{واجعلنا للمتقين إماما}

منذ 2017-05-05

فكيف يستقيم أن نترك قيادة المجتمعات للعلمانيين أصحاب الرُّؤى والتصوُّرات الوافدة، الذين تسيِّرهم الشهوات، ويعانون من الغَبَش بفعل الشُّبُهات؟! ألسنا نرى فسادَهم يُداهِم حياتنا على مستوى التربية والإعلام، والاقتصاد والسياسة، والأدب والفنِّ، فلا يبقي ولا يذر؟! مَن مِنَّا يقول: (أنا لها)، فيكون للمتّقين إمامًا؟

يتدرَّج الإنسان الرباني في مراقي الكمال حتى يتجاوز بقربه من الله تحصيل التقوى، إلى مرتبة طلب الأستاذية للأمة التقيَّة؛ فعباد الرحمن الذين ذكر القرآن الكريم خصالَهم الحميدة في أواخر سورة الفرقان، رفعوا إلى ربِّهم هذا الدعاء: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]؛ أي: طلبوا بجدارة واستحقاق لا بمجرَّد ادعاء وغرور، حاشاهم منزلةَ القيادة للجموع المؤمنة، قيادة ممتدَّة في الدنيا والآخرة،

 

وقد ذكر السياق القرآني: أن الله تعالى أكرمهم بالإمامة الأخروية:  {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، وهذا يقتضي أنهم نالوا الإمامة الدنيوية، صبروا على نيلها من جهةٍ، وعلى أعبائها من جهة ثانية، والصبر في الحالين عنصرٌ أساسي وعاملٌ ضروري؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، واتَّخذها قاعدةً شيخُ الإسلام ابن تيمية بقوله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".

 

وهكذا لا يجحد المسلم ذاته، بل يسعى للقيادة الراشدة بالهمَّة نفسها التي يسعى بها أصحاب القيادة الفاسدة المتمثِّلين في الملأ الفرعوني، فقد ذكر القرآن الكريم فرعون وحاشيته؛ فقال:  {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} [القصص: 41]؛ بمعنى: أنهم كانوا في حياتهم يدعون إلى المارج الناري، والقوَّة التي رفضت السجود للإنسان، والمنهج الحضاري القائم على المنطلَق الذاتي الرافض للغيب وللقدر الإلهي، فهؤلاء نموذج الأستاذية المنقطعة عن الله المستكبرة في الأرض، وتمثلها في عصرنا الحضارة الغربية المتغطرِسة، التي يتقمَّص سلبياتها ويصدُّ عن إيجابياتها المقلِّدون الضِّعاف المهازيل في العالم الثالث، الذين لا يرون بديلاً عنها، وفيهم مسلمون لكنَّهم عَمُوا عن السنَّة الإلهية الماضية التي أشار إليها القرآن الكريم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 6]، إنها القيادة الحضارية التي تدعو إلى المنهجيَّة الإلهية، فينبغي أن ينخرط في سلكها ويتمسَّك بأهدابها كلُّ مَن يؤمن بالمشروع الإسلامي ويريد سعادة الدنيا والآخرة.

 

وبديهي أن هذه الإمامة ليست عامل تفاخر، إنما هي مسؤولية كبرى تتوافق مع التجرُّد من الإحساس بالملك؛ بما يؤدي إلى ممارسة القيادة الأمميَّة بقوة الاستخلاف مع الزهد فيها وعدم التعلُّق بها، وهي مسألة على قدر كبير من الدقة والصعوبة؛ بحيث لا يقدر عليها صبرًا وممارسة وإخلاصًا إلاَّ المتخرِّجون من مدرسة التربية الإيمانية المحرِقة؛ {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة: 45]، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه} [البقرة: 143]، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].

 

وبدل أن تقنع جماعةُ المؤمنين بالزُّهد الكاذب الذي ينمُّ عن العجز، فإن عليها أن تعبِّر عن بطولاتها وقدراتها على مستوى الكون الذي هو دائرة تكليفها؛ بطلب الإمامة والقيادة والأستاذية التي هي دائرة طموحها، فإذا كانت الفرعونية تتبجَّح بالقيادة الفاسدة، فإن الجماعة المؤمنة تقدِّم البديلَ الحضاريَّ الجامع بين الربَّانية والإنسانية، الذي تعيش البشرية في كَنَفه حياةً طيبة، وتنال الأمَّة المسلمة بفضله الحياةَ الكريمة في الدنيا، وجنةَ النعيم في الآخرة.

 

ويجدر التنبيه على احتمال الإمامة المذكورة لأوجه متعدِّدة وأشكال شتَّى، فهي ليست مقتصرةً على القيادة السياسية وسُدَّة الحكم وإن كانت تشملها بل تبتدئ بالرِّيادة الثقافية، فتنشر من خلالها الأفكار الحيَّة المنعِشة على مستوى العقيدة والتصوُّر والحياة الفردية والعامَّة؛ أي: تُحدِث إصلاحًا فكريًّا في المعاني الدينية والأذواق، والسلوك والعلاقات بين الناس والأمم، إصلاحًا يظهر فيه تميُّز المنهج الرباني المُحْكَم الذي تهوى إليه القلوب، وتستقيم بهديه العقول، وتُرَشَّد الحياة.

 

ومثل هذه الإمامة التي مارستها الجماعةُ المؤمنة قرونًا تستأنف مسارها بواسطة رجال أفذاذ ذوي إخلاص وبصيرة وحبٍّ للإسلام، وتفانٍ من أجله، يحيون سنَّة أسلافهم، فقد وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام، وهو فردٌ بأنه أمَّة؛ فقال عزَّ وجلَّ : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، ولمَّا طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الصحابة أن يتمنَّوا فتمنَّوا المال وأشياء أخرى؛ ليجعلوها في سبيل الله قال هو: "أمَّا أنا فأتمنَّى لو أن لي بيتًا من أمثال أبي عبيدة بن الجرَّاح"، وكفى بها شهادة من أمير المؤمنين في أهميَّة الرجل الكامل والمؤمن القوي ليتولَّى القيادة.

 

فكيف يستقيم أن نترك قيادة المجتمعات للعلمانيين أصحاب الرُّؤى والتصوُّرات الوافدة، الذين تسيِّرهم الشهوات، ويعانون من الغَبَش بفعل الشُّبُهات؟!

ألسنا نرى فسادَهم يُداهِم حياتنا على مستوى التربية والإعلام، والاقتصاد والسياسة، والأدب والفنِّ، فلا يبقي ولا يذر؟!

مَن مِنَّا يقول: (أنا لها)، فيكون للمتّقين إمامًا؟ 

الكاتب: عبدالعزيز كحيل.

  • 1
  • 0
  • 3,348

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً