شخصية داوود 2

منذ 2017-04-20

ولا شك أن نموذج نبي الله داوود ونمط حياته لن يعجب أرباب الدروشة أو المتدروشين لست أعني بالدروشة هنا ذلك الاستعمال الدارج الذي يتندر به البعض على من لم يؤتوا قدرا من الفطنة فكانوا على درجة من السذاجة غير المتكلفة لا يملكون غيرها ولا يقدرون على سواها


ولعل من يتأمل عبادة نبي الله داوود ومدى السبق والتميز الذي وصل إليه في شتى مضامير التنسك والتبتل = قد يكون صورة ذهنية متوقعة ومنطقية .
 صورة نمطية لذلك العابد الزاهد الذي لا يعرف شيئا في دنياه سوى التعبد ولا يجيد تعاملا أو يقدر على تغيير واقع أو يضع بصمة على محيطه القريب والبعيد
لكن الحقيقة أن داوود عليه السلام كان أبعد ما يكون عن تلك الصورة النمطية

لقد كان مؤثرا في واقعه مغيرا له ومدركا تمام الإدراك لأبعاده

إن الظهور القرآني الأول لداوود لم يكن في قصة تحمل اسمه 
لكنها خُتمت به
ذلك لأن الأثر الأهم والأخطر في سياق تلك القصة كان من فعل يده
القصة قصة طالوت وجالوت والتي لم ترد في أغلبها أية إشارة ولو يسيرة تفيد أن داوود كان هنالك
بين جنود طالوت
لقد جاء بنو إسرائيل لنبيهم يطلبون ملكا يحاربون العماليق تحت لوائه ويدخلوا الأرض المقدسة معه بعد سنوات من التيه ضربت عليهم جزاء وفاقا لعصيانهم موسى وعدم اتباعه إليها قبل عقود
وكالعادة لم يصدق بنو إسرائيل في وعدهم وبدأ تفلتهم بجرد إعلان نبيهم أن الاختيار وقع على طالوت ليقودهم
وتتوالى الاختبارات والتمحيصات وليتساقط بنو إسرائيل في كل اختبار ولتتناقص أعدادهم حتى لا يبقى مع طالوت بين يدي المعركة الفاصلة إلا قليلا من قليل من قليل
كل تلك الأحداث تذكر دون أي إشارة لوجود داوود
ثم كانت المعركة ونصر الله الفئة القليلة التي ثبتت مع طالوت
هنا نعلم أنه بين ذلك الجمع الصغير وتلك الفئة القليلة كان داوود
نعلم تلك الحقيقة بأبلغ وسيلة يعلن بها عن وجوده

{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}

هكذا ودون مقدمات تصدر داوود المشهد
لم يزل بعد فتى يافعا لم ينه العقد الثاني من عمره وها هو يؤثر ويغير مسار الأحداث
لقد قتل قائد الجبارين
قتل جالوت
نحن إذن لم نكن نتحدث عن متعبد مسكين ضعيف مهيض الجناح لا يملك إلا انعزالا في محراب أو انزواء في صومعة
نحن بصدد فارس  لا تقل فروسية نهاره عن عبودية ليله
ولكن هل يعقل أن تجتمع فروسية النهار، وبطولة الميدان، وقسوة الصوارم، وحدة الرماح، مع عبودية الليل، ورقة التسبيح، وعذوبة الصوت، ووجل الخشية، ودمع الإنابة ونشيج الإخبات؟!
مع داوود الإجابة : نعم.. يُعقل
لم تصرفه عبادته أبدا عن قضايا دينه وأمته ولم تحل أوراد تسبيحه وذكره بينه وبين واجبه وجهاده وبذله
لقد أدى الأمرين بمهارة كاملة وكما بلغ تمام السبق في مضمار التعبد , فهاهو يبلغه في ساحات الوغى إذ يجندل رأس الكفر وزعيم الجبارين بمهارة قتالية تنافس مهارته التسبيحية 
ومن جديد يضرب داوود مثالا مبهرا للتوازن وهذه المرة هو توازن بين التعبد وبين التأثير والإيجابية والعمل

ولعلك ستنبهر أكثر بشخصية داوود عليه السلام إذا ما تأملت يده

تلك اليد الخشنة التي تبدو عليها آثار الكد، وتظهر عليها خدوش العناء!

لكن تلك الآثار والخشونة على يده ليست فقط ترجع لحمله السيف الذي جندل به جالوت زعيم الجبارين

إنها آثار صنعته.. 
حرفته التي يأكل من عائدها.. 

لكن داوود ملك 
حاكم لقومه ممكن منتصر
لقد قال عنه الله ذلك بلفظ قطعي الدلالة "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" 

ما الذي يدفعه إذن لمثل ذاك المسلك العجيب؟!
ما الذي يضطره للتعفف عن الأكل من ملكه العتيد؟!!
و أي مهنة تلك التي اختارها ليده يأكل من ريعها؟!
صانع دروع
حداد!! 
تلكم المهنة التي يتعالى البعض عن مثيلاتها..
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}
كان هذا أمر الله لداوود عليه السلام بعد أن علمه الصنعة 
نعم.. بذلك اللفظ الذي يمتهنه الخلق اليوم , تكلم ربنا يصف ما علمه لداوود
صنعة
{وعلمناه صنعة لبوس لكم}
إنها صنعة الدروع التي يرتديها الجنود أثناء القتال وتحصنهم يوم البأس
 
يصنع لجيشه الدروع، ثم يلبسها معهم حين يحمر البأس!

دروع مختلفة عما جرت به العادة من تلك الصفائح الضخمة الثقيلة التي اعتادها الناس 
إنها دروع سابغة سردها مقدر وحلقها متداخلة من حديد ألانه الله لداوود عليه السلام 

لكن ما شأنه هو وتلك الصنعة 
الحدادة 

إنه نبي مكلم 
وملك ذو سلطان وصولجان 
وهو إلى جوار ذلك قاضٍ يحكم بين الناس ويفصل بينهم فيما شجر بينهم حين يسعون إليه طالبين عدله ومبتغين قسطاسه المستقيم

ومن قبلها هو مجاهد بطل استطاع قتل كبير الجبارين جالوت كما سبق وأشرنا

وهو مع كل ذلك كما بيَّنت بتفصيل , عابد لا يشق له غبار في مضمار العبادة 

ما له هو إذن والصناعة والحدادة؟ 
وكيف يجمع بين تكاليف الحكم، وأعباء القضاء، وهموم الدعوة، وبين تلك اللحظات التي يقتنصها، يخلو فيها بربه، ويتعالى صوته العذب