دور العلم في بناء كوريا الجنوبية
ويكفينا في هذا المقام أن نقول: إنَّ كل ما يسير على أرض كوريا مصنوعٌ بمصانعها، من القطارات، والأتوبيسات العامة والخاصة، والسيارات، واللوريات المختلفة من جميع الأحجام، ومترو الأنفاق.
لقد أصبحت كوريا الجنوبية دولة صناعية من الطراز الأول؛ حيث تصنع كل شيء تقريبًا، فهي تصنع الطائرة F-16 الأميركية بأسعار أرخص من أميركا ذاتها، وتصنع القطع البحرية والأسلحة المختلفة، وتصنع الأقمار الصناعية المختلفة، وجميع أنواع الكهربائيات والإلكترونيات، بالإضافة إلى تصنيعها للآلات الصناعية نفسها، والأهم من ذلك أن القاعدة الصناعية الكورية يمكنها التحول من صناعة إلى أخرى بسرعة فائقة حسب السوق الدولي للسلع وفي سهولة تامة[1].
ويكفينا في هذا المقام أن نقول: إنَّ كل ما يسير على أرض كوريا مصنوعٌ بمصانعها، من القطارات، والأتوبيسات العامة والخاصة، والسيارات، واللوريات المختلفة من جميع الأحجام، ومترو الأنفاق...، وبالفعل يصعب على الناظر داخل السوق الكوري أن يجد أيَّة ماركة أجنبية في الطريق، أو أية سلعةٍ مستوردة، هذا بالإضافة إلى حقيقة مهمة، وهي أن الشعب نفسه حريص على تشجيع منتجه المحلي، فالمحلات مكتظة بالسلع المستوردة بناء على حرية السوق السلعي داخل الدولة، ومع هذا نجد الأثرياء الكوريين يركبون السيارات الكورية، ويستعملون المنتج الكوري حتى لو كان من إنتاج شركة منافسة كورية، ولا يشترون السلع المستوردة[2].
كما تحتل الصناعات الإلكترونية الكورية المركز السادس في العالم بالنسبة للإنتاج، والخامس بالنسبة للتسويق، وتحتل كوريا المركز الثاني بعد اليابان في إنتاج الأدوات المنزلية الكهربائية المعمِّرة بمختلف أنواعها، وتحتل كوريا المركز الثالث على العالم بعد اليابان والولايات المتحدة في صناعة الذاكرات الإلكترونية للكمبيوترات[3].
واللافت في تجربة النهضة الكورية هو الدور المحوري للعلم فيها؛ فلقد أدركت كوريا مبكرًا أنه لا أمل لنهضتها إلا بتحقيق طفرة علمية وتكنولوجية تمكِّنها من تعويض افتقارها الشديد للموارد الطبيعية.
كما أنَّ من أهم الدروس الجليّة التي يمكن استخلاصها من النهضة العلمية لكوريا الجنوبية - أيضًا - عملها بقاعدة: البداية من حيث انتهى الآخرون، وقد قادتها هذه القاعدة إلى اتِّباع سياسة نقل التقنية الحديثة، ثم دراستها والاستفادة منها، وأخيرًا تطوير هذه التقنية وسبقها.
وإذا نظرنا لعملية نقل التقنية في كوريا، نجد أنها تبدأ بمرحلة التخطيط، وقد اضطلعت الحكومة الكورية بتلك المرحلة بمشاركة ثانوية للمؤسَّسات الكورية الخاصة العملاقة، والتي خضعت لها في معظم الأحيان، وقد كانت الحكومة في البداية تختار أفضل الشروط التي يقدمها المورِّد لنقل التقنية وليس أفضل تقنية بالضرورة، ثم قامت الحكومة الكورية بعد خطوة نقل التقنية بخطوة مهمة أخرى وهي إدماج التقنية الحديثة في المصانع الكورية، ثم يلي تلك الخطوة مرحلة البحث والتطوير لإنتاج تقنية محلية أكثر تقدمًا[4].
ومن أبرز الأمثلة العملية التي توضح كيفية نقل كوريا للتقنية الحديثة هو خطواتها لإنتاج أول سيارة كورية الصنع، حيث قامت كوريا باستيراد سيارات تويوتا وفورد شبه مفككة ثم بدأت بتجميعها محليًا، وبعد القيام بدراسات علمية على مكونات هذه السيارات، ودراسة إمكانية استبدال أجزاء محلية الصنع ببعض الأجزاء، تمكنت كوريا من تصنيع السيارة (هيونداي) محلِّيًّا بنسبة 96%[5]، ومن هذا المثال تتضح لنا السياسة التي اختارتها كوريا في مجال البحث والتطوير ذاته، فهي إذا قورنت بالدول المتقدمة نجدها لم تستثمر بالصورة الكافية في تطوير تقنية مستقلة، ولكنها اعتمدت على التقنية المستوردة؛ حيث كانت تستوعبها وتحسنها، ثم تقدم بديلاً محليًّا لبعض مكوناتها أو تطورها لتخرج بمنتج جديد تمامًا، وبهذا وقفت كوريا في منتصف الطريق تقنيًا؛ فهي أكثر تقدمًا من الدول الأخرى المصنعة حديثًا، وأقل من اليابان والولايات المتحدة.
كما قامت كوريا الجنوبية في خطتها الأولى بالتركيز على تصنيع السلع ذات القبول الدولي الواسع لضمان سهولة تسويقها، مثل: صناعة النسيج، وصناعة الأحذية، وقد تم استخدام التقنية العالية في تلك الصناعات لزيادة الميزة التنافسية للسلعة الكورية على مثيلاتها في السوق الدولي، وقد تم إنشاء المعهد الكوري لتنمية العلوم والتقنية الذي يرأسه رئيس الجمهورية الكورية بنفسه، للقيام بتلك المهمة، كما تم إنشاء مدينة كاملة لمعاهد الأبحاث والتقنية اسمها مدينة (تدوك)، وبها 34 معهد أبحاث بعضها تابع للحكومة الكورية، وأغلبها تابع للشركات الخاصة، وتقوم تلك المعاهد بتخريج الفنيين المطلوبين للعمل في الشركات المختلفة، وفيها يتم عزل الدارسين عن العالم الخارجي للتفرغ للدراسة والأبحاث فقط، وذلك بإقامة المدينة بين سلسة من الجبال، وأقرب مدينة لها على بعد 20 كيلومتر تقريبًا[6].
لم يكن ممكنًا النجاح في تحقيق الأهداف الكورية بمجرد نقل التقنية المتقدمة؛ ولذا اتجهت الدولة إلى إعداد كوادر قادرة على استقبال هذه العلوم المتقدمة والاستفادة منها، ثم تحمُّل عبء التطوير والابتكار، ومن هذا المنطلق قامت الحكومة الكورية بمراجعة شاملة لنظامها التعليمي ليصبح مؤهَّلاً لإمدادها بالكفاءات العلمية المطلوبة.
وللحق فقد كان التعليم الكوري يواجه العديد من المشاكل، وهو في ذلك مثل العديد من الأنظمة التعليمية في مختلف أنحاء العالم، ولكن دولة مثل كوريا تريد النهوض والتقدم تعظم في عين المسئولين بها هذه المشاكل، وتصبح في نظرهم كوارث يجب معالجتها والاحتراز من آثارها، وعلى سبيل المثال نجد أن مرحلة التعليم الثانوي الكورية، كانت تعاني من كونها أكاديمية التوجه وجسرًا للجامعة أساسًا، مع انفصالها عن الاقتصاد، وكانت المدارس المهنية ملتقى الطلبة الفاشلين انتظارًا لدخولهم امتحان القبول بإحدى المعاهد أو الجامعات، كما كانت المدارس المهنية المختلفة وخاصة الفنية منها غير مرتبطة بالقطاع الصناعي ومفتقرة للتسهيلات اللازمة، وظل الوضع هكذا حتى بداية السبعينيات؛ حيث أُدْخِل عدَّة تعديلات على النظام التعليمي فلعبت المعاهد المتوسطة المهنية دورًا مهمًا في سَدِّ الاحتياجات للعمالة الفنية المدربة في ظل تزايد الطلب عليها عامًا بعد عام، وكانت الدراسة في هذه المعاهد تمتد لثلاثِ سنوات بعد المرحلة الثانوية، وقد بلغ عدد هذه المعاهد في تلك الفترة حوالي 118 مؤسسة لتخريج الفنيين، بينما يُكرَّس 20- 50% من حصة الدخول للجامعات لهؤلاء الخريجين الذين يريدون استكمال دراستهم في ذات المجال، ومن أهم النقاط الإيجابية التي تساعد هذه المعاهد على أداء رسالتها التعاون الوثيق بينها وبين المؤسسات الصناعية العملاقة لتسهيل التدريب العملي في المواقع الصناعية، وذلك بجانب تشكيل حوالي 641 لجنة تعاونية في مختلف المجالات مهمتها التنسيق بين المصنع والهيئة التعليمية، مما أدى إلى تخريج كوادر فنية مدربة على أعلى مستوى وقادرة على استيعاب الوسائل الحديثة في الصناعة[7].
وأُنشئت مدرسة العلوم والتقنية في عام 1983م، مع السماح لخريجيها بالالتحاق بجامعة العلوم والتقنية، وإعطاء هؤلاء الطلاب الأولوية في المنح والبعثات، وذلك بجانب إنشاء مدارس للنابغين علميًا، و12 معهدًا علميًّا، و79 مركزًا للأبحاث، وإنشاء صندوق للتعليم العلمي وإنشاء شبكة معلومات بين المعاهد البحثية، وقد أسفرت الجهود الحكومية في الدفع بالجانب التطبيقي للتعليم في الجامعات إلى ارتفاع عدد المهندسين الخريجين من 5.000 في عام 1971م إلى 15.000 في عام 1982م[8].
وقد بلغ الإنفاق على التعليم المهني في كوريا 59% من ميزانية التعليم في عام 1991م، وفي عام 2002م كان هناك 741 مدرسة ثانوية مهنية يدرس فيها 535.363 ألف طالبٍ[9].
وقد تأثرت السياسات التعليمية الكورية كثيرًا بالنظام التعليمي في اليابان والولايات المتحدة الأميركية، كما بعثت أميركا بمساعداتها وخبرائها إلى كوريا، ويعتبر معهد كوريا لتنمية التعليم من أهم المؤسسات الكورية التي أسهمت في تطوير نظام جديد للتدريس مثل البرامج المرئية ومواد التعليم الذاتي[10].
أمّا عن مراحل التعليم المختلفة، فالتعليم الابتدائي في كوريا إلزاميٌّ، وتصل نسبة التسجيل فيه إلى 100 %، وكذلك أصبح التعليم الإعدادي إلزاميًا في كل أنحاء كوريا اعتبارًا من عام 2002م، وقد كانت نسبة الطلاب للمعلمين في المدارس الابتدائية 58.8 طالبًا للمعلم الواحد في عام 1960م، إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 28.1 طالبًا للمعلم الواحد في عام 2002م، كما تم إنشاء جامعة كوريا المفتوحة الوطنية للشباب والبالغين العاملين[11].
هذا وفد وصلت نسبة الطلبة إلى عدد السكان في كوريا الجنوبية عام 1991م إلى 395 لكل 10.000 وهي من أعلى النسب في العالم بجانب الولايات المتحدة وكندا[12].
كما يُعَدُّ من أهم إنجازات السياسة التعليمية في كوريا الجنوبية - والذي أسهم بقوة في النهضة العلمية - المضمون المعنوي الذي تحتويه الكتب المدرسية، ففي ظلَّ نظام الرئيس (بارك شونج) عملت المناهج على التقليل من أهمية القيم الفردية، وركزت الكتب على أهمية الطاعة والتعاون والولاء للوطن، كما أكّدت كتب الأخلاق للمرحلة الوسطى من التعليم على أنَّ العمل الدؤوب والدراسة والزهد وتهذيب ومراقبة النفس من أهم صفات الفرد، وقد اعتبر البعض أن هذه القيم المقدَّمة في المناهج الدراسية الكورية هي أهم الأساليب التي حققت بها كوريا إعجازها التنموي[13].
ويعتبر علم الإدارة العامة من أهم العلوم التي أسهمت مباشرة في المعجزة الكورية، فالتعليم الإداري أفرز القيادة القادرة على التخطيط التي أسهمت في وضع السياسات المختلفة سواء في المؤسسات الصناعية العملاقة أو في الحكومة، بالإضافة إلى العمالة الماهرة المنظمة، كما أسهم علم الإدارة في تحديد المهارات اللازمة لصنع القرار والتخطيط المركزي وتعبئة الموارد، ووضع البرامج التنموية، وهي كُلُّها مهامٌّ لازمة لدولة تأخرت في التصنيع مثل كوريا[14].
وبجانب الاهتمام بالتعليم أَوْلَت كوريا عناية خاصة للمُعلِّم الكوري الذي هو بمثابة المنفذ للخطط والتعديلات التعليمية التي طرأت خلال المراحل السابق عرضها، لقد كان المدرس هدفًا كما كان منفذًا لتلك السياسات؛ فمنذ الستينيات تم الارتقاء بالمعاهد المتوسطة الخاصة بتأهيل معلمي المرحلة الابتدائية، كما موَّلت الحكومة كلياتِ المعلمين، بل حرصت على أن يُلحَق بها مدرسةٌ ابتدائية ومتوسطة وثانوية؛ وذلك كي يتم تدريب المعلم بصورة عملية، كما اشتملت التعديلات الكيفية في الثمانينيات على ضرورة فرض امتحان قدرات ومقابلة شخصية للمتقدمين لمعاهد المعلمين، هذا مع إعفاء الطلبة في كليات المعلمين من بعض المصاريف بنسبة قد تصل إلى 40% من قيمة المصروفات الدراسية، وفي إطار تحسين ظروف المعلم والارتقاء بمستواه العلمي – أيضًا - تم توفير دورات تدريبية خلال العمل لتحسين المستوى أو للحصول على شهادات إضافية للترقية أو للتأقلم، هذا بالإضافة إلى قيام وزارة التعليم الكورية بإرسال بعثات من المعلمين إلى الخارج للاستفادة من الجديد في نظم التدريس، وقد تم بالفعل إرسال 2.119 مدرس من عام 1978 إلى 1988م في تلك البعثات، أمّا المدرس الجامعي فهو محل للتقييم المستمر من قِبَل الطلاب كنوع من الرقابة على مستواه[15].
أمّا عن تثقيف المجتمع ونشر المعرفة فنجد في كوريا العديد من المكتبات بأنواعها المختلفة، كالمكتبات القومية والعامة والمتخصصة وغير المتخصصة، ومكتبات التعليم العالى والمدارس، وقد بلغ عدد المشتركين بها في أوائل التسعينيات حوالي 24 مليون فردٍ، وبها حوالي 68 مليون كتابٍ، وهي معدلات عالية بالنسبة لدولة حديثة النمو[16].
وقد جاء في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البنك الدولي لعام 2006م أنَّ كوريا الجنوبية نجحت في تحقيق نسبة محو للأمية في شبابها مابين 15 – 24 عامًا وصلت إلى 99.2 % طبقًا لتقديرات 1991م[17].
كما وصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 657 من كل ألف مواطن كوري في عام 2003م.
وبلغ عدد براءات الاختراع الممنوحة للمقيمين في كوريا الجنوبية 738 لكل مليون نسمة في عام 2004م.
كما أنفقت الحكومة الكورية في عام 2003م على البحث والتطوير نسبة 2.6% من إجمالي ناتجها المحلي، وهي تمثل نسبة كبيرة في ظل التزايد المستمر لقيمة الناتج المحلي الإجمالى لكوريا الجنوبية والذي بلغ 1.18 تريليون دولار في عام 2006م[18].
ووصل عدد الباحثين إلى 3.187 باحثًا من كل مليون فرد في عام 2003م.
كما بلغت الصادرات المصنعة نسبة 92% من إجمالي الصادرات الكورية عام 2004م، وهذا مع العلم أن الصادرات التي تحتوي على تقنية عالية مثّلت 33% من إجمالي الصادرات المصنَّعة في عام 2004م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أ. محمد أمين شلقامي، فهم التجربة الكورية وسبل الاستفادة منها، 45.
[2] نفس المصدر السابق،45.
[3] نفس المصدر السابق، ص46.
[4] د. محمد السيد سليم: النموذج الكوري للتنمية ص210.
[5] المصدر السابق ص208.
[6] أ. محمد أمين شلقامي: فهم التجربة الكورية وسبل الاستفادة منها ص37.
[7] د. محمد السيد سليم: النموذج الكوري للتنمية ص 187.
[8] نفس المصدر السابق، 192.
[9] الصفحة الرسمية للجمهورية الكورية الجنوبية على شبكة الإنترنت.
[10] النموذج الكوري للتنمية،197،199.
[11] الصفحة الرسمية للجمهورية الكورية الجنوبية على شبكة الإنترنت.
[12] النموذج الكوري للتنمية،196.
[13] د. محمد السيد سليم، النموذج الكوري للتنمية،191
[14] المصدر السابق، ص193.
[15] د. محمد السيد سليم، النموذج الكوري للتنمية، ص189، 190.
[15] المصدر السابق، ص196.
[17] تقرير التنمية البشرية لعام 2006م.
[18] كتاب الحقائق الدولي لعام 2007م.
- التصنيف:
- المصدر: