طلاب الحلقات والتربية بالقرآن
عمر بن عبد الله المقبل
في حلقاتنا علماء كبار في أجسام صغار، ودعاة أفذاذ داخل أثواب صغيرة، ومجدّدون لهذا الدين لم يلبسوا العمائم والغتر، فهنيئاً لمن كان سبباً في بنائهم وتربيتهم بالقرآن.
- التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام - قضايا الشباب - الدعوة إلى الله -
كنتُ في بواكير العمر ممن تشرّف بارتياد الحلقات طالبًا، ثم درّستُ فيها بضع سنين، ثم تشرّفت من سنوات بالإشراف العام على مجمّع حلقات الجامع الذي كنتُ أخطب فيه؛ فخرجتُ من هذه التجربة بقناعة تامة: أن الحلقات في واقعها ـالذي عشته طالباً فمدرسّاً فمشرفاـ بحاجةٍ ماسة إلى ما يربطهم بالقرآن عملاً وسلوكاً؛ ليحقّقوا أو يقاربوا المنهجَ الذي سار عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في تربية الصحابة ـرضي الله عنهمـ بالقرآن، ثم ربّوا عليه التابعين، والذين اختصر منهجَهم التابعيُّ الجليل أبو عبدالرحمن السُلَمي بقوله: "حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل"([1])؛ فخرجت تلك الأجيالُ العظيمة، والتي فتح الله بها القلوبَ قبل الأبدان.
والمتأمل في واقع الحلقات وواقع طلابها يرى في كثيرٍ منهم فجوةً بينهم وبين ما ينبغي لحامل القرآن، "فأهل القرآن ينبغي أن تكون أخلاقُهم مباينة لأخلاق من سواهم"([2])، لا ليتأثروا فقط؛ بل ليُؤثّروا فيمن حولهم.
وطلابُ الحلقات جزءٌ من المجتمع الذي تأثّر بالإعلام التقليدي والجديد؛ فصار من المهم ـوالحال هذهـ بل من الضروري أن يكون هناك تعاونٌ بين مجمعات الحلقات وبين طلاب العلم الذين فتح الله عليهم في تدريس كتاب الله، وتفسير معانيه، والتربية بآياته؛ بحيث يرتّب مع الشيخ لإقامة درسٍ في التفسير والتدبر؛ ليحقّق الغاية التي نزل لأجلها القرآن، ألا وهي: صلاحُ القلوب، وتعبيدُها لربّها، ويركّزُ على المعاني الإيمانية والتربوية والسلوكية، مع مراعاة الطبقة المخاطبَة، فطلاب المتوسط ليسوا كطلاب الثانوية، وهؤلاء ليسوا كطلاب الجامعة، وخطاب أهل المدن ليس كخطاب أهل القرى.
ولن يجد الشيخُ عناء في إيصال رسالته متى ما حمل الهمّ، فأسماء الله وصفاته، والقصص -وخاصة قصص الأنبياء- والحديث عن اليوم الآخر، والعبادات القلبية، وغيرها كثير، كلها ميدانٌ رحبٌ للانطلاق في تربية النشء على كتاب الله.
وسيكون لهذه الدروس أكبر الأثر بعون الله إذا التزم بها الشيخُ، وواظب الطلابُ المستهدَفون على حضورها، وتم تفعيلُ الاستفادة من الدرس بسؤالٍ أو مسابقة، أو تقاريرَ ميدانية، أو غيرها من الوسائل التي تجذب الطلاب، وتحفّزهم على الانتظام ومِن ثَم: التفاعل الإيجابي مع هذه الدروس.
كما يمكن ربطها ببثٍ مباشر؛ لينتفع بها مَن لا يجد في بلده مَنْ يحملُ همّ الشباب وتربيتهم بكتاب الله، ومعالجة السلوكيات الخاطئة من خلاله، ثم نشرها بعدُ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولَربّ درسٍ ألقاه الشيخُ في مسجده، ولم يحضره إلا عشرون طالباً، انتفع به آلالافٌ وأضعافهم من وراء البحار، بل ما زالوا في أصلاب آبائهم! وبقدر الإخلاص وحسن الإعداد يَعظُم الأثَر.
ومن المستحسن أن يكون هذا الدرس على شكل دورةٍ علمية طويلة المدّة نسبياً -كسنتين أو ثلاث- وتكون أهدافه ومدّته وعدد مجالسه واضحةً للشيخ وللطلاب، بحيث تقسّم الدروس على الموضوعات التي تلبّي الحاجات الإيمانية والتربوية لدى طلاب الحلقات، يجتهد الشيخ في الإعداد لها، وليست مجرد خواطر يكتبها على ورقة صغيرة عند عتبة المسجد، ويبثها كيفما اتفق! كما يمكن وضع اختبارات يسيرة، وجوائز محفّزة، وغيرها من الوسائل.
وإنّ سورَ جزءِ المفصّلِ لمن خير ما يُبْدأُ به، وهدي السلف في هذا معروف.
ختاماً..
في حلقاتنا علماء كبار في أجسام صغار، ودعاة أفذاذ داخل أثواب صغيرة، ومجدّدون لهذا الدين لم يلبسوا العمائم والغتر، فهنيئاً لمن كان سبباً في بنائهم وتربيتهم بالقرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) مسند أحمد. ط الرسالة (38/ 466) ح(23482)..
([2]) قاله الآجري في "أخلاق أهل القرآن" (ص: 102).