حديث عن المستقبل

منذ 2011-03-09

تتسارع الأحداث العالمية في كل يوم، فلا أحد كان يتوقع ما يجري من أحداث في تونس ومصر وقبل هذا لم يتوقع أحد سقوط الإتحاد السوفييتي بهذه السرعة، ولم تطل مدة زهو الغرب بانتصار الليبرالية والرأسمالية...



تتسارع الأحداث العالمية في كل يوم، فلا أحد كان يتوقع ما يجري من أحداث في تونس ومصر وقبل هذا لم يتوقع أحد سقوط الإتحاد السوفييتي بهذه السرعة، ولم تطل مدة زهو الغرب بانتصار الليبرالية والرأسمالية، فما لبث صاحب كتاب (نهاية التاريخ) أن تراجع عن هذه الفكرة، ونهاية التاريخ عنده هو استقرار الليبرالية الغربية وأنه لا مرد لها، وسرعان ما أدى اقتصاد (السوق) إلى نتائج غير متوقعة، وبدأت الكوارث الاقتصادية في أوروبا قبل غيرها (اليونان، إيرلندا والبرتغال...) وبعد ثورة المعلومات والاتصالات هل يمكننا التحدث عن المستقبل؟


إن أصحاب الدراسات المستقبلية يتكلمون بحذر عندما يطرقون هذا الموضوع، وكانوا في السابق أصحاب جرأة ويتحدثون عن المستقبل البعيد، يقول الخبير العالمي (جون نايسبت): "لا أعتقد أن أي شخص يمكن أن يعرف بالتفصيل ما سوف يحدث بعد خمس سنوات من الآن، إن ذلك يعتمد إلى حد كبير على ما سوف يحدث اليوم، ثم في السنة التي تليها، ثم التي تليها، ويتشكل كل ذلك بملايين المتغيرات" ورغم هذا الحذر في الحديث عن المستقبل، ورغم واقع المسلمين الضعيف إلا أنه لا بد من التطرق إلى هذا الموضوع، فهناك فرص كثيرة للذين يفكرون أن في استطاعتهم إحداث تغييرات لمصلحة الأمة ثم إن هذا الحديث مما يساعد على بناء الحاضر، وهو من باب الإعداد والتخطيط، وليس من باب الرجم بالغيب، فالمستقبل يعني عدم الإذعان للواقع المرير، وعدم الإذعان للشعور المحبط المأساوي، والمسلم لا يفقد نظرته المتفائلة رغم كثرة الشر، وعندما يذكر القرآن الكريم تداول الأيام بين الناس فإنما يبذر في النفس إحساساً عميقاً من اليقظة التاريخية المستقبلية، والكتاب الكريم عندما يقص علينا قصص الأنبياء، فهو لأخذ العبرة وللإعلام بما ستراه هذه الأمة بعد عصر الرسالة، وفي مستقبل الأيام، والأمة الإسلامية أمة غير منقطعة لأنها موصولة بماض عريق من دعوة الأنبياء.


بعد نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ذهب مع السيدة خديجة رضي الله عنها، ليقص على ورقة بن نوفل ما جرى له في غار حراء، قال ورقة بعد أن سمع من محمد صلى الله عليه وسلم "هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم؟" قال: "نعم"، ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي. كيف توقع ورقة أن قريش ستخرج محمدا صلى الله عليه وسلم من مكة، لأنه بنى على التجربة السابقة للأنبياء وتحدث عن المستقبل بوثوق وتمكن.

وفي غزوة الأحزاب بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بفتح بلاد كسرى وقيصر، مع أن المسلمين في تلك المعركة كانوا في حالة خوف وزلزلة، ولكنه تداول الأيام وانتصار الحق على الباطل، وكأن المبشرات لا تأتي إلا عند اشتداد الأزمات.

ومن التخطيط للمستقبل من خلال معرفة الواقع ما رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم « أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس"، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل ».

والغاية من هذا الإحصاء هو أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد معرفة الطاقات والإمكانات الموجودة ليطمئن على ذلك فالتخطيط السليم يبنى على المعلومات الدقيقة .


وعندما كتب ابن خلدون عن علم العمران، ذكر أن من فوائده معرفة الواقع (والمنتظر) وكأن الذي يتقن هذا العلم يمكن له أن يستشرف المستقبل ويتوقع ما تأتي به الأيام، ولعل أهم علامة مميزة لمفكر هي رؤيته المستقبلية لأنه يرى ما لا تستطيع العقول الصغيرة أن تتصوره، وقد يكون ما نتوقعه يحدث ببطء، وقد يكون هناك مفاجآت لأن المتغيرات كثيرة، ولكن كما يقول الجاحظ: "إنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم ما تجئ به العواقب، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، أما معرفة الأمور عند تكشفها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول والعالمون والجاهلون".

لا شك أن الحديث عن المستقبل يشكل تحدياً كبيراً، ولكن محاولة تصوره أفضل من داء الارتجال الذي نعاني منه، فلا إعداد للأمر عدته، ولا أخذ الأهبة والاحتياط للأمر قبل أوانه، ولكنه الارتجال على ضوء الحاضر، وأبسط مثال عل ذلك هو تخطيط المدن في بلادنا فبعد أن تتوسع المدينة توسعاً كبيراً، يتذكر القائمون على إدارتها أنه لا بد من حفر الشوارع وتخريبها لتمديد الكهرباء والماء... ولا نتكلم عن هدر الطاقات في ميادين التربية والثقافة والاقتصاد، وهدر الطاقات في ميادين العلم والدخول إلى الحضارة التي أساسها عندنا هو الدين.

هل كنا بحاجة إلى ذكاء شديد لنتوقع ماذا سيحدث بعد سقوط بغداد؟ وهل من الصعوبة توقع ماذا يريد الغرب عندما يلح على انفصال جنوب السودان؟ ليس بالأمر العسير معرفة هذا، ولكنه عدم التبصر في العواقب.


قد تكون صورة الأوضاع في الواقع الحالي قاتمة ولكن لا ينبغي أن يتسرب اليأس إلى نفس المسلم، فاليأس شر سلاح يفتك بالإنسان، ولا ينبغي أن يتوقع المسلم كل يوم شراً، فمستقبل الشعوب لا يُرسم وكأن العالم لن يتغير، فالتقدم والتأخر منوط أيضاً بمشيئة الإنسان التي هي ضمن مشيئة الله {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } [المدثر/37] فالعمل اليسير قد يقوم به عدد قليل من البشر، ولكنهم يصنعون مستقبلاً، فالتجار الحضارمة والعمانيين الذين وصلوا إلى جزائر إندونيسيا كان من آثار رحلتهم أن أسلم أهل تلك البلاد والسفن التي كانت تتاجر بالعبيد في إفريقيا وأمريكا، كان من نتائجها أن يوجد اليوم في أمريكا مليونا مسلم من الأمريكيين السود ولهم تأثير في مجرى الأحداث هناك.


إن فريضة الحج فرصة نادرة للالتقاء بين المسلمين ولها من الجذب والتأثير ما يفوق أي عمل بشري، وهذا من أسرار هذه الفريضة العظيمة "فقوافل الحجاج في الماضي والحاضر تشق أرجاء العالم الإسلامي في مسيرة لا تتوقف ولا تبالي بالعقبات، فقد كان حجاج بيت الله من الأندلس والسودان والصين والملايو وكأن قوافل الحج كانت أسلحة محاريث تشق الأرض الإسلامية وتقلب تربتها، وتأذن لشمس العقيدة أن تتخللها في عمق، وتبعث فيها الحياة"
يملك المسلمون أشياء كثيرة، ولكنها بحاجة لمن يستفيد منها ويستغلها، فالموقع الجغرافي في وسط العالم له تأثيره وميزاته، وخاصة بوجود الأماكن الإستراتيجية كالممرات المائية المعروفة.

يملك المسلمون ثروة فقهية (قانونية) لا نظير لها في تاريخ البشرية، تبحث في تفاصيل حياة الإنسان، وفيها من المرونة ما يتسع لكل مشكلة طارئة. يقول المستشار القانوني طارق البشري متحدثاً عن هذه الثروة: "إن العبقرية الإسلامية تدهشني في هذا المجال، فأنا حتى اليوم وبعد ما يقرب من نصف قرن في العمل في القضاء أشعر أني ما زلت تلميذاً عند هؤلاء القوم (الفقهاء)".


يعيش العالم تخبطاً فكرياً واقتصادياً واجتماعياً، فمن الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن البنيوية إلى التفكيكية، يقول الباحث الأمريكي (دانيال بل) عن الحداثة: "لقد وصلت إلى منتهاها، إلى نهاية الشوط التاريخي، ولم تحقق السعادة للبشر بالرغم من شيوع السلع وتوافرها، مما أدى إلى العودة للبحث عن (الإشباع الروحي).. " ومذهب التفكيكية في الأدب هو الفوضى الشاملة، لأن المعرفة في نظرها كيان متغير، دائم التحول في دوامة الصيرورة، وأنه من الاستحالة تثبيت معنى واحد للكلمة، بل لها معانٍ تتكاثر وتنتشر بلا حد، وهذا المذهب هو التخريب بعينه لأنه تشكيك في الأفكار واللغة والنص والسياق...
وفي الاقتصاد وبعد أن هيمنت نظرية (السوق) والرأسمالية المتوحشة، سقطت كثير من الدول في المديونية والإفلاس، وخضع القرار السياسي للقرار الاقتصادي.


هل يستطيع المسلمون أمام هذا الاضطراب في الأفكار أن يقدموا شيئاً قوياً للإنسان وللإنسانية في الفكر والسلوك والأعمال الاجتماعية؟

إ ن واقع المسلمين ينبئنا على أن هناك بعض المبشرات:

1. فشل الأفكار التي غزت المنطقة: كانت المنطقة العربية في عمومها وكأنها محطة تجارب لأفكار مستوردة، نبتة غريبة أرادوا زرعها في أرض غير أرضها، وإذا صلحت في مكانها فهي لا تصلح في مكان آخر، جربوا الليبرالية والقومية العنصرية والاشتراكية... وقد فشلت كل هذه الأفكار على أرض الواقع والتطبيق العملي، وكان من نتائجها كوارث كبرى أصابت المنطقة. ومنها كارثة 1967 فيما سمي بحرب الأيام الستة بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها، حيث خسرت هذه الدول صحراء سيناء والضفة الغربية والجولان، وكذلك كارثة 1991 حين استولى العراق على أرض الكويت، وما تبع ذلك من انقسام في العالم العربي، وتدخل الغرب وفرض الحصار على العراق. وهذا الأفكار المستوردة كانت أفكاراً هجينة، فلم تكن الليبرالية العربية هي ليبرالية الغرب، ولا الاشتراكية العربية هي اشتراكية بعض الدول والأحزاب في الغرب، وإنما هي صورة مشوهة مختلطة بالفساد الإداري والنزعات العائلية والقبلية والصراع بين المدينة والريف، عدا عن أنها أفكار هي في الأصل مضادة لعقيدة الأمة وتطلعاتها، وكان البديل هو الإسلام، فالناس يريدون حكاماً لا ينهبون خيرات البلاد، ويريدون حكاماً يعملون لصالح أوطانهم كما حدث في تركيا بعد أن عاشت عقوداً من العلمانية المتطرفة ومصداق ذلك نتائج الانتخابات في أي بلد عربي إذا أجريت بنزاهة وتجرد.


2. تراجع العولمة: العولمة كفكرة هي في الغالب مبدأ للهيمنة الاقتصادية، ولا بد أيضاً من الهيمنة الثقافية التي تخدم الاقتصادية، وقد بدأت بالشركات الكبرى متعددة الجنسية، وكذلك مؤسسات النقد العالمية في أمريكا، والعولمة الثقافية تحاول فرض (التغريب) على شعوب المنطقة، وهذه العولمة وإن كانت قد فرضت نفسها على الواقع في كثير من المناطق في العالم وهي مستمرة، ولكنها لم تنتشر وتتقوى كما كان يخطط لها أصحابها أو كما يتصورون، والمعارضة لها قوية خاصة من الذين يريدون الحفاظ على البيئة، والمسلمون يمكن أن يستفيدوا من العالمية لا من العولمة فرسالتهم عالمية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }[الأنبياء:107]والعالم واسع، والعالم ليس الغرب فقط، العالم مفتوح للدعوة بالحسنى، الشرق الأقصى بكل دوله له مكانته الآن، البلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي أكثر سكانها مسلمون، وهي مجال حيوي لإستراتيجية إسلامية، عندما يحمل المسلم نفسية العالمية وعندما يملك المعرفة والشجاعة، فستكون القارات الخمس من مجاله الدعوي، وسنرى أن هناك جوانب عقدية وسلوكية تفتح للمسلم منافذ للقوة والرزق، وفي العادة فإن المغامر لا يكون من غثاء الناس بل هو الذي يحوّل المكان لخدمته، وإن سنة التدافع تجعل المسلم في المشاركين في موجات التاريخ وأن يقدم نموذج الإنسان الذي تخلص من أمراض الحضارة المعاصرة، وهو النموذج الذي تفتقده البشرية اليوم، حيث تعاني من الرأسمالية المتوحشة كما تعاني من الاتجاهات المادية وتغوّل الدولة على الفرد.


3. ظاهرة النمو السكاني: من عوامل قوة الدول كثرة سكانها، وكان كان في مظاهر ضعف الدولة العثمانية في أواخر أيامها قلة السكان وفي الوقت نفسه كان الانفجار السكاني في بريطانيا الذي رافق النزعات الاستعمارية عند الأوروبيين، وكان من نتائجه الهجرة إلى أمريكا وأستراليا وتكوين دول ومستعمرات، وفي العصر الحديث لا شك أن أحد أسباب النمو الكبير في اقتصاد الصين هو كثرة سكانها. وقد يقال أن الكثرة ليست دائماً مؤشراً على القوة، وهذا صحيح، ولكن هذه الكثرة مع التعليم والتدريب العالي وتوفر العدالة الاجتماعية، وزرع الثقة في النفوس كل ذلك سيجعل في الكثرة قوة صالحة. تعاني أوروبا اليوم من النقص من عدد السكان، وتحاول التعويض عن ذلك باحتكار التفوق التكنولوجي والعسكري، ففي عام 2000 للميلاد كان عدد سكان أوروبا 728 مليون وسيصبح هذا العدد 600 مليون عام 2025م، وهذا يعني نقصاً في الأجيال الشابة، المسلمون اليوم هم أكثر من خمس سكان العالم، ونسبة الشباب في هذا العدد الكبير هي المتفوقة على الشعوب الأخرى، وهذا مؤشر لتنمية قوية تعيد للمسلمين دورهم الإيجابي في العالم.


4. ردة الفعل على المواقف الموتورة من الإسلام: المواقف التي تظهر بين الحين والآخر ضد الإسلام والمسلمين، سواء كانت رسمية أو من جهات مؤسساتية، وسواء كانت ظاهرة مكشوفة أو مخفية، وآخرها محاولة حرق المصحف في أمريكا، هذه المواقف زادت المسلمين حرصاً وتفانياً على دينهم، وجعلتهم ينتبهون إلى شيء لم يحسبوا حسابه، وهذا مما أدى إلى الرجوع إلى هويتهم وثقافتهم وحضارتهم. وإن إصرار طفلة في فرنسا على ارتداء الحجاب وتحديها للسلطات الفرنسية ليعد حدثاً قوياً، وهذا التأيد الأعمى للصهيونية من قبل أمريكا والغرب وهذا الاحتلال لبلاد المسلمين، مما زاد في التحديات التي تصقل شخصية المسلم، وتعيده إلى الواقع الحقيقي لمجرى الأحداث، وليفكر كيف تكون الحلول المناسبة. نشرت مجلة نيوزويك) الأمريكية مقالً بعنوان (بوش والحرب) ذكرت فيه أن الرئيس الأمريكي كان متأثراً بدوافع دينية تجاه المشرق الإسلامي، وهو يبدأ نهاره بقراءة من كتاب (مختارات دينية) وقد أصبح معلوماً أن أحد أسباب تأييد رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) للحرب على العراق هو الدين. لا يتجرأ إعلامي في الغرب على تفسير الكتب المقدسة لدى البوذي أو اليهودي مثلاً، ولكن كل إعلامي أو سياسي هناك لديه الجرأة على أي يفسر الإسلام، بل ويفسره حسب أهوائه للمسلمين؟! كل هذا مما ساعد على اتضاح الصورة أمام المسلمين ليكونوا على بينة من أمرهم، هذا مع وجود من يرى أن السبيل الصحيح هو الحوار القائم على التفاهم واحترام خصوصيات المسلمين، وهم قلة، وهذا مما دعا وزير الثقافة الفرنسي ليعتذر للشعب التونسي عن تأييد حكومته للديكتاتورية التي كانت تحكم تونس سابقاً.


5. الإعلام: عندما ظهرت قوة الإعلام في السنوات الأخيرة تخوف بعض الناس من هذا التطور الجديد، وذلك لأن هذا الإعلام إخطبوط كوني يمتص كل شيء، ويجرد ضحاياه من القدرة على التفكير المستقل، والقدرة على النقد والحوار الصادق الجريء، فهو يبث من طرف واحد، وصاحب الثروة الكبيرة يستطيع أن يسخر هذا الإعلام لمصلحته أو مصلحة فئته أو حزبه، ولكن هذه النظرة للإعلام والتخوف منه قد تتغير بعد أن استطاع المسلمون الاستفادة من (الإنترنت) وإنشاء المواقع القوية الجيدة، ومن خلال هذه الشبكة يستطيع كل إنسان لأن يبدي رأيه أو يحاور الطرف الآخر، وهكذا ظهرت الحوارات الكثيرة عن الإسلام وتعرف الناس في البلاد العربية على أمور كانوا يجهلونها من خلال بعض القنوات الفضائية، وكانت ممنوعة عنهم بسبب الأنظمة الاستبدادية.


6. الرجوع إلى التدين وزوال العصر الصناعي: أصاب الغرور كثيراً من علماء أوروبا وفلاسفتها في القرن التاسع عشر، وذلك حين ظنوا أن التقدم العلمي سيحل كل مشاكل الإنسان، واقترن هذا الغرور بالإلحاد والمادية واللأدرية كما نجده عند (فيور باخ) و (ماركس) و (داروين) و (نيتشه). فماركس يعتبر أن الدين له دور سلبي، فهو إلى جانب الرأسمالي الذي يستغل الطبقة العاملة وأن الطبقة الفوقية تستعمل الدين كمخدر تبريري لأعمالها. ولكن العلماء في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين عادوا ليطامنوا من هذا الغرور، عاد عباقرة الرياضيات والفيزياء من أمثال (ماكس بلانك) و (ألبرت آينشتاين) ليقولوا: إن التعبير عن الحقيقة يزداد صعوبة وأن الاحتمال هو أعلى درجات اليقين، وأن العلم أعرج من دون دين، والدين هو الذي يقرب من الحقيقة.

وفي كتابه الشهير (الموجة الثالثة) تنبأ (توفلر) بزوال الليبرالية الغربية خلال العقدين القادمين، كما زالت الشيوعية، بما أن كلاً من الليبرالية الغربية والشيوعية هي من نتاج القرن التاسع عشر، أي نتاج العصر الصناعي الذي ينتهي اليوم ليحل محله عصر ما بعد الصناعي، عصر توزع جديد للسلطة على مستوى العالم يطال جميع الألوان والأعراق والثقافات.

يتساءل الكاتب (دين هامر) في كتابه (The God Gene) كيف يتمركز الإيمان في نفوس البشر؟ لماذا يكون للروحانية هذه القوة وتلك السيطرة على العالم؟ ويصل في بحثه إلى أن الروحانية أو على الأقل جزء منها تتمركز في حياتنا الوراثية، ولو أطلع المؤلف على القرآن الكريم لعلم أن ما يبحث عنه هو الفطرة التي ذكرها القرآن الكريم، وهو الميثاق الذي جاء في الآية {وإذا أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم قالوا: بلى شهدن ا...}[الأعراف:172 ] وهذا الذي ذكرناه عن التحولات في الغرب لا يعني أن تقدم المسلمين مرهون بانهيار الغرب، ويجب على المسلمين ألا ينتظروا تدهور الغرب حتى يخططوا للمستقبل، فإن الغرب رغم ابتعاده فعلاً عن الأسس التي قامت عليها حضارته، ورغم ما يكتبه بعض مفكريه الحريصين عليه والذين يشعرون بخطر التراجع عن القيم والأخلاق التي ترسخ الحضارات، ورغم تراجع الحرية التي أعطت الغرب قوته ، فإنه يحاول دائماً إصلاح نفسه وتدارك أخطائه، وتدارك الأخطار التي تحيط به.


هذه المبشرات لا تعني المستقبل الواعد، لأن المستقبل مرهون بوجود مرتكزات أساسية، سواء كانت موجودة تحتاج إلى تفعيل أكثر، أو أنها لا بد أن توجد، ولا تنفع الآمال دون عمل، ولا ينفع التفاؤل المفرط دون الأخذ بالأسباب، ومن هذه المرتكزات:


1. الاهتمام بالمؤسسات والجمعيات الأهلية التي تخدم المسلم، وأن تكون هذه المؤسسات تابعة للأمة، لأن المؤسسات الوقفية الخيرية في تاريخ المسلمين هي التي استمرت وأبقت الأمة قوية في العلم والتضامن الاجتماعي حتى لو لم تساعدها الدولة، بل رغم استبداد بعض تلك الدول وانشغالها بالصراعات الداخلية. والملاحظ أن الغرب يهتم كثيراً بهذا النوع من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والخيرية، والتي كانت أيضاً من أسباب نهضة، ولكنه يعمل على إلغائها أو تهميشها في العالم الإسلامي.


2. الاهتمام بالإنسان: فقد استغرق العصر الصناعي مائتي سنة ليبدأ عصر (الكمبيوتر) وأما عصر (الإنترنت) فما يزال في بدايته وعلى المسلمين أن يتهيأوا لهذا القادم، حيث أصبحت المعلومات قيمة كبيرة، وأصبحت الأدمغة البشرية المفكرة هي رأس المال الحقيقي، كانت ثروة الأمم تقاس بما عندها من ذهب أو معادن وغير ذلك من كنوز الأرض، وأما اليوم فإن الثروة هو الإنسان المتعلم المتفوق، والعالم الإسلامي يملك ثروة بشرية متعلمة، ولكنه يعاني من هجرة الأدمغة إلى الغرب بسبب سوء أحواله السياسية والاقتصادية، وفي المجتمع الإسلامي ما تزال العلاقات بين الناس يسودها نوع من التضامن والتعاون، وما تزال الأسرة متماسكة والعلاقات العائلية جيدة بشكل عام.


3. لا مستقبل إلا بالدين: هذه الأمة أخرجت بالدين (هو الذي اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) وإن القطيعة مع الماضي هو أسوأ ما تبتلى به أمة من الأمم، لأن الماضي هو الجذور المنغرسة في حياتنا الثقافية، ومن الغريب أن أمماً أخرى وبلاداً أخرى عندما عزمت على النهوض بلورت نظامها التعليمي بالتأكيد على الهوية الخاصة بعقائدها وتقاليدها والمثال على ذلك (سنغافورة) وكان التركيز على التاريخ لأن الجهل بتاريخ الأمة يعوق الشعور بأهمية العمل، كما كان التركيز أيضاً على القيم والأخلاق.

العلماء في الأمة الإسلامية هم القادة، وما أتى المسلمون إلا من قلة العلماء الربانيين، العلماء الذين لا ييأسون الناس من المستقبل، ويفقهون أحاديث الفتن ويضعونها موضعها الصحيح وفي سياقها، فهذه الأحاديث "لم يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة من مقاومة ضرها، واتقاء تفاقم شرها، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها".


4. البعد عن الخوف وعن اقتصاد التبذير: لا نستطيع التحدث عن المستقبل ونحن نعيش ثقافة الخوف وحياة السفه في إنفاق الأموال، فالأخطار الخارجية ليست هي التي تأتي بالدرجة الأولى، المشكلة تكمن في الأخطار الداخلية، "إن أفضل طريقة لمقاومة البرودة الخارجية هي أن يجري الدم في الداخل، الشجاعة تأتي من الداخل، من القلب، نتحدث كثيراً عن الهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لكي نبدأ الحديث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا".

ماذا يخاف المسلمون ولماذا يضعون أنفسهم موضع المدافع والمُحاصر، ولماذا يشعرون وكأنهم سينقرضون وهم الآن أكثر من خمس سكان العالم، ولماذا يضخمون من نظرية المؤامرة وتكالب الأعداء حيث يصبح الفرد يائساً من المستقبل ومن النهوض والتقدم. ولماذا لا يكونوا حاضرين في مراكز القرار العالمي، ويحاورون الآخرين من موقع القوة وموقع النديّة، وهم قوة حضارية لها قيمها وسبلها ومناهجها، وهم قوة سياسية واقتصادية. وإذا كان الإسلام سيصبح قوة (جيوسياسية) كما يقول الرئيس الأمريكي السابق (نيكسون): وإذا كان العالم الإسلامي سوف تكون له أهمية كبرى خلال القرن القادم وأنه قوة مستقبلية كما يقول الكاتب الروسي (سولجنستن): إذا كان هكذا فيجب ألا نرضخ لما يجري اليوم، ولا نسلم بغرق المركب، وأمريكا لن تتحول إلى إمبراطورية، لأنه ما من دولة تبتدئ بالتراجع الاقتصادي إلا وتحاول أن تغطي عن ضعفها بتركيز سياستها على التفوق العسكري، وهنا يبدأ التراجع كما يقول المؤرخ الأمريكي (بول كينيدي) إننا نعيش فترة انتقالية كبرى، وعالم الغد لا يحتمل أن تحتكره أية دولة أو كتلة من الكتل.


5. لا بد أن يثق المسلمون بوعد الله، وأن تتسع الآمال التي هي من فطرة الإنسان، "ولو قصرت الآمال ما تجاوز الإنسان حاجة يومه، وفرق بين الآمال والأماني، فالآمال هي التي تتقيد بالأسباب، والأماني ما تجردت عنها". وإذا كان المطلوب من الإنسان تحقيق الغاية التي خلق لأجلها (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) فالإنسان يستطيع بإذن الله تحقيق المستقبل عندما يحقق الغاية.

الأمة الإسلامية نجت من خطرين اجتمعا عليه: الخطر الصليبي والخطر المغولي، وخرجت بعد عشرات السنين أقوى بنياناً، ولو تعرضت أمة أخرى لمثل ما تعرضت له هذه الأمة لاندثرت وأصبحت أحاديث القصاص. الأمة الإسلامية لها وزنها وقيمتها، والله سبحانه وتعالى جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، وهذا يفرض على المسلمين مسؤولية كبيرة لمقاومة الفساد في الأرض، والإصلاح لا يتم في ليلة واحدة، والخير لا يأتي دفعة واحدة، وسنة الله في خلقه التدرُّج، والإسلام يستطيع أي يؤدي دوراً حاسماً لثقافة مضادة لثقافة العولمة، ويستطيع الإسلام مناقشة القضايا الكبرى التي تتحدث عنها البشرية اليوم (الهوية، البيئة، الاستقلال، والعولمة... ).


6. الاستفادة من هجرة المسلمين إلى الغرب واستقرارهم فيه وخاصةً الشباب المتعلم الذي حافظ على دينه وخلقه، وإن الانفتاح الإيجابي يستطيع أن يفعل شيئاً كثيراً، والمشاركة السياسية لحماية حقوق المسلمين سيكون لها دور في الحفاظ على الهوية كما أن التعاون مع الأغلبية في القضايا التي تحقق قيم الإسلام وقيم الإنسانية سينهي الخوف الذي تشعر به بعض الشعوب العربية بسب الأخطاء التي ترتكب باسم الإسلام، والذين أسلموا من أهل تلك البلاد يمكن أن يكون لهم دور مهم في بلادهم لصالح الإسلام والمسلمين.

 

المصدر: موقع المسلم

محمد العبدة

رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.

  • 3
  • 0
  • 21,216

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً