قتل ناقة، هل هذا يُتصور؟ ناقة قُتلت يتفانى فيها حيان ـ يعني قبيلتان ـ من قبائل العرب الكبيرة، قبيلة بكر وقبيلة تغلب، وهما في الأصل ابنا عم، خالت جساس بن مرة جاءها رجل
وخالته هي البسوس يضرب بها المثل في الشؤم لأن بسبب تلك الناقة قتل ناس كثير، جاءها إنسان له ناقة ضيفا على القبيلة التي بها جساس بن مرة وهمام بن مرة إلخ..
قبيلة تغلب شيخها مرة وله من الأبناء ابنان مشهوران وهما همام بن مرة وجساس بن مرة وعنده بنت اسمها جليلة، وجليلة هذه تزوجت بسيد بكر وهو كُـليب، لم تعرف العرب شخصا عزيزا مثله، ما سبب عزه وسؤدده؟ أنه انتصر على فارس في حرب سميت يوم ذي قار، كسر شوكة الفرس، قبيلة من العرب تكسر شوكة الفرس! فصار سيدها سيدا للعرب أجمعين، وكليب هذا كان له حمى، مثلا يأتي إلى الأرض فيقول: لا أحد يرعى هنا، فلا أحد يستطيع أن يرعى هناك، لكن جساسا هذا كان صهره، هو أخو زوجته، وجاءهم صاحب الناقة في قبيلتهم، كليب هذا في ذلك الحين كان يسمح لجمال جساس وهمام بالدخول في الحمى لأنهم أصهاره، وفي يوم من الأيام جاء كليب يتفرج في الحمى فنظر فإذا ناقة غريبة عن النوق، لو يعرفها، ناقة من؟ إنها ناقة ذلك للضيف الذي نزل على البسوس، فلما رآها قال: لمن هذه؟ فقيل له: هذه ناقة كيت وكيت نزلت عند البسوس خالة جساس وهمام وجليلة، فقال: لإن عدت أراها لا قتلنها، لماذا؟ لأنه منع دخول أي أحد لذلك المكان بدون إذنه، سمع جساس بذلك فقال: لإن قتلها ليقتلن بها فحل أعظم منها، وكان عند كليب فحل من الإبل يفرح به ومشهور به فظن أن جساسا يقصد ذلك الجمل، وإنما جساس يقصده هو، فلما رأى كليب مرة أخرى الناقة ترتع في الحمى أخذ حربة فرمى بها الناقة فأنفذت ضرعها، وانطلقت وضرعها يشخب دما حتى أتت القبيلة فبركت وماتت، فلما رأتها البسوس قامت تصيح: وا ذلاه! وا كذا! جاري كيف قتلت ناقته؟ فقام جساس وخرج ممتطيا فرسه حاملا رمحه حتى وقف على كليب، كليب يظن أن جساسا يريد قتل الفحل ولم يقع بذنه أصلا أن جساسا يريد قتله هو، لكنه قتله، العرب جميعا لامت جساسا، قالت: لا يقتل ملك بناقة.
جساس فعل فعلته تلك وهرب، مهلهل ـ أخو كليب ـ ومصعب ـ أخو جساس ـ كانا متصادقين متصافين صاحبين تواعدا أن لا يكتم أحدهما الآخر شيئا أبدا، في ذلك الوقت، لما قتل كليب كان مصعب ومهلهل يشربان الخمر، يتنادمان، فجاء الصريخ إلى همام وقال له في أذنه مسرا له: إن أخاك جساسا قتل كليبا، مهلهل رآهما يتساران فقال له: نحن تواعدنا أن لا يكتم أحدنا الآخر شيئا، ماذا قال لك؟ قال: قد أخبرني أن أخي جساسا قتل أخاك كليبا، فقال له مهلهل: است أخيك أضيق
من ذلك، يعني أخوك لا يقدر على فعلة مثل هذه فلم يصدقه، فلما رجع إلى قبيلته وجد أن أخاه فعلا قد قتل، وقال أبياته المشهورة:
يا آل بكر أنشروا لي كليبا *** أحيوا لي كليبا، لا أرضى منكم إلا أن تحيوه.
