وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
ملفات متنوعة
وقد يتساءل بعض الناس: ألم يكن هنالك من يكفي رسولَ الله - صلى الله
عليه وسلم - هذا الأمر حتى يتفرغ لما هو أهم من أمور الأمة، وإكراماً
له أن ينالَه من هذا العمل وَسَخُ اليدين وتغير رائحتها فضلاً عن
التعب والنصب في أمر يستطيعه أي فرد من عموم المسلمين؟
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
قال البخاري - رحمه الله - في صحيحة: باب وَسْمِ الإمام إبل الصدقة
بيده. حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو الأوزاعي
حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك - رضي الله
عنه - قال: « غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه، فوافيته في يده الـمِيسَم يَسِمُ إبل
الصدقة».
إنه مشهدٌ مَنْ أعطاه حقَّه من التأمل امتلأ قلبه بسيل من المعاني
العظيمة واهتزت نفسه تأثراً وإعجاباً.
إن هذا الحديث حين قرأته لأول مرة سرت في جسدي رِعشَة وانتابتني
ألوان من المشاعر وفيوض من العاطفة جعلتني أقول: (بأبي أنت وأمي يا
رسول الله!)، أين القادة والعلماء والمشايخ والمفكرون وكل الموجهين
ليروا ماذا يصنع نبي الأمة وقائدها ومربيها؟ يجلس بين الإبل ويمسك
بيده الـمِيْسَم ليختم به إبل الصدقة، أين هم ليتعلموا ويدركوا من ذلك
أعظم المعاني ويربوا أنفسهم بهديه - صلى الله عليه وسلم -؟
والمِيسَم بكسر الميم وفتح السين: (هي الحديدة التي يوسم بها؛ أي
يعلَّم، وهو نظير الخاتم.
والحكمة فيه تمييزها، وليردَّها من أخذها ومن التقطها، وليعرفها
صاحبها؛ فلا يشتريها إذا تصدَّق بها - مثلاً - لئلا يعود في صدقته) ا.
هـ[1].
وقد يتساءل بعض الناس: ألم يكن هنالك من يكفي رسولَ الله - صلى الله
عليه وسلم - هذا الأمر حتى يتفرغ لما هو أهم من أمور الأمة، وإكراماً
له أن ينالَه من هذا العمل وَسَخُ اليدين وتغير رائحتها فضلاً عن
التعب والنصب في أمر يستطيعه أي فرد من عموم المسلمين؟
كلا فذلك منطق من ابتلوا بكثافة الطبع، وانشغلوا بحفظ الناموس،
وبعضهم الموت أهون عليه من أن يُرَى وهو يزاول مثل تلك الأعمال
البعيدة عمَّا ينبغي أن ينشغل به العباقرة وأصحاب الثقافة العالية
(الحضارية)، أو تلك التي ينبغي أن يترفع عنها أهل العلم والفضل الذين
يجب أن يكونوا بمنأىً عن ممارسة أي عمل من أعمال المهنة كذلك
العمل.
أما من رزقهم الله حياة القلب وصفاء النفس فإنهم يجدون في ذلك من
اللذة ومعاني العبودية وصلاح القلب ما لا يدركه أولئك المصونون، أو
الذين يصونون أنفسهم عن ذلك؛ وهم على مكاتبهم، أو في قصورهم، أو على
مِنَصَّة التوجيه.
إن إبل الصدقة هي الزكاة المأخوذة من أصحاب الإبل. والزكاة هي الركن
الثالث من أركان الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائر الدين.
والاهتمام بالزكاة والمحافظة عليها أكثر من المال الشخصي إنما يصدر
عن تعظيم أمر الله - عز وجل - وذلك من تقوى القلوب: {
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا
مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:
23].
ثم إن ممارسة هذا العمل (أعني: وَسْمَ الإبل) من نبيِّ هذه الأمة
وقائدها إنما يدل على التواضع والبساطة وعدم التكلف، ويمثل عملية
تربوية للأتباع والمتبوعين.
قال المهلب وغيره تعليقاً على هذا الحديث: (وفيه اعتناء الإمام
بأموال الصدقة وتولِّيها بنفسه، ويلتحق به جميع أمور المسلمين)[2]،
وقال ابن حجر - رحمه الله -: (وفيه مباشرة أعمال المهنة، وتَرْكُ
الاستنابة فيها للرغبة في زيادة الأجرة ونفي الكبر) ا. هـ[3].
ومن المؤسف أن كثيراً من القربات وأعمال الطاعات عزف عنها كثير من
الخاصة وأهل الفضل، ورأوا أنها لا تناسبهم، حتى الأذان والإمامة صار
ذلك مما يوكل لبعض الضعفاء الذين ينظر إليهم أهل المسجد نظرتهم إلى
الخادم المستأجَر للقيام ببعض الأعمال، ولا يعطونه حقه من التقدير
كبراً أو استخفافاً؛ على خلاف ما جعله الشارع لإمام الصلاة من المرتبة
العالية، حتى إن الصحابة استدلوا على خلافة الصديق بأن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - رضيه إماماً لهم في الصلاة.
ومرتبة الإمام أن يأمر وينهى ويعلِّم أهل المسجد لا أن يكون هو
المؤتمِر بأمرهم، المشفق من التفوه بكلمة في حضورهم.
وإذا أردنا أن ننتقل من التعليق على ذلك المشهد إلى مشهد آخر من
مشاهده - صلى الله عليه وسلم - التي يعظِّم فيها شعائر الله فإننا
سنجد البخاري - رحمه الله - يذكر لنا أيضاً في صحيحة هذا الباب في
كتاب الحج فيقول: باب من نحر هديه بيده. حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب
عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس، وذكر الحديث. قال: «
ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده سبع
بُدْنٍ قياماً، وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين
»[4].
وهذا أيضاً مشهد له دلالته؛ وهي حرصه - صلى الله عليه وسلم - على
ممارسة الشعائر بيده ولو كانت نحراً وذبحاً؛ وذلك من الاهتمام بشعائر
الله وتعظيمها. قال - تعالى -: {
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا
لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
} [الحج: 63]، وقد كان - صلى الله
عليه وسلم - أرصد للهدي مائة بدنة كما في حديث علي - رضي الله عنه -
عند البخاري أيضاً[5].
ولم تكن البُدْن التي ذبحها - صلى الله عليه وسلم - بيده سبعاً فقط،
بل هي بعض ما ذبحه؛ ففي صحيح مسلم في حديث جابر الطويل: «
ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في
هديه، ثم أمر من كل بَدَنَة ببِضْعَة فجُعِلَت في قِدْرٍ فطبخت، فأكلا
من لحمها وشربا من مرقها
»[6].
فإذا ما تركنا مشهد نحر البُدْن وانتقلنا إلى بناء مسجده - صلى الله
عليه وسلم - فإننا سنجد ذلك المشهد في ما رواه البخاري عن أنس - رضي
الله عنه - قال: «فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور
المشركين فنبشت، ثم بالخِرَب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة
المسجد، وجعلوا عِضَادَتَيْه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخـر وهم
يرتجـزون، والنبـي - صلى الله عليه وسلم - معهـم وهو يقول: «اللهم لا
خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
»[7].
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وهو يذكر بناء
المسجد قال: «كنا نحمل لَبِنَة لَبِنَة وعمَّار يحمل
لبِنَتين لبِنَتين. فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينفض التراب
عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه
إلى النار. قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن
»[8].
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بعيداً عن الأحجار والصخور
والأتربة وما إلى ذلك مما يكون في البناء؛ فعمله بيده - صلى الله عليه
وسلم - ووجوده مع أصحابه في بناء المسجد لهُوَ أيضاً من تعظيم شعائر
الله مع ما فيه كذلك من مخالطة القائد للرعية في أمور المهنة والأعمال
اليدوية، وإكرامهم والإحسان إليهم، ومشاركتهم في إنشادهم أو ارتجازهم
في بساطة وحنوٍّ...وتأمَّل أخي القارئ تلك المسحة الحانية للتراب عن
عمار - رضي الله عنه - ليزيل عنه غبار اللَّبِن الذي ينقله.
وختاماً هذا مشهد آخر في شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام هي ذروة
سَنامه؛ ألا وهي الجهاد، وهو مشهد قريب في طبيعته ومعناه، بل بعض
عباراته من مشهد مشاركته - صلى الله عليه وسلم - في بناء المسجد؛ فقد
روى البخاري في صحيحه عن البراء - رضي الله عنه - قال: «
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم
الأحزاب ينقل التراب وقد وارى التراب بياض إبطيه وهو يقول: لولا أنت
ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل السكينة علينا، وثبت الأقدام
إن لاقينا، إن الأُلَى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا
»[9] وفي حديث أنس - رضي الله عنه
-: «فلما رأى ما بهم من النَّصَب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة! فقالوا مجيبين
له: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
[10]».
تأمَّل - أخي القارئ - كيف اختلف سمتنا وسلوكنا عن سمته - صلى الله
عليه وسلم - وسلوكه؟ من أين أتينا بذلك الترفع والانقباض إذا ما
أكرمنا الله بعلم أو إمامة للناس أو نحو ذلك من مناصب القيادة
والتوجيه؛ حتى صار ارتجاز الشيخ أو المعلم مع عموم المسلمين الصالحين
أثناء عمل شاق كهـــذا - فضلاً عن المشاركة فيــه ومعــالجة التـــراب
والصخــر ونقــل الحجارة - أمــرٌ دونه خط القتـاد حتى ولو كان ذلك في
إقامة شعيرة من شعائر الله؟
نسأل الله التواضع والسلامة من مكائد إبليس ومصائده. وإلى هؤلاء نسوق
هذا الكلام لابن القيم - رحمه الله - وبه نختم موضوعنا. يقول - رحمه
الله -: (ومن مكايده (أي الشيطان) أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث
يكون رضا الرب - تعالى - في إذلالها وابتذالها، ويأمرك بإذلالها
وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها. كما يأمرك بالتبذل
لذوي الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تُعزُّها بهم.
ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد، أو رباط، أو
زاوية، أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجت
تبذَّلت للناس، وسقطتَ من أعينهم، وذهبتْ هيبتك من قلوبهم، وربما ترى
في طريقك منكراً، وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه: منها الكِبْر،
واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة. ومخالطة الناس تُذهِبُ
ذلك، وهو يريد أن يُــزَار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح
بمجيء الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من
الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله، ويتعوض عنه بما يقرب
الناس إليه.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى السوق؛ قال بعض الحفاظ:
«وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه» ذكره أبو الفرج ابن الجوزي
وغيره.
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع
ويشتري.
ومرَّ عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وعلى رأسه حُزْمَة حطب،
فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله، - عز وجل -؟ فقال: أردت أن
أدفع به الكِبْر؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «
لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من
الكبر». رواه الحاكم في المستدرك
وصححه والطبراني في المعجم الكبير وأصل الحديث في صحيح مسلم.
وكان أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - يحمل الحطب وغيرَه من حوائج
نفسه وهو أمير على المدينة، ويقول: «أفسحوا لأميركم، أفسحوا
لأميركم».
وخرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً وهو خليفة في حاجة له
ماشياً، فأعيى، فرأى غلاماً على حمار له، فقال: يا غلام احملني؛ فقد
أعييت! فنزل الغلام عن الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، فقال:
لا، اركب أنت وأنا خلفك، فركب خلف الغلام، حتى دخل المدينة والناس
يرونه.
ومن كيده: أنه يغري الناس بتقبيل يده، والتمسح به، والثناء عليه،
وسؤاله الدعاء، ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنها؛ فلو قيل له:
إنك من أوتاد الأرض، وبك يُدفَع البلاء عن الخلق، ظن ذلك حقاً، وربما
قيل له: إنه يُتَوسَّل به إلى الله - تعالى - ويُسأَل الله - تعالى -
به وبحرمته، فيقضي حاجتهم، فيقع ذلك في قلبه ويفرح به ويظنه حقاً،
وذلك كلُّ الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافياً عنه، أو قلة خضوع
له، تذمر لذلك ووجد في باطنه، وهذا شرٌّ من أرباب الكـــبائر
المصرِّين عليها، وهم أقرب إلى السلامة منه) ا. هـ. باختصار
يسير.
اللهم اجعلنا معظِّمين لشعائرك، مبادرين إلى القربات والطاعات، لا
يصدنا عن ذلك تكلُّف ولا كبر، آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________
[1] فتح الباري: 3 /429، ح 1502.
[2] الفتح: 3/430.
[3] الفتح: 3/430.
[4] الفتح: 3/464، ح: 1712.
[5] حديث رقم: 1718.
[6] الفتح: 3/649.
[7] الفتح: 1/624.
[8] الفتح: 1/644، ح 447.
[9] الفتح: 6/55، ح 2837.
[10] الفتح:6/54، ح 2834.