الإمام أحمد بن حنبل

منذ 2017-04-18

ولد الإمام أحمد ببغداد سنة 164هـ، وتوفي بها سنة 241ه. وكان عمره يوم مات سبعة وسبعين عامًا.

اسمه وكنيته ونسبه:

هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.

 

فهو المازني ثم الشيباني ثم الذهلي ثم الربعي ثم النزاري ثم العدناني.

 

مولده ووفاته:

ولد الإمام أحمد ببغداد سنة 164ه، وتوفي بها سنة 241ه. وكان عمره يوم مات سبعة وسبعين عامًا.

 

أسرته:

كانت منازل بني شيبان في الإسلام البصرة، فهي دار أَجداد الإمام أَحمد، ثم انتقل بعض أَجداده إلى أَرض فارس.

وكان جده حنبل، واليًا على سرخس، ومن القائمين بالدعوة العباسية.

 

ثم كان والده محمد في مرو، ومن أَجنادها، لكنه ما لبس زي الجند قط، وكان كريمًا جوادًا مُمَدَّحًا، فَتح داره لوفود العرب، فيقوم بالضيافة، والإكرام، وتوفي وهو ابن ثلاثين عاما، وترملت زوجته صفية، فقَدِمَتْ بأحمد وهو حَمْل من مرو إلى بغداد، فبها وُلِدَ، وبها نشأ، وبها مات ودُفِن رحمه الله تعالى.

 

روى المروذي: أن أبا عبد الله قال له: قُدِم بي من خراسان وأنا حَمْل، وولدت هاهنا، ولم أرَ جدي ولا أبي، ولا تزوجت إلا بعد الأربعين.

 

أعمامه:

للإمام أحمد ثلاثة أعمام: عبد الله وعمر وإسحاق أبناء حنبل. فعبد الله، ولد له: أحمد، وقد سمع من الإمام أحمد أشياء. وإسحاق ولدَ له: حنبل، وقد روى عن الإمام أَحمد. وعمر وُلدَت له: ريحانة زوجة الإمام أَحمد.

 

زوجه:

للأمام أحمد زوجتان من العرب:

أولاهما: عباسة بنت الفضل، أم ابنه صالح، المولود سنة 203ه، ولم يولد له منها غيره، سمعت منه أشياء، وماتت في حياته، وكان أحمد يثني عليها.

 

والثانية: ريحانة بنت عمه عمر، وأم ابنه عبد الله، المولود سنة 213ه، ولم يولد له منها غيره، سمعت منه أشياء. تزوجها لما ماتت أم صالح، وكانت بعين واحدة، فقالت له بعد ما دخلت عليه بأيام: هل تنكر مني شيئاً؟ فقال: لا، إلا هذا النعل الذي تلبسينه لم يكن على عهد رسول الله r. فباعته واشترت مقطوعا، فكانت تلبسه.

 

جاريته حُسْن، اشتراها بعد موت زوجته أم عبد الله، وولدت منه: زينب ثم الحسن والحسين تؤمًا، وماتا بالقرب من ولادتهما، ثم ولدت أيضًا الحسن ومحمدًا، فعاشا نحو الأربعين سنة، ثم ولدت بعدهما سعيدا، وذلك قبل موت أحمد بنحو من خمسين يومًا. نقلت حسن عن الإمام أحمد أشياء منها: ما روي عنها أنها قالت: خبزت لمولاي وهو وجِع في مرضه الذي توفي فيه، فقال: أين خبزتيه؟ قلت: في بيت عبد الله. قال ارفعيه، ولم يأكل منه. وقالت أيضا: لما وَلَدتُّ حسنًا، أعطى مولاي كرامته امرأةً تخدم حسن درهمًا وقال لها: اذهبي إلى ابن شجاع - جار لنا قصاب - يشتري لك بهذا رأسًا. قالت: فاشترى لنا رأسًا، وجاءت به فأكلنا، فقال لي: يا حسن ما أملك غير هذا الدرهم. وقالت أيضًا: كان إذا لم يكن عند مولاي أبي عبد الله شيء فرح.

 

صفته:

كان رحمه الله شيخًا رَبْعَةً، وقيل: طُوالاً، أَسمر شديد السمرة، حسن الوجه، مخضوبًا يخضب بالحِنَّاء خِضَابًا ليس بالقاني، وفي لحيته شعرات سُود، تعلوه سكينة، ووقار وخشية، وكان مهيبًا في ذات الله، حتى قال أبو عبيد: ما هبت أَحدًا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل. وكانت ثيابه غلاظًا بيضاء، يَعْتمّ، ويتَّزر، وكان نظيفًا في مَلْبَسِهِ. وكان يَتَنَوَّر في بيته، وما دخل حَمَّامًا قط، وكان أَكثر جلوسه متربعاً.

 

رحلته:

بدأ رحمه الله في طلب الحديث سنة 179هـ في العام الذي مات فيه الإمامان: مالك، وحماد بن زيد. وكان أَول سماعه من هشيم بن بَشير الواسطي سنة 179هـ وبعد وفاة شيخه هشيم سنة 183ه، رحل إلى الكوفة وأَجل شيوخه فيها وكيع، وكان في رحلته هذه في حال شظف في العيش، إذ كان يتوسد اللبن من قلة ذات اليد، وقد حُمَّ فرجع إلى أمِّه في بغداد. ثم رحل إلى البصرة مرارا، والتقى فيها بأَعلامها: ابن علية، وابن مهدي، وابن القطان. ورحل إلى واسط وأَخذ فيها عن يزيد بن هارون. ورحل إلى طرسوس ماشيًا على قدميه. وحج سنة 187ه وأَخذ في مكة عن ابن عيينة، ثم الشافعي. ثم حج تطوعًا أَربعًا، فهذه خمس حجات كان في ثلاث منها يحج ماشيًا، ومرتين راكبًا. ورحل ماشيًا إلى صنعاء اليمن سنة 1988ه وأَقام عند شيخه محدِّث اليمن عبد الرزاق بن همام، مدة سنتين، وفيها أَخذ عن إبراهيم بن عقيل، وكان عَسِرًا في الرواية. وكان زمن إقامته باليمن، يعمل التكك - نوع من اللباس - ويبيعها، يتقوت بها. ورحل إلى الشام.

 

شيوخه:

شُيوخ الذين روى عنهم في المسند يزيدون علة 280 شيخًا، كذا ذكر الذهبي، وقد ألف الشيخ عامر صبري العراقي معجمًا لشيوخ الإمام أحمد في المسند، فبلغ بهم 292 شيخا، وهم من أَقطار الأَرض من: بغداد، والبصرة، والكوفة، والحجاز، والشام، والجزيرة، واليمن. وكان أُستاذه وشيخه الذي لازمه وتخرج به: الحافظ أَبو سهل هشيم بن بشر الواسطي، قال الإمام أَحمد: " كتبت من هشيم سنة 179ه، ولزمناه إلى سنة 183ه، وكتبنا منه كتاب الحج، نحوًا من أَلف حديث، وبعض التفسير وكتاب القضاء، وكُتُبًا صغارًا ". وقد سمَّاهم ابن الجوزي في المناقب، وساقهم على حروف المعجم.

 

أدبه مع شيوخه:

يحدِّث أَحمد عن حاله مع شيخه هشيم فيقول: وكان هشيم كثير التسبيح، ولازمته أَربعة أو خمسة أَعوام، ما سألته عن شيء هيبةً، إِلاَّ مرتين: في الوتر، ومسألة أخرى عن أَشعث.

 

رواية شيوخه عنه:

لقد حدَّث عن الإمام أَحمد، جُملة من شيوخه، عقد ابن الجوزي لتسميتهم الباب الحادي عشر، وهم نحو 20 شيخا، منهم الإمام الشافعي رحمه الله.

 

روى ابن أبي يعلى بإسناده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال لي الحسن بن محمد الزعفراني: كل كتاب قرأت على الشافعي، كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل حاضرا، فإذا قال الشافعي: حدثني الثقة، يعني أباك أحمد بن حنبل.

 

وقال الذهبي: وحدَّث عنه أبو عبد الله الشافعي، لكن الشافعي لم يُسَمِّه، بل قال: حدَّثني الثقة. اهـ.

 

علاقته بشيخه الإمام الشافعي:

كان بين الإمامين أحمد والشافعي رحمهما الله محبة ومودة وإجلال، ولأجل ذلك يزور أحدهما الآخر، فقيل للشافعي في ذلك، فأنشد:

 

قالوا يزورك أَحمد وتزوره *** قلت الزِّيارة كلها من أَجله

إن زرته فلفضله أو زارني *** فبفضله فالفضل في الحالين له

 

فأَجابه أحمد بقوله:

إن زُرتنا فبفضل منك تَمنحنا *** أو نحن زُرْنا فللفضل الذي فيكا

فَلاَ عدمنا كلا الفضلين منك ولا *** نال الذي يتمنى فيك شانيكا

رحمهما الله ورضي عنهما.

 

إمامته في الحديث:

كونه رحمه الله من المحدثين، لا خلاف فيها ولا نزاع، وحصل به الوفاق والإجماع، فهو إمام أهل الحديث، أكثر منه الجمع والتصنيف، وله الجرح والتعديل، والمعرفة والتعليل، والبيان والتأويل.

 

قال أبو عاصم النبيل يوماً: من تعدون في الحديث ببغداد؟ فقالوا: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبا خيثمة، ونحوهم. فقال: من تعدون بالبصرة عندنا؟ فقالوا: علي بن المديني وابن الشاذكوني وغيرهما. فقال: من تعدون بالكوفة؟ قلنا: أين أبي شيبة وابن نمير وغيرهما. فقال أبو عاصم وتنفس ها، ها: ما أحد من هؤلاء إلا وقد جاءنا ورأيناه، فما رأيت في القوم مثل ذلك الفتى أحمد بن حنبل.

 

وقال أبو عبيد القاسم بن سَلاَّم: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكان أحمد بن حنبل أفقههم فيه.

 

ودخل الشافعي يوماً على أحمد بن حنبل فقال يا أبا عبد الله كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا فلو كان معي حديث عن رسول الله r فدفع إليه أحمد ثلاث أحاديث، فقال له: جزاك الله خيرًا.

 

وقال الشافعي لإمامنا أحمد يوماً: أنتم أعلم بالحديث والرجال، فإذا كان الحديث الصحيح، فأعلموني إن شاء يكون كوفياً، أو شاء شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً.

 

وقال عبد الوهاب الورَّاق: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل. قالوا له: وإيش الذي بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال أخبرنا وحدثنا.

 

روايته في الكتب الستة:

قال الذهبي: حَدَّث عنه البخاري حديثًا، وعن أَحمد بن الحسن عنه حديثًا آخر في المغازي، وَحَدَّث عنه مسلم، وأَبو داود بجملة وافرة، وروى أَبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، عن رَجُلٍ عنه. اه.

 

سعة حفظه للحديث:

قال عبد الله بن أَحمد: قال لي أَبو زرعة: أَبوك يحفظ أَلف أَلف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأَبواب.

 

قال الذهبي بعدها: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أَبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأَثر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، ونحو ذلك، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك. اه.

 

إِمامته في الفقه:

قال الربيع بن سليمان: قال لنا الشافعي: أَحمد إِمام في ثمان خصال: إِمام في الحديث، إمام في الفقه، إِمام في اللغة، إِمام في القرآن، إِمام في الفقر، إِمام في الزهد، إِمام في الورع، إِمام في السنة.

 

وقال حرملة بن يحيى سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحدا أتقى ولا أروع ولا أفقه، أظنه قال: ولا أعلم من أحمد بن حنبل.

 

وقال عبد الرزاق بن همام: ما رأيت أَحدًا أَفقه ولا أَورع من أَحمد بن حنبل.

 

قال الذهبي بعده: قلت: قال هذا، وقد رأى مثل الثوري، ومالك، وابن جريج.

 

وقال أبو ثور: أحمد بن حنبل أعلم من الثوري وأفقه.

 

وقال أَبو القاسم ابن الجَبُّلي: أَكثر الناس يظنون أَن أَحمد إِنما كان أَكثر ذكره لموضع المحنة، وليس هو كذاك، كان أَحمد بن حنبل، إذا سُئِلَ عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه.

 

وقال إسحاق بن راهويه سمعت يحيى بن آدم يقول: أحمد بن حنبل إمامنا.

 

وقال إبراهيم الحربي وقد ذكر أحمد: كأن الله قد جمع له علم الأولين من كل صنف، يقول ما يرى ويمسك ما شاء.

 

وقد ساق ابن الجوزي في كتابه مناقب الإمام أَحمد، أَمثلة عجيبة من دقة فقه الإمام، وغوصه في فهم نصوص الوحيين، وفقه الصحابة والتابعين، وهذا واضح للعيان لمن وقف على أَفعاله، وأقواله في أَجوبته وفتاويه، التي بلغت عشرات الأَسفار يكتبها عنه مئات الأصحاب، وقد شهد بفقهه الأَئمة الكبار من شيوخه، وأَقرانه، وتلامذته، ممن لهم قدم صدق في الإسلام والعلم والورع والإيمان من أَئمة أهل العلم في الأَقطار، في بغداد والحجاز واليمن والشام ومصر وبلاد العجم، وقد ساق الذهبي أقوالهم في تاريخ الإسلام، وفي السير.

 

فَمِنَ الذين نَعَتُوْه بِالفقه: الشافعي، وعبد الرزاق بن همام، وأَبو عبيد القاسم بن سلام، وأَبو ثور، وعبد الله بن المديني، وابن وارة، والنسائي، وصالح بن محمد جزرة، والبوشنجي، وأَبو زرعة الرازي، وإبراهيم بن خالد، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى بن آدم، وإبراهيم الحربي، وأَبو حاتم الرازي، والعجلي، ويحيى بن معين، كل هؤلاء نعتوه بالفقه، ومنهم من فَضَّله على غيره، وأَلحقه بطبقة التابعين.

 

وقد سمى ابن الجوزي بعض من لقبوه بالإمام، فذكر منهم: علي بن المديني، وأَبو عبيد القاسم بن سلام، وبشر بن الحارث، ويحيى بن آدم القرشي، والذهلي، وأَبو ثور.

 

ولما ساق الذهبي كلمة المروزي في تفضيل أَحمد على أَهل زمانه قال: قلت كان أَحمد عظيم الشأن، رأسًا في الحديث، وفي الفقه، وفي التأله، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأَقرانه. اه.

 

وقال أيضا: وإلى الإمام أَحمد، المنتهى في معرفة السنة علما، وعملا، وفي معرفة الحديث وفنونه، ومعرفة الفقه وفروعه، وكان رأسًا في الزهد، والورع، والعبادة، والصدق. اه.

 

ونَقَلَة الفقه عن الإمام أحمد: يزيدون على الخمسمائة، منهم: ابناه صالح (ت:266ه) وعبد الله (ت:290ه)، وابن عمه حنبل بن إسحاق (273ه)، وأبو بكر الْمَرُّوذي (ت:275ه)، وإبراهيم الحربي (ت:285ه)، وأبو طالب أحمد بن حميد (ت:244ه)، وعبد الملك الميموني (ت:274ه)، وهؤلاء السبعة، لروايتهم المرتبة العالية، وهم المعنيون عند الأصحاب بقولهم: " رواه الجماعة ". وقد ذكر العلاء المرداوي في خاتمة الإنصاف 131 نفسا ممن نقلوا الفقه عن الإمام أحمد، وذكر أن المكثرين منهم 333 نفسا.

 

وأما نقلة الحديث عنه: فقد جمعت فيهم المصنفات، وساقهم الأئمة الثقات.

 

إمامته في اللغة:

قال المروزي: كان أبو عبد الله لا يلحن في الكلام.

 

وقال أحمد: كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو بن العلاء.

 

وتقدم قول الشافعي: أحمد إمام في اللغة. في ثمان خصال ذكرها.

 

وكان رحمه الله يُسأل عن ألفاظ من اللغة، تتعلق بالتفسير والأخبار، فيجيب عن ذلك بأوضح جواب وأفصح خطاب.

 

إمامته في السنة:

عن أحمد بن شبويه قال سمعت قتيبة يقول: لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين. قلت لقتيبة: تضم أحمد بن حنبل إلى أحد التابعين؟ فقال: إلى كبار التابعين.

 

وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها، لذهب الإسلام.

 

وقال أيضا: أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.

 

وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام.

 

وقال محمد بن الحسين الأنماطي: كنا في مجلس فيه يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وجماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ويذكرون فضائله، فقال رجل: لا تكثروا بعض هذا القول. فقال يحيى بن معين: وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل تستكثر، لو جلسنا مجلسنا بالثناء عليه، ما ذكرنا فضائله بكمالها.

 

تواضعه:

قال يحيى بن معين: ما رأيت خيرًا من أَحمد بن حنبل، ما افتخر علينا بالعربية قط ولا ذكرها.

 

وقد سُئِلَ مرة عن ذلك، وهل هو عربي؟ فقال: نحن قوم مساكين.

 

وقال ابنه صالح: رَأَى رجل مع أَبي محبرة، فقال له: يا أَبا عبد الله، أَنت قد بلغت هذا المبلغ، وأَنت إِمام المسلمين، فقال: من المحبرة إلى المقبرة.

 

وَيَحْكِي ابن الجوزي: أَن أَحمد كان من أَحب الناس وأَكرمهم نفسا وأَحسنهم عشرة وأَدبًا، كثير الإطراق والتقى، معرضًا عن القبح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد في وقار، وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إِنسان بش به، وأَقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدًا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه.

 

زهده وورعه:

قال أَبو داود صاحب السنن (ت:2755ه): لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أَحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أَمر الدنيا، فإذا ذُكِر العلم تكلم.

 

وقال الرمادي: سمعت عبد الرزاق وذكر أَحمد بن حنبل فدمعت عيناه، فقال: بلغني أَن نفقته نفدت، فأخذت بيده فأَقمته خلف الباب، وما معنا أَحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها. فقال لي: يا أبا بكر، لو قبلت من أحد شيئًا قبلت منك.

 

وذُكِر الإمام أحمد عند أبي عمير عيسى بن محمد الرملي فقال: رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.

 

وقال ابن كثير: وقد صَنَّف أَحمد في الزهد كتابًا حافلا عظيمًا، لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه، والمظنون بل المقطوع به، أنه إنما كان يأخذ بما أَمكنه منه رحمه الله. اه.

 

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: ومن في ورع أحمد؟ يرتفع على جوائز السلطان، حتى يُظن أنه الكِبر، ويكري نفسه مع الجمالين، حتى يُظن أنه الذل، ويقطع نفسه عن مباشرة عامة الناس وغشيان خاصتهم أنْسًا بالوِحدة، فلا يراه الرائي إلا في مسجد، أو عيادة مريض، أو حضور جنازة، ولم يقض لنفسه بعض ما قضيناه من شهوات.

 

ولما تولى المتوكل الخلافة سنة 232ه، وانجلت محنة القول بخلق القرآن، كانت تأتي أولاده في كل يوم مائدة أَمر بها المتوكل، فيها ألوان الطعام والفاكهة والثلج وغير ذلك، فما نظر إليها أَبو عبد الله، ولا ذاق منها شيئا، وكانت نفقة المائدة في كل يوم 120 درهما.

 

وأَجرى المتوكل على ولده وأَهله أَربعة آلاف درهم في كل شهر، فبعث إِليه أَبو عبد الله: إِنهم في كفاية، فبعث إِليه المتوكل: إِنما هذا لولدك، مالك ولهذا؟ فكان الإمام أحمد يعترض على ولديه، وعمه، لأَنهم قبلوا مال الخليفة المتوكل، ويقول لهم: لِمَ تأخذونه، والثغور معطلة، والفيء غير مقسوم بين أَهله؟

فلذلك كان يتورع عن أموالهم، قالت جاريته حُسْن: خبزت لمولاي وهو وجِع في مرضه الذي توفي فيه، فقال: أين خبزتيه؟ قلت: في بيت عبد الله. قال ارفعيه، ولم يأكل منه.

 

وكان يقول لعمه إسحاق: يا عمِّ، ما بقي من أَعمارنا؟ كأَنك بالأَمر قد نزل، فالله الله، فإِن أَولادنا إِنما يريدون يتأكلون بنا، وإنما هي أَيام قلائل، لو كشف للعبد عما قد حجب عنه، لعرف ما هو عليه من خير أَو شر، صبر قليل، وثواب طويل، إِنما هذه فتنة.

 

مؤلفاته:

للإمام أَحمد رحمه الله المؤلفات الجامعة، والمصنفات الماتعة، وقد بلغت كتبه نحو الثلاثين، وقاربت كُتب المسائل عنه المائتين، وهذا بيان مؤلفاته رحمه الله:

1- المسند. ط.

2- فضائل الصحابة. ط.

3- العلل ومعرفة الرجال. ط.

4- الأَسامي والكنى. ط.

5- حديث شعبة.

6- التاريخ.

7- الزهد. ط.

8- الورع. ط.

9- الرد على الزنادقة والجهمية. ط.

10- الإيمان. خ.

11- طاعة الرسول r.

12- الإمامة.

13- نفي التشبيه.

14- المقدم والمؤخر في القرآن.

15- جوابات القرآن.

16- الناسخ والمنسوخ. خ.

17- رسالة في الصلاة. ط.

18- حديث الشيوخ.

19- المناسك الكبير.

20- المناسك الصغير.

21- الفرائض.

22- كتاب الأشربة. ط.

 

وأما رسائله، فقد ساق ابن أَبي يعلى في مواضع متفرقة من الطبقات، ست رسائل له في الاعتقاد، وهي:

1- رسالة الاصطخري.

2- رسالة الربعي الحسن بن إسماعيل.

3- رسالة عبدوس بن مالك العطار.

4- رسالة محمد بن عوف الطائي.

5- رسالة السنة رواية الأَتدراني والسرخسي.

6- رسالة الإمام أَحمد إلى مسدد بن مسرهد.

 

ومما نسب إلى الإمام أحمد من التصانيف: كتاب في التفسير، ذكره أبو الحسين ابن المنادي (ت:336ه) - وهو من الآخذين عن عبد الله بن الإمام أحمد، وذكر أنه مائة وعشرون ألف أحديث. إلا أن الحافظ الذهبي في السير: نفى أن يكون للإمام أحمد كتاب في التفسير، وأنه ما رأى أحدا أخبر عن وجود هذا التفسير، ولا بعضه، ولا كراسة منه، وأنه لو كان له وجود، لاعتنى طلبة العلم بتحصيله، ولنقل إلينا، ولاشتهر، ولنقل منه ابن جرير فمن بعده في تفاسيرهم، وكيف يكون عند الإمام أحمد في التفسير مائة وعشرون ألف حديث، وقدر مسنده ثلاثون ألف حديث، فلو جمع الإمام أحمد شيئا في ذلك، لكان يكون منقحا مهذبا عن المشاهير، فيصغر لذلك حجمه، ولكان يكون نحوا من عشرة آلاف حديث بالجهد بل أقل، وهذا تفسير ابن جرير الذي جمع فيه فأوعى، لا يبلغ عشرين ألفا، وما ذَكَر تفسير أحمد أحد، سوى أبي الحسين بن المنادي.

 

وفاته:

توفي ببغداد محموما سنة 241ه، وقد بلغ من العمر سبعة وسبعين عامًا.

وذكرَ مترجموه كثرة من حضر جنازته من الرجال، ومن النساء، واسترسل المؤرخون في ذكر العدد التقريبي لمن حضر جنازته، حتى من الكفار، ومن أَسلم منهم ذلك اليوم.

وأمَّا مَا حُكِي من أنه أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفًا، فهو من رواية الوركاني وهو مجهول.

وساق المترجمون له، من الرؤى الحسنة عجبًا رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

 

محنة القول بخلق القرآن:

كانت هذه المقولة إلى وفاة الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله سنة 193ه مقولة مكبوتة، وكان القول بها من المتبنين لها، على وَجَلٍ وخوف، ولم يتدخل أَحد من الولاة بالانتصار لها، حتى تولى الخلافة تلميذ أَبي الهذيل العلاف المعتزلي: المأمون بن هارون الرشيد، فصار من أمره ما صار من تعريب كتب اليونان، وقد توغل الفرس في خلافته، وداخله أهل الكلام، وأرباب الاعتزال والتجهم، فكانت روحه متشبعة بالاعتزال، والمعتزلة من حوله على بلاط الخلافة، قد اتخذهم له شعارًا ودثارًا، منهم: أحمد بن أبي دؤاد (ت:240ه)، فكان يُحسن لَهُ هذه المقولة، ويدعوه إليها، حتى استجاب المأمون لها، وفَتَح باب القول فيها، وإعلان المناظرة عليها في مجلسه وهو في بغداد عام 212ه. ثم في عام 218ه أثناء إقامة المأمون في طرسوس، دعاه أَحمد ابن أبي دؤاد، على حمل الناس عليها، ومراغمتهم على القول بها، فأَخذ المأمون بذلك وبدأت "محنة القول بخلق القرآن".

 

فكان المأمون وهو في طرسوس سنة 218ه يبعث بالكتاب يتلوه الكتاب إلى صاحب الشرطة في بغداد، بَدَأَ بكتابه الأول بدعوة العلماء إلى دار الشرطة ببغداد، وأخذ جوابهم على القول بخلق القرآن، ثم بعث أجوبتهم إليه، ولم يلتفت لكتابه أَحد من العلماء، فكتب ثانية له ببعث سبعة من المحدِّثين، وتحت التهديد والامتحان، أجابوا مكرهين. فلما علِمَ الإمام أَحمد تمنى أَن لو صبروا، وقاموا لله، وقال: هم أَول من ثلم هذه الثلمة، لأَنهم أَجابوا، وهم عيون البلد، فاجْتُرِأَ عَلَى غيرهم. ثم تتابعت كتب المأمون، وأَمر بإحضار علماء بغداد، وامتحانهم على ذلك، فلم يجب أربعة منهم، وهم: أَحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد، وقد أَجاب الأخيران بَعْدُ تقية، وأَصر أَحمد، ومحمد بن نوح، على الحق: " القرآن كلام الله غير مخلوق ". من هنا حُبس الشيخان، وقُيدا، وحُملا على جَملٍ مُتَعادِلَيْن، وَبُعِثَ بهما إلى المأمون في طرسوس، وكان أحمد في الطريق يسأل الله أن لا يَرَى المأمون، فمات المأمون وهما في الطريق سنة 218ه، فَرُدَّا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق، فَحُلَّت أقياده، وغُسِّل، وصلى عليه الإمام أحمد، ودُفِعَ بأَحمد إلى السجن في بغداد.

 

المحنة في عهد المعتصم:

ثم تَوَلَّى الخلافة بعد المأمون، أخوه المعتصم من سنة 218ه إلى وفاته سنة 227ه. ولم يكن على درجة المأمون في معلوماته، بل كان موصوفًا بالجهل، وهو القائل: " لا حول ولا قوة إلا بالله، خليفة أُمِّيٌ، ووزير عَامِّي "، وذلك لما مرت عليه كلمة: "الكلأ" فلم يعرف معناها، لا هو، ولا وزراؤه. اسْتَلَم أَمر الخلافة، وابن أَبي دؤاد، على بلاط الخلافة، وأَذناب الاعتزال من حوله، يحثونه على إِنفاذ وصية المأمون، ومواصلة مسيرة الامتحان بخلق القرآن، ويحسنون له أَنه لا استقرار لِحُكْمِهِ إلا بذلك.

 

وباء المعتصم بالأَمر بضرب الإمام أحمد في عهده، إذ لم يضرب قبلُ في عهد المأمون، ولا بعدُ في عهد الواثق، وبقي أَحمد مقيدًا في بغداد يُنقل من سجن إلى سجن، حتى حُوِّل إلى سجن العامة، وكان يصلي بأهل السجن، وهو مقيد، فصار مُكْثُه نحوًا من ثلاثين شهرًا.

 

وكان يناظره في السجن رجلان، وكانا كلما فَرَغَا من مناظرته، زاداه قيدًا على قيوده وآلت به الحال إلى إِثقاله بالقيود، وجعله في سجن ضيق، مظلم لا نور فيه. ثم حمل الإمام أحمد رحمه الله على دابة إلى المعتصم في العشر الأَواخر من رمضان عام 219ه، فيناظره المشؤوم: أحمد البدعة، وجمع كثير من أصحابه، في مجالس متعددة.

 

والإمام أحمد في هذه المجالس المتعاقبة، يرى أن الأخذ بالتقية، والإجابة في الفتنة: هضم للإسلام والمسلمين، فاستمر وهو صابر ثابت، محتسب، مصر على كلمة الحق، والناس في رحبة الدار، خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، في أيديهم الصحف والأَقلام والمحابر يكتبون ما يقوله أحمد.

 

وأما ما يصيبه من الأذى، والابتلاء على رؤوس الملا، فحدِّث ولا حرج: إحضار الجلادين معهم السياط، يُضْرَبُ بها الإمام حتى يسقط، فإذا أفاق لُعن وسُبَّ، ومع نخسه بقوائم السيوف، وسحبه على وجهه، وخلع يديه بشدهما في خشبتين حتى ينخلعا. والمعتصم في هذه الأحوال، يرقُّ للإمام أحمد، ويقوٍل: لولا أَني وجدتك في يد من كان قبلي، ما عرضت لك.

 

واستمر على هذه الحال سنتين ونصفًا، من شهر جمادى الآخرة من عام 218ه حتى شهر ذي الحجة من عام 220ه. وبعدها أَطلقه المعتصم من السجن، ورفع عنه المحنة وعن غيره، واستدعى المعتصم عَمَّ الإمام أحمد، وقال له: ها هو صحيح البدن، فقال: نعم، قال: سلمته إِليكم. وخلع عليه المعتصم ثيابًا ورياشا، فلما وصل أَحمد إلى داره خلع ما كان عليه، وأَمر به فبيع، وتصدَّق بثمنه، وعاش الإمام طليقًا يحضر الجمعة والجماعة، بعد برئه من مرض ما لحقه من الضَّرْبِ والتعذيب، يباشر التدريس والفتوى والتحديث، حتى مات المعتصم سنة 227ه.

 

والإمام أحمد رحمه الله لسمو نفسه، وإيثاره للدين على الدّنيا، أعلن العفو عن كل من آذاه وأنه في حل، إلا صاحب بدعة، وجعل المعتصم في حِل يوم فتح بابل، وعمورية.

 

المحنة في عهد الواثق:

ثم تولى بعد المعتصم ابنه الواثق من سنة 227ه إلى وفاته سنة 232ه، ولم يُؤثر عنه أَنه أَلحق بالإمام أَحمد أذى، لكن لقاء تحريك ابن أَبي دؤاد له، ضد الإمام أَحمد، لتخوفه منه لمَّا انبسط في التحديث، كتب الواثق كتابه إلى عامله إِسحاق بن إِبراهيم، ينهى فيه الإمام أَحمد عن مساكنته، وليذهب حيث شاء، عندئذِ قطع أَحمد التحديث في آخر سنة 227ه، واختبأ بين داره، ودُور أَصدقائه، وما زال كذلك حتى هلك الواثق سنة 232ه.

 

وفي أثناء ذلك اشتد أَحمد البدعة، وأَذناب الفتنة، يتابعون علماء أهل السنة، ويمتحنونهم، فاشتد أمر المحنة على علماء أهل السنة، وألحقهم صُنُوْفَ الأذى، فسلَّط الواثق غَضْبَتَهُ على العالم العابد أَحمد بن نصر الخزاعي، فقتله الواثق بيده، لامتناعه عن القول بخلق القرآن، وذلك سنة 231ه.

 

وممن مات في سجن الواثق: الحافظ نعيم بن حماد سنة 228ه، والبويطي صاحب الشافعي، إذ كتب القاضي أحمد بن أَبي دؤاد إلى قاضي مصر بامتحانه، فأَبى البويطي، وقال: لئن أَدخلت على الواثق لأَصْدُقَنَّهُ، ولأَموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. وجيء به من مصر إلى بغداد، مصفدًا بالحديد، فسجنه حتى مات سنة 231ه رحمه الله تعالى.

 

وتسلط الواثق على الشيخ أبي عبد الرحمن الأَذَرْمي، فجيء به مسجونا، مقيدا، مهانًا، ليناظر أَحمد البدعة، فجرت بينهما مناظرة، انتهت بظهور الأذرمي على ابن أبي دؤاد، فَحُلَّ قَيْدُ الشيخ، وبكى الواثق، وصرفه مكرما. وقيل: إن الواثق تاب من القول بخلق القرآن بسببه. وتأتي القصة قريبا إن شاء الله تعالى.

 

انجلاء المحنة وظهور السنة في عهد المتوكل:

وبعد وفاة الواثق تولى الخلافة أخوه المتوكل بن المعتصم من سنة 232ه حتى وفاته سنة 247ه. فرفع الله به المحنة، وأَظهر السنة، وأَفل نجم التجهم والاعتزال، وكتب بذلك إلى الآفاق سنة 234ه. ووضعت الحرب أَوزارها، وفرح بذلك المسلمون، وخاب الفاتنون.

 

ثناء العلماء على ثبات الإمام أحمد في المحنة:

قال علي بن المديني: أَعَزَّ الله هذا الدِّين برجلين ليس لهما ثالث: أَبو بكر الصديق يوم الردة، وأَحمد بن حنبل يوم المحنة.

وروي نحوه عن المزني كما في السير للذهبي.

 

وقيل لبشر بن الحارث يوم ضرب أحمد: قد وجب عليك أن تتكلم، فقال: تريدون مني مقام الأنبياء، ليس هذا عندي، حفظ الله أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه. ثم قال بعد ما ضرب أحمد: لقد أدخل الكير فخرج ذَهَبَةً حمراء.

 

وقال يحيى بن معين: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد، ولا على طريق أحمد.

 

وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها، لذهب الإسلام.

 

تتمة في ذكر

مناظرة أبي عبد الرحمن الأذرمي

لأحمد بن أبي دؤاد

 

دارت مناظرة بين أبي عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذَرْمي - روى عنه أبو داود والنسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، ووثقه أبو حاتم والنسائي - وبين أحمد بن أبي دؤاد، في مجلس الخليفة الواثق بالله.

 

أخرجها الخطيب في تاريخ بغداد، ومن طريقه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد، وابن قدامة في التوابين، وأخرجها الذهبي في سير أعلام النبلاء، والآجري في الشريعة، وأوردها ابن كثير في البداية والنهاية. وإليك أخير الكريم سياق القصة بطولها، لحسنها وملاحتها:

 

قال الخطيب في تاريخه:

كان هارون الواثق بالله، أشخص شيخا من أهل أذنة للمحنة، وناظر بن أبى دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقال: إنه كان أبا عبد الرحمن الأذَرْمي.

 

أخبرنا بقصته محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أحمد بن سندي الحداد قال: قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا اسمع قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قال:

 

حضرت المهتدى بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك، واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت انظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه، حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثة، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت، فقال لي: يا صالح.

 

قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائما.

 

فقال: في نفسك منى شيء تريد أو قال تحب أن تقوله؟

 

قلت: نعم يا سيدي.

 

فقال لي: عد إلى موضعك. فعدت وعاد إلى النظر، حتى إذا قام، قال للحاجب: لا يبرح صالح، وانصرف الناس، ثم أذن لي، وهمتني نفسي، فدخلت فدعوت له.

 

فقال لي: اجلس. فجلست.

 

فقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟

 

قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه، وتأمر به.

 

فقال: أقول أنا أنه دار في نفسي، أنك استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول إن القرآن مخلوق.

 

فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل.

 

فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلتَ.

 

فاطرق مليا، ثم قال: ويحك اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق.

 

فسري عني، وقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين.

 

فقال: ما زلت أقول أن القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق، ح؃رما. وقيل: إن الواثق تاب من القول بخلق القرآن بسببه. وتأتي القصة قريبا إن شاء الله تعالى.

 

انجلاء المحنة وظهور السنة في عهد المتوكل:

وبعد وفاة الواثق تولى الخلافة أخوه المتوكل بن المعتصم من سنة 232ه حتى وفاته سنة 247ه. فرفع الله به المحنة، وأَظهر السنة، وأَفل نجم التجهم والاعتزال، وكتب بذلك إلى الآفاق سنة 234ه. ووضعت الحرب أَوزارها، وفرح بذلك المسلمون، وخاب الفاتنون.

 

ثناء العلماء على ثبات الإمام أحمد في المحنة:

قال علي بن المديني: أَعَزَّ الله هذا الدِّين برجلين ليس لهما ثالث: أَبو بكر الصديق يوم الردة، وأَحمد بن حنبل يوم المحنة.

وروي نحوه عن المزني كما في السير للذهبي.

 

وقيل لبشر بن الحارث يوم ضرب أحمد: قد وجب عليك أن تتكلم، فقال: تريدون مني مقام الأنبياء، ليس هذا عندي، حفظ الله أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه. ثم قال بعد ما ضرب أحمد: لقد أدخل الكير فخرج ذَهَبَةً حمراء.

 

وقال يحيى بن معين: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد، ولا على طريق أحمد.

 

وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها، لذهب الإسلام.

 

تتمة في ذكر

مناظرة أبي عبد الرحمن الأذرمي

لأحمد بن أبي دؤاد

 

دارت مناظرة بين أبي عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذَرْمي - روى عنه أبو داود والنسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، ووثقه أبو حاتم والنسائي - وبين أحمد بن أبي دؤاد، في مجلس الخليفة الواثق بالله.

 

أخرجها الخطيب في تاريخ بغداد، ومن طريقه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد، وابن قدامة في التوابين، وأخرجها الذهبي في سير أعلام النبلاء، والآجري في الشريعة، وأوردها ابن كثير في البداية والنهاية. وإليك أخير الكريم سياق القصة بطولها، لحسنها وملاحتها:

 

قال الخطيب في تاريخه:

كان هارون الواثق بالله، أشخص شيخا من أهل أذنة للمحنة، وناظر بن أبى دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقال: إنه كان أبا عبد الرحمن الأذَرْمي.

 

أخبرنا بقصته محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أحمد بن سندي الحداد قال: قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا اسمع قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قال:

 

حضرت المهتدى بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك، واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت انظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه، حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثة، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت، فقال لي: يا صالح.

 

قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائما.

 

فقال: في نفسك منى شيء تريد أو قال تحب أن تقوله؟

 

قلت: نعم يا سيدي.

 

فقال لي: عد إلى موضعك. فعدت وعاد إلى النظر، حتى إذا قام، قال للحاجب: لا يبرح صالح، وانصرف الناس، ثم أذن لي، وهمتني نفسي، فدخلت فدعوت له.

 

فقال لي: اجلس. فجلست.

 

فقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟

 

قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه، وتأمر به.

 

فقال: أقول أنا أنه دار في نفسي، أنك استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول إن القرآن مخلوق.

 

فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل.

 

فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلتَ.

 

فاطرق مليا، ثم قال: ويحك اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق.

 

فسري عني، وقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين.

 

فقال: ما زلت أقول أن القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق، حتى أَقْدَم أحمدُ بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة فأُدخِلَ الشيخُ على الواثق مقيدًا، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة.

 

فرأيت الواثق قد استحيى منه، ورق له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فبلغ وأوجز.

 

فقال له الواثق: اجلس. فجلس.

 

وقال له: يا شيخ، ناظر بن أبى دؤاد، على ما يناظرك عليه.

 

فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبى دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة.

 

فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له، غضبا عليه، وقال: أبو عبد الله ابن أبي داود يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت.

 

فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، ما بك، وايْذَنْ في مناظرته.

 

فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.

 

فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما يقول.

 

قال: افعل.

 

فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بما قلت؟

 

قال: نعم.

 

قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمره الله به في أمر دينهم؟

 

فقال: لا.

 

فقال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟

فسكت بن أبى دؤاد.

 

فقال الشيخ: تكلم. فسكت.

 

فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين واحدة.

 

فقال الواثق: واحدة.

 

فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز و جل حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} كان الله تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟

  • 47
  • 7
  • 151,067

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً