الثورة بين الفاعل والمستفيد
محمد جلال القصاص
هناك من يصنع الحدث ، وهناك من يركبه ويستفيد منه. وهؤلاء غيرُ ألئك .
فالشخصية التي تثور وتُغَيِّر تختلف عن الشخصية التي تسوس الناس. ولذا
يستقر الأمر في الغالب لغير الذين جاهدوا وصبروا..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله
وصحبه ومن أحبه واتبع هديه:ـ
هناك من يصنع الحدث ، وهناك من يركبه ويستفيد منه. وهؤلاء غيرُ ألئك
. فالشخصية التي تثور وتُغَيِّر تختلف عن الشخصية التي تسوس الناس.
ولذا يستقر الأمر في الغالب لغير الذين جاهدوا وصبروا، والسبب ـ فيما
يبدو لي ـ اختلافُ طبيعة الأشخاص في كل مرحلة، فبعد نجاح الثورة يبطل
مفعول أولئك الذين يحسنون التخطيط، والترتيب، والعمل الفردي السري،
ويأتي دور أولئك الذين يحسنون قيادة الناس ورعايتهم، أو التسلط عليهم
وظلمَهم . فلكل مرحلة من يحسنها.
ولذا على "صنَّاع الحدث" أن لا يخرجوا من إطارهم، وأن يحافظوا على
قدرتهم في صناعة الحدث لضبط مَن يؤول الأمر إليهم إن هم خرجوا عن
الأطر العامة التي ثاروا من أجلها. فعلى مَن أشعل هذه الثورة أن يرجع
ويعزز قدراته على تثوير الناس بتعليمهم ما ينبغي عليهم أن يطلبوه
ويثوروا إن لم يجدوه، فإن يقظة الناس ضمان لاستمرار "الساسة" على ما
يرغبون وعون لهم أيضاً، وعلى هؤلاء أن لا يبتذلوا هذا السلاح الفعَّال
بالتنادي للتجمهر كلما وجد أحدهم ما يكره.
والثورة المصرية ليست حدثاً منفرداً، ولا حدثاً مستقلاً ، لا على
مستوى المكان ولا على مستوى الزمان.هي جزء من حراكٍ شاملٍ أو عملٍ
"كبير" ضمن آلية تعمل من قرابة قرنين . وهي آلية "الفوضى الخلاقة"،
فقد شهد التاريخ المعاصر أربع دورات في كل دورة يتم إشاعة "الفوضى
الفكرية"، ثم تثوير الناس ، ثم ركوب هذه الثورة لإحداث تغيرات في واقع
الناس قد لا تتفق مع ما ثاروا عليه. وقد أفضت الدورات الثلاث الماضيات
إلى إبعاد الأمة عن دور الريادة للأمم وعن عداوة الغرب أو
منافسته!!
الدورة الأولى كانت بإشاعة الفوضى عن طريق جمال الدين الأفغاني
ومخرجات البعثات العلمية لأوروبا، وتم تثوير الطبقة المتوسطة وفوق
المتوسطة والعامة فيما عرف بالثورة العرابية،وتم ركوب الثورة لاحتلال
البلاد وكبت الحريات ومصادرة غير قليل مما تم إنجازه من نهضة تقنية في
عهد محمد علي .
والدورة الثانية كانت بإشاعة الفوضى على يد المندوب السامي البريطاني
اللورد كرومر ، وجورست ، وكتشنر، وتم تثوير الطبقة المتوسطة وفوق
المتوسطة ثم العامة فيما عرف بثورة 1919م ، وتم ركوب الحدث لشرعنة بعض
المنكرات الشرعية( ما يعرف بقضايا المرأة على سبيل المثال)، وقضم غير
قليل من صلاحيات الملك.
والدورة الثالثة كانت في إشاعة الفوضى بنشر الفكر الغربي بأسماء
إسلامية ، طه حسين، وعلي عبد الرازق، وعباس العقاد،وتم تثوير الناس
فيما عرف بثورة يوليو، وركوبوا الحدث لإدخال البلاد في دوامة ذهبت
بأحلام الشعوب وأقامت السدود ووضعت الأشواك في طريق المد الإسلامي
المتصاعد، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية كلها تريد الخلافة الإسلامية
من جديد، وتجاهد عدوها في فلسطين وليبيا، والمغرب ، والجزائر،
والأفغان، وغيرهم، أخذوها لطرق ملتوية لم تصل من خلالها لا لوحدة
قومية ولا لوحدة إسلامية.
واليوم لا يمكن لعاقل أن يقول أن الأحداث بلا فاعل، ولا أن آلية
البغيض التي تعمل منذ قرون"الفوضى الخلاقة" لم تكن تعمل، بل كانت
"الفوضى الخلاقة" تعمل بكلتا يديها، إذ قد سمح للكل أن يتكلم، وعاش
الناس في حالة من الفوضى الفكرية في شتى المجالات .. الدينية ..
والاجتماعية .. والأخلاقية.. وكل شيء، فلا تجد متحدثاً إلا وله في ذات
المكان من يتلو على ذات المستمعين عكس كلامه، وثار الناس على الظلم
والطغيان. وجاء لصوص الثمرة ليركبوا الحدث ويسيروا بالأمة إلى حيث
يريدون. فهل يستطيعون؟!!
لست هنا للتهوين من أمر الثورة والتقليل من دور صُنَّاعها، ولست هنا
لتخويف الناس من "ركَّاب الحدث" والقول بأننا على خطى
الأقدمين،جمَّعنا غيرُنا، وسيسير بنا إلى حيث يريد لا إلى حيث نريد،
فعدونا ليس على كل شيء قدير، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. أبداً.
أمسكتُ قلمي لشيءٍ آخر ... لأقول:
ـ لابد للناس من "سراة" .. خيار كرام .. نخبة .. كوادر مخلصة ..
يرجعون إليهم في الملمات، حتى نقضي على هذه "الفوضى"، أو على من تنبت
في رأسه فكرة أن لا يتعجل بإظهارها والحديث عنها، وأن يتأنى حتى يراجع
أهل العلم والخبرة.
ـ على "صناع الحدث" أن يرجعوا إلى ما يحسنون،ويعززوا إمكاناتهم
ليكونوا ضمانه لئلا يعود الظلم والاستبداد مرة ثانية، ودعامة لهؤلاء
الذين يحسنون سياسة الناس أن لا يحيدوا عن أهداف الثورة ويستبدوا كما
الذين من قبلهم . لا داعي لمنازعة الناس ممن آل الأمر إليهم، وخاصة
أنهم يحسنون صنعاً، وعلينا أن نرجع لما نحسن ، ونبقى خلفهم متكتلين
ندعم المحسنين ونأخذ على يد المسيئين، بأدب وحسن خلق .
ـ المنافقون والكذبة وأصحاب المنافع الشخصية الرخيصة كثر، فبعضهم
يتكئ على طول عمره، وعلى انتشار اسمه، ويبحث عن جماهير بتعاطي الشاذ
والغريب، يخوف الناس بأنهم يُخدعون، وأن "القديم" لازال يدبر
الأمر.!!
وهو نوع ارتزاق بالكلام .. حرص على التقافز في أعين الناس، وإضاعة
أوقاتهم وجهدهم، وإن كان بالغريب وغير المفيد.فعلى الجادين أن ينصرفوا
عن هذا ويتركوه للمقعدين من النساء والصبية يتسلون به.
ـ وفي المشهد مستنقعات آسنة وكهوف مظلمة، يجلس فيها "هدَّامون"
مُخرِّبون" نبت جلدهم من "الأموال الطائفية"، وهي أموال سحت، وهؤلاء
"المخربون" في الساحة الفكرية يفتعلون المعارك الجانبية، ويحرضون على
عباد الله، لتشتعل الحرب الفكرية وتنتشر الأمراض الأخلاقية، وينشغل
الجادون، فيجد هؤلاء مكاناً عفناً يليق بهم فيجلسون ويتمرغون في
مراحيض فكرية نتنة.
ولا يحل لذي عقلٍ ودين أن يسكت عن هؤلاء ، فهم من فلول المفسدين، ولو
تركوا لأفسدوا. فآن لنا أن نحيط بهم، ونأخذ على أيديهم. بحوارٍ متمدن
حقيقة لا إدعاءً ، فلابد من معركة فكرية إعلامية مع هؤلاء حتى يتم
كشفهم.
إن الأمل يضي الأفق أمام عيني، كأني في صباحٍ مشرق.. الليل خلف ظهري
، والضياء يحيط بي، على أني أخاف من الطامعين، والحقدة المتربصين،
والغافلين الذين يحسبون أنهم وحدهم في الميدان فيريدونها على هواهم
وحدهم .. الذين حسبوا أننا انتهينا والحق أننا بدأنا .. تحررنا
لنعمل.
محمد جلال القصاص
صباح الأربعاء
20/03/1432 هـ
23 /2/ 2011 م