جاء القوم في الصلح، أتوا إلى مُرة شيخ القبيلة أبي الجميع فقالوا نعرض عليك أربعة خصال أعطنا واحدة منها نرضى وإلا الحرب، قال: ما لخصال الأربعة؟
قالوا: الخصلة الأولى: أن تحيي لنا كليبا، أنتم قتلتموه إذن فأحيوه.
الخصلة الثانية: أن تدفع لنا جساسا نقتله بكليب.
الخصلة الثالثة: أن تدفع لنا هماما فإن فيه كفاءا من كليب.
والخصلة الرابعة: أن تقدم لنا نفسك نقتلك، وإن لم تقبل واحدة من هذه الخصال فهي الحرب.
فقال لهم: أما أن أحيي لكم كليبا فذلك شيء لا أقدر عليه، وأما جساس فشاب طائش فعل فعلة انخلع لها قلبه ففر فلا أدري حيث ذهب، وأما همام فأبو العشرة، وعم العشرة، وخال العشرة ولا يسلمونه إليكم بجريرة غيره، أبناء أخيه عشرة وأبناء أخته عشرة وهو له عشرة أبناء، ثلاثون فردا كيف يسلمون لكم خالهم أو عمهم أو أبوهم لتقتلوه في حادثة لا ذنب له فيها، وأما أنا فشيخ كبير، ماهي إلا أن تدور رحى الحرب فأكون أول صريع، فعلى ما أتعجل الموت لنفسي؟ فانصرفوا على أنها الحرب.
الشاهد أن هذه الحرب مازالت فيها قصص عجيبة، وجليلة طردوها وقالت كلمات وقالت أبياتا مؤثرة جدا لكن نطويها.. الشاهد أن هذين الحيين تفانيا في تلك الحرب من أجل ناقة، نحن نقول من أجل ناقة ولكن في الواقع هي من أجل جار أخفر، عز ذهب، هذه هي العقلية العربية.
هذه العقلية العربية تقبل أن يولى عليه مولى يأمرها ويتحكم فيها؟ هذه العقلية العربية التي يقول دريد بن الصمة مخبرا عن قومه، وكان شاعرا وفارسا أدرك الإسلام وأدرك وقعة حنين ولكنه مات مشركا ولم يسلم. دريد بن الصمة هذا يأمر قومه بأمر، ويرى أن ذلك الأمر الذي يأمر به قومه هو الرشاد، وأن ذلك الأمر الذي يريد أن يفعله قومه هو الغي ولن يطيعوه وحيث لن يطيعوه تبعهم هو، لماذا تبعهم على غيهم؟ ليبقوا متحدين، يقول:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم.... يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلمَّــا عصَوني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى.... غـــــوايتَهُـمْ وأنَّني غيـــرُ مُهتَـــدِ
ومَـــا أنَا إلا مـــن غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ.... غـــــويْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَـةُ أرشُدِ
أنا منهم إن غووا غويت وإن رشدوا أرشد.
هؤلاء الناس الذين كانت لديهم هذه العصبية وهذا التلاحم على الشر وعلى الخير يصير عندهم الأبعد الموافق في الدين أقرب من القريب المخالف في الدين، هذا لا يتصور عند العرب.. أنت أخي الذي ولدته أمي ولكنك لم تسلم، وهذا رجل أجنبي لا علاقة لي به ومسلم، هذا أقرب لي من ذاك الذي ولدته أمي. بأي شيء هذا؟ بالقرآن! القرآن هو الذي صنع هذه العجائب.
ومن أراد أن يعرف ما صنعه القرآن في العرب لينظر سير العرب، لينظر تاريخ العرب، لينظر أيام العرب، ثم ينظر بعد ذلك كيف صار العرب. هل يُـتصور أن امرأة كان يمكن أن ترد على سيد القوم؟ هل كان هذا يتصور في الجاهلية؟ أن امرأة ترد على سيد القوم.. كيف تقول امرأة لعمر لما وقف في المنبر وقال القضية المشهورة: أرى أنكم تتغالون في المهور، قللوا... فقامت امرأة من أواخر الناس فقالت: سبحان الله يا عمر، يعطينا الله وتمنعنا أنت، قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}. [النساء: 20] الله يقول: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وأنت تقول: قللوا. فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، هذه القصة المحدثون يضعفون إسنادها ولكن هي مشهورة عند أهل السير. يعني كيف يتصور وجود هذه الجرأة.
أقول لكم أن كليبا كان عزيزا بحيث يقول: إلى حيث يعوي الكلب فهذا حماه لا يقربه أحد، الماء ـ في النهر أو البئر، لا يقربه أحد ولو ماتوا عطشا.. ابن رشد في البيان والتحصيل يذكر قصة غريبة: أن عمرا رضي الله عنه كان مضطجعا في ظل شجرة فأتته امرأة من القبائل البعيدة عن مركز الخلافة، وهؤلاء البعداء كانوا لا يعرفون صورة عمر، يسمعون به لكنهم لا يعرفونه فلما رأته مضطجعا جاءته فضربته برجلها في رجله توقظه، فلما استيقظ قالت له: يا هذا إن أمير المؤمنين بعث في العام الماضي أولئك الذين يجمعون الزكاة ويفرقونها، وقد بعث فلانا وجمع زكاة ولم يعطنا، وأخشى أن يبعثه مرة أخرى هذا العام ولا يعطيني أنا وأبنائي، وقد توسمت فيك الخير فاذهب معي تتوسط لي عند ذلك العامل على الزكاة، فقام عمر ونادى خادمه يرفأ فقال ادعو لي فلانا، وهي تقول له: دعنا نحن نذهب عنده (هي ترى أنه من الصواب أن يذهبوا هم عند عامل الزكاة)، فيقول لها: يا أمة الله إذا لم يرد أن يأتي حينها سنذهب إليه، فذهب يرفأ حتى وقف على عامل الزكاة فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال عامل الزكاة: والله ما دعاني في هذه الساعة إلا لأمر سوء، وشرع يسأل: من معه؟ هل رأيت نعه أحدا؟ وهل قال له أحد شيئا عني؟ وهل تعرف لماذا دعاني؟... قال: رأيت عنده امرأة.. فلما حضر شرع عمر يوبخه: إنا كنا كذا، وأرسلت كذا.. فلما سمعت المرأة هذا تفطنت إلى أن الذي حدثها، والذي ضربت رجله وأيقظته من نومه هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فأوصاه وأمر لها بشيء معجل من دقيق وغيره.
ما لذي فعل في الناس هذه الأفاعي؟ هو القرآن الكريم.
القرآن كانت تتأثر به العجماوات فضلا عن الأناسي ذوي الشعور، تعرفون الحديث الذي رواه الشيخان عن أسيد بن حضير أنه كان يقرأ القرآن في ليلة من الليالي وبجانبه ابنه الصغير وبجانب ابنه فرس له، وهو يقرأ جفل الفرس فسكت فسكنت الفرس، فقرأ فاضطربت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فاضطربت فسكت وقام عن القراءة خوفا أن تضرب الفرس ابنه الصغير، ولما رفع بصره إذا بمصابيح يراها معلقة في الهواء، فلما كان من الغد ذهب وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إقرأ يابن حضير، إقرأ» كأنه يحضه على عدم ترك القراءة وقال له صلى الله عليه وسلم: «أعرفت ما ذاك؟ تلك الملائكة، تلك السكينة تنزلت لقراءتك» (صحيح مسلم: 796)، بل قد أخبرنا الله أن الجمادات تتأثر لهذا القرآن {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
إذن حينئذ لا يستغرب أن يفعل القرآن في العرب الذين ذكرت لكم بعض أوضاعهم وأحوالهم ـلا يستغرب أن يصنع فيهم ما صنع، لذلك أقول، كما قال الإمام مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها).
المعلم للمسلم في أصقاع الأرض كلها هو القرآن، والمغاربة عندهم مثل يقول: (من ضل الطريق فليتمسك بالأرض). نحن نقول: من ضل الطريق فليتمسك بالقرآن، من غابت عنه المعالم ولم يدري إلى أي شيء يرجع فليرجع إلى المعلم الذي نصبه الله والذي لا يختلف عليه المسلمون، القرآن لا يختلف عليه أحد، وبالأخص المسلم في ديار غير المسلمين، هذا أولى بالرجوع وأحق، والله عز وجل قد بين لنا المعالم: كيف تكون؟ كيف تصنع؟ ما أخلاقك؟ ما أحوالك؟ ما عباءتك؟ ما أفعالك؟ كل شيء مذكور في القرآن، نحن في خطبة الجمعة ذكرنا عباد الرحمن، ماذا تركت هذه الآية لقائل ما يقول؟ تريد السلوك في زمرة العباد؟ وهذه الزمرة التي تنتهي إلى رضوان الله {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75] أولئك اسم إشارة، واسم الإشارة للجمع، فاسم الإشارة للمفرد "هذا" وللجمع "هؤلاء" ولكن عندنا اسم شارة آخر للجمع وهو "أولئك"، ما لفرق بين هؤلاء وأولئك؟
"هؤلاء" للجمع القريب، و"أولئك" للجمع البعيد، أنا إذا أردت أن أحدث عنكم أقول: هؤلاء جالسون، العربي إذا سمعني أقول: "هؤلاء" يفهم أن هؤلاء المشار إليهم قريبون مني، ولكن إذا أردت أن أحدث عن البعيدين مني، ماذا أقول؟ "أولئك" لأنهم بعيدون وليسوا بقريبين.
كيف يقول الله عز وجل: { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75]؟ لأن المرتبة مرتبة عالية بعيدة لا يصلح لها إلا اسم الإشارة الذي يدل على البعد، هؤلاء لم يعودوا قريبين، علوا في مراتب رضوان الله تعالى، هذا المعلم.
المسلم في كل وقت وفي كل أرض، وخاصة في الديار الغربية عليه أن يسأل نفسه: ما لمراد؟ هل المراد أن يقول فيك فلان وعلان أنت رجل صالح، أم المراد أن تكون عند الله رجلا صالحا؟ هذا هو المراد، أن تذكر عند الله من الصالحين، إذا كان هذا هو المراد أنت تغيب عن الناس.
هناك أبيات تنسب إلى رابعة العدوية الصوفية المشهورة، هذه الأبيات عجينة جدا العلماء اختلفوا هل وجدت رابعة العدوية أم أنها أسطورة من الأساطير، الذهبي ذكر لها ترجمة صغيرة في سير أعلام النبلاء، على كل حال غرضنا من تلك الأبيات تقول فيما نسب إليها مخاطبة الله تعالى:
فليـتك تحلو والحيـاة مـريـــــرة وليـتك ترضـى والأنـام غضـاب
وليـت الذي بيـني وبينـك عامر وبـيني وبيـن العــالمين خـراب
إذ اصح منك الود فالكل هيــــن وكـل الذي فوق الـتراب تـــراب
الغرض أن تذكر عند الله من الصالحين، والله عز وجل يخبرك بالطريق التي بها تذكر عنده من الصالحين (وعباد الرحمن).
الله عز وجل قال: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] وهل تعرفون معنى (أفلحوا)العرب كانت تستعمل هذه الكلمات في الجاهلية
فاعقلـي إن كنـت لمــا تعقلــي ولقـد أفلــح مــن كـان عقـلْ
لـو أن حيــا مــدرك الفــــــــلاح لنالــه ملاعـــب الـرمـــــــاح
الفلاح في اللغة العربية هو الفوز بالمطلوب الأكبر، هذا هو الفلاح (قد أفلح المؤمنون) فازوا بمطلبهم الأكبر، وما هو مطلبهم الأكبر؟ دخول الجنة.
لما قال ربنا {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] لم يتركنا هملا، نتساءل كيف هم هؤلاء المؤمنون.. كأن سائلا سأل: يأرب صفهم لنا، ما صفتهم؟ { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11:2 ] ، ورثوا الفردوس: أي أفلحوا، نالوا مطلبهم الأكبر.
إذن فيما الحيرة؟ فيما التردد؟ فيما البحث هنا وهناك؟ ها هو القرآن قد وضح لنا، هل إذا تجلى في العبد ما ذكره له ربه في هذه الآيات ألا يفلح؟ بلا يفلح، قطعا يفلح، لأن ربنا لا يخلف الميعاد أبدا،
ربنا إذا وعد لا يخلف الوعد. قد قال ربنا إن هؤلاء أفلحوا فكل من تجلت فيه تلك الصفات المذكورة فقد أفلح لا شك. إذن المَعلـَم هو القرآن لذلك أنا قلت إن القرآن هو هوية المسلمين، لا تبحث لك على هوية أخرى، طبعا هذا الحديث عن الهوية الدينية، الهوية المدنية كن ما شئت، كن ألمانيا أو مغربيا.. لأفضل لمغربي على ألماني ولا لجزائري على تونسي ولا لأفغاني على أمريكي، إلا بالتقوى، صهيب رومي، هل تحول إلى عربي عندما أسلم؟ هل قال أنا صهيب المكي؟ أنا صهيب العربي؟ قال: أنا صهيب الرومي، ولكن الرومي المسلم، هذه هي الهوية، هوية المسلمين القرآن، حيثما كانوا تساووا هنا، والهوية المدنية أنتم وشأنكم معها.
(قد أفلح المؤمنون) قال ربنا في موضع آخر: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * ِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22:19] ولكن من هو المصلي في الاصطلاح القرآني؟ من هو المصلي في القرآن العظيم؟ كيف هم يربي هؤلاء المصلون؟ { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 28:23 ] إلى آخر الصفات التي ذكرها ربنا سبحانه.
اللبيب العاقل ماذا يفعل؟
ينظر في القرآن، يبحث عن صفات المرضيين عند الله فيحاول قدر استطاعته أن يأتي بها، يحاول قد استطاعته أن يـُنشأ بنيه عليها، كنا في فرنسا قبل أيام، الناس هناك تشفق على أبنائها أكثر من شفقتها على نفسها يطلب منك الدعاء لبنيه أكثر مما يطلبه لنفسه، لماذا؟ خوفا على هؤلاء الولدان من أن تجرهم الواردات والصادرات والوافدات... فأقول لك ما ينفعك عباء الداعين إذا كان الخير مبذولا لك وأنت تنبذه، لا أقول لك تنبذه عمدا، تنبذه مراغمة له، ولكن تنبذه رغما عنه، وهل يـُغفل عن مثل هذا؟ أقول لهم: كل شيء لا يجعل القرآن له أساسا فهو شيء مخذول، فهو شيء منزوع البركة، لا يتصور به فائدة، ما أردت أن أحدثكم به في هذه الكلمة هو أن المرجع هو ما نصبه الله للعباد.
من أراد أن يـُذكر عند الله من الفائزين، من المفلحين، من عباد الرحمن، فالله تعالى من رحمته، بل من رحمانيته أن بذل ذلك ولم يتركه لتأويل المتأولين ولا لظنون الظانين، فنسأل الله أن يوفقنا لسلوك زمرة عباده المفلحين، وعباده المرحومين وشكرا لكم لحسن استماعكم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين