الإمام الشوكاني وموقفه من الدعوة السلفية الإصلاحية (2/3)
ومع كلِّ ما تقدَّم، فالإمام الشوكاني رحمه الله كما يتضِح من نصوص كلامه، ومِن موقفه حيالَ هدم القباب المشيدة على القُبور في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهات (ذَمار) على ما ذكر هذا في ترجمة الإمام سعود بن عبدالعزيز كان من المناصرين للدَّعوة السلفيَّة، ولم يداخلْه أيُّ شكٍّ في صحَّتها، ولا يتطرَّق الوهم إلى مَن له اطلاعٌ واسع على مؤلَّفات الإمام الشوكاني في مجملها: أنَّه رحمه الله من أشدِّ المناصرين لتطهير العقيدة السلفيَّة مما أُلْصِق بها من بدعٍ وخرافات،
- التصنيفات: ترجمات - تراجم العلماء -
يَحسُن استعراض ما ورد في كتاب "البدر الطالع" للإمام الشوكاني، عن الدعوة السلفيَّة الإصلاحيَّة التي قام بها الإمامُ المجدِّد الشيخ محمدُ بن عبدالوهَّاب.
فقد تحدَّث عنها في موضعَينِ:
أحدهما في ترجمة الإمام سعود بن عبدالعزيز، فقد قال في ترجمته[1]:
"وكان جدُّه محمد شيخًا [أميرًا] لقريته التي هو فيها، فوصل إليه الشيخ العلاَّمة محمَّدُ بن عبدالوهاب الداعي إلى التوحيد، المنكِر على المعتقدين في الأموات، فأجابَه وقام بنصره، وما زال يُجاهد مَن يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غَلبتْ عليها أمورُ الجاهليَّة، وصار الإسلامُ فيها غريبًا، ثم مات محمد بن سعود، وقد دخل في الدِّين بعضُ البلاد النجديَّة، وقام ولده عبدالعزيز مقامَه، فافتتح جميعَ الدِّيار النجديَّة والبلاد العارضية، والحسا والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكَّة والمدينة وغالب جزيرة العرب، وغالبُ هذه الفتوح على يدِ سعود، ثم قام بعدَه ولدُه سعود، فتكاثر جنودُه، واتسعتْ فتوحُه، ووصلت جنوده إلى اليمن، فافتتحوا بلادَ (أبي عريش) وما يتَّصل بها، ثم تابعهم الشَّريف حمود بن محمد شريف (أبي عريش) وقد تقدَّمت ترجمتُه وأمدُّوه بالجنود، ففتح البلاد التهاميَّة كاللُّحَيَّة والحُدَيْدَة، وبيت الفقيه وزَبِيد، وما يتصل بهذه البلاد، وما زالَ الوافدون من سعود يَفِدون إلينا إلى صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور، وإلى حضرة ولدِه الإمام المتوكِّل بمكاتيب إليهما بالدَّعوة إلى التوحيد، وهدمِ القبور المشيدة، والقِباب المرتفعة، ويكتب إليَّ أيضًا مع ما يصل من الكتب إلى الإمامَين، ثم وقع الهدمُ للقِباب والقبور المشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار وما يتصل بها".
ثم ذكر محاربةَ والي مصرَ للدولة السعوديَّة قائلاً: وهو الآن في مكَّة، والحرب بينه وبين سعود مستمرَّة، ثم ذكر وفاةَ سعود سنة 1229م، وقيام ولده عبدالله بالأمر بعده،
وأضاف: وقد أفردتُ هذه الحوادث العظيمة بمؤلَّف مستقلٍّ.
وقال في ترجمة الشريف غالب، بعد هزيمة الشريف سنة 1212 من قِبل الإمام عبدالعزيز بن سعود،
وأضاف في وصف قوَّة هذا الإمام[2]: "فقد سمعنا أنَّه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر، وغالب بلاد الحِجاز، ومَن دخل تحتَ حوزته أقام الصلاة والزَّكاة والصيام، وسائرَ شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبُهم؛ إمَّا رغبةً وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدِّين، بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئًا، ولا يقومون بشيء من واجباته، إلاَّ مجرَّد التكلُّم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج، وبالجملة فكانوا في جاهليَّة جهلاء، كما تواترتْ بذلك الأخبارُ إلينا، ثم صاروا الآن يُصلُّون الصلواتِ لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلاميَّة على أبلغ صفاتها".
واسترسل في وصْف قوَّة الجيوش، وانقياد سكَّان السراة، ودخولها تحتَ الطاعة،
مضيفًا[3]: "وتبلغنا عنه أخبارٌ اللهُ أعلم بصحتها؛ من ذلك أنَّه يستحلُّ دَمَ مَن استغاث بغير الله من نبيٍّ أو وليٍّ أو غير ذلك، ولا ريبَ أنَّ ذلك إذا كان مِن اعتقاد تأثير المستغاثِ به كتأثير الله، كُفرٌ يصير به صاحبُه مرتدًّا، كما يقع في كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاءَ حوائجهم، ويُعوِّلون عليهم زيادةً على تعويلهم على الله سبحانه ولا يُنادون الله جلَّ وعلاَ إلاَّ مقترنًا بأسمائهم، ويخصُّونهم بالنِّداء منفردين عن الرَّب، فهذا من الكُفر الذي لا شكَّ فيه ولا شُبهة، وصاحبه إذا لم يتبْ كان حلالَ الدم والمال كسائر المرتدِّين، ومِن جملة ما يبلغنا عن صاحب نجد أنَّه يستحلُّ سفكَ دمِ مَن لم يحضر الصلاة في جماعة، وهذا إن صحَّ غير مناسب لقانون الشَّرع، نعمْ مَن تَرَك صلاة، فلم يفعلها منفردًا ولا في جماعة، فقد دلَّت أدلةٌ صحيحة على كُفره، وعُورضت بأخرى، فلا حرجَ على مَن ذهب إلى القول بالكفر، إنَّما الشأن في استحلال دمِ مَن تَرَكَ مجرَّد الجماعة ولم يتركها منفردًا".
وقال عن الإمام محمد بن سعود[4]:"وقد رأيتُ كتابًا من صاحب نجد، الذي هو الآن صاحبُ تلك الجهات، أجاب به على بعضِ أهل العِلم، وقد كاتَبَه وسأله بيانَ ما يعتقده، فرأيتُ جوابَه مشتملاً على اعتقاد حَسَن، موافق للكتاب والسُّنة".
وأضاف[5]:"وفي سنة 1215هـ وَصَل مِن صاحب نجد المذكور مُجلَّدان لطيفانِ، أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله أحدُهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبدالوهاب، كلُّها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشِّرك الذي يغلبه المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيِّدة، مشحونةٌ بأدلة الكتاب والسُّنة، والمجلد الآخَرُ يتضمن الردَّ على جماعة مِن المقصِّرين من فقهاء صنعاء وصعدة، ذاكروه في مسائلَ متعلِّقةٍ بأصول الدين وبجماعة من الصَّحابة، فأجاب عليهم جواباتٍ محرَّرةً مقرَّرة محقَّقة، تدلُّ على أنَّ المجيب من العلماء المحقِّقين، العارفين بالكتاب والسُّنة، وقد هدم عليهم جميعَ ما بنَوْه، وأبطل جميع ما دَوَّنوه؛ لأنَّهم مقصِّرون متعصبون، فصار ما فعلوه خزيًا عليهم، وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا مَن تصدَّر ولم يَعرف مقدارَ نفسه".
ثم ذكر دخول بلاد أبي عريش وأشرافها في طاعة صاحب نجد، وتزلزل الدِّيار اليمنيَّة بذلك، والاستيلاء على بعض دِيار تهامة، وقال: "وجرتْ أمورٌ يطول شرحُها، وقد أفردتُ ما بلغني من ذلك في مصنَّف مستقل"، إلى آخِر ما ذكر.
لم أجد في كتاب "البدر الطالع" للشوكاني ترجمةً للإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ ولكنَّه أثناء تحدُّثه عمَّا دعا إليه من تجديد العقيدة السلفيَّة، وتطهيرها من البدع والخُرافات، يصرِّح بموافقته على ذلك،
ولعلَّه أورد له ترجمةً في الكتاب الذي أفرده حين قال: "وجرتْ أمورٌ يطول شرحُها، وقد أفردتُ ما بلغني من ذلك في مصنَّف مستقل"، فلعلَّه اكتفى بترجمة الشيخ التي أوردها في هذا الكتاب، وقد يقال بأنَّ الشوكاني رحمه الله وهو المقدَّم عندَ ثلاثة أئمَّة من الأئمَّة الزَّيديِّين في عهده، في جميع الشؤون الدِّينيَّة، وقد يَكِلون إليه أمورًا أخرى تتعلَّق بالسياسة كما في مكاتباته عنهم رؤساء الدَّولة السعوديَّة، فلعلَّ مقامَه هذا، وخشية من أن يحدث ما لا يَرْضَى لم يترجم الشيخ في هذا الكتاب.
وإن كنتُ أرى مقامَ الشوكاني أرفع قدرًا، وأعلى منزلةً في العِلم الذي يُقدِّم خِدمتَه ونشْرَه على كلِّ ما عداه من الاعتبارات الأخرى.
ويأتي القولُ في القصيدة التي نشرها الشيخ حامد الفقي في مجلة "الإصلاح" التي كان يُصدرها في مكَّة في الجزء الذي صَدر في شهر المحرَّم سنة 1349هـ في رثاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والتي سَبَقت الإشارة إليها، ولم يُوردها محقِّق الدِّيوان، وإنَّما اكتفى بنقْل أبيات منها؛ اعتمادًا على نشْر الشيخ حامد الفقي لها.
ومن المؤسِف أنَّ الشيخ حامدًا لم يذكرْ لهذه القصَّة مصدرًا، ومعروف عنه أيضًا رحمه الله أنََّه كان يسعى بمختلف الوسائل للتزلُّف والتقرُّب لمناصري الدعوة السلفيَّة من رؤساء وعلماء؛ ولهذا فليس من المستبعَد أن يكون نشرُه لهذه القصيدة مِن هذا القبيل.
وقد تحدَّثت بِأَخَرَةٍ إلى الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب عن القصيدة، وأنَّني سبق أن قرأتُ ما فهمت منه بأنَّها قيلتْ في رثاء أحد مناوئي دعوة الشيخ، ووالد الدكتور وهو من أصدقائي الشيخ محمد بن حسن الضبيب، من المثقَّفين الواسعي الاطِّلاع والعناية بكلِّ ما يتعلَّق بتاريخ هذه البلاد وعلمائها، فما كان من الدكتور أحمد حين أكرمني بالزِّيارة بأن قَدَّم لي صورةَ أوراق، كتَبَها والدُه حولَ هذه القصيدة جاء في أولها: "لا يَخفى أنَّ هذه القصيدةَ ذُكرت في "الإصلاح"[6] للإمام محمد بن علي الشوكاني يَرثي بها شيخَ الإسلام الشيخَ محمَّد بن عبدالوهاب، والصحيح أنَّها مرثيَّة في ابن فيروز، رَثَاه بها أحدُ تلاميذه، كما أخبرني بذلك شيخُنا الشيخ عبدالله بن خلف الدُّحَيَّان الساكن في الكويت، ونائب قُضاتها اليوم، وأشار إلى مجموعةٍ نقل عنها، وقال: "وهي الآن تحت تصرُّفه، ثم قارن بين القصيدتَين، وذكر الاختلاف بينهما، وما في مجلة "الإصلاح" من تغيير، تحدَّث عنه بتوسُّع، ونَقَل قصائدَ في رثاء الشيخ ابن فيروز، وأنَّه توفي سنة 1216هـ، ثم ذكر أنَّ في هذه المراثي قصيدةً نظمها الشيخ محمد بن أحمد بن عبدالرحمن بن عبداللطيف الشافعي،
وذكر مطلعها:
مُصَابٌ دَهَى قَلْبِي فَأَذْكَى غَلاَئِلِي ** وَأَصْمَى بِسَهْمِ الاجْتِمَاعِ مَقَاتِلِي
وأورد أبياتًا أخرى منها، وآخِرها:
وَخَاطَبَهُ التَّارِيخُ فَأْلاً بِقَوْلِهِ ** تَبَوَّأْتَ عَنْ عَدْنٍ....."
انتهى ما لخصته ممَّا كتبَه الشيخ محمد الحسن الضبيب، ومنه يتضح أنَّ ما نُشر في مجلة "الإصلاح" أقلُّ ما يُوصف به أنَّه لا يُطابق الحقيقة.
ثم بعدَ كتابة ما تقدَّم اطلعتُ في مجلة "الدِّرعية"[7] في ترجمة الخطاط عبدالله بن إبراهيم الربيعي: "أنَّ مِن ضِمن ما نسخ قصيدةً في رثاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب للشوكاني محمد بن عبدالله 1250هـ، والنسخ 1336هـ" انتهى، وهذا يدلُّ على أنَّ نسبة القصيدة متقدِّم على زمن نشْر الشيخ حامد الفقي لها في مجلة "الإصلاح"، الذي نقل عنه أحمد عبدالغفور عطَّار ومَن بعده، وهذا يدلُّ على أنَّ القصيدة منسوبة للشوكاني قبلَ الشيخ حامد الفقي.
ومع كلِّ ما تقدَّم، فالإمام الشوكاني رحمه الله كما يتضِح من نصوص كلامه، ومِن موقفه حيالَ هدم القباب المشيدة على القُبور في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهات (ذَمار) على ما ذكر هذا في ترجمة الإمام سعود بن عبدالعزيز كان من المناصرين للدَّعوة السلفيَّة، ولم يداخلْه أيُّ شكٍّ في صحَّتها، ولا يتطرَّق الوهم إلى مَن له اطلاعٌ واسع على مؤلَّفات الإمام الشوكاني في مجملها: أنَّه رحمه الله من أشدِّ المناصرين لتطهير العقيدة السلفيَّة مما أُلْصِق بها من بدعٍ وخرافات، ومن الأئمَّة الداعين إلى الاجتهاد، وعدم العكوف على الموروث من آراء المشايخ، وأهل البدع والتخريف، وهو أرفعُ مقامًا من أن يُؤثِر في موقفه هذا بعضَ الجهلة الذين لا يفتؤُون يَسعَوْن لإيجاد الفُرقة بين المسلمين، وفي محاولة تشويه الدَّاعين إلى مناصرة الحق، والنَّيْل من القائمين بنشْرِه، ومِن هؤلاء ناشرُ هذا الكتاب الذي دعاه "ذكريات الشوكاني".
والمؤلِم حقًّا أن يقوم على نشْره أُناسٌ ينتمون إلى هذا القطر الكريم من البلاد العربيَّة الإسلاميَّة، الذي يربطه بإخوانه وجيرانه من مناصري الدعوة الإصلاحيَّة والقائمين بنشْرها روابطُ قويَّةٌ من القُربَى، والأُخوَّة الإسلامية، والتواصُل والتراحُم، والتساعد على البرِّ والتقوى؛ ولكن أهل الشَّرِّ لا يَلْبثون في كلِّ مناسبة أن يحاولوا طمسَ الحقائق، ولكن الله سبحانه وتعالى يُحقُّ الحق، ويُبطل الباطل.
(للحديث تتمة)
الكاتب: حمد الجاسر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ص: 273، 274.
[2] ص: 525.
[3] ص: 525، 526.
[4] ص: 526.
[5] ص: 526، 527.
[6] الجزء السادس عشر من المجلد الثاني، تاريخ 15 المحرم 1349هـ.
[7] العددان السادس والسابع، ربيع الآخر رجب، 1420هـ، ص: 177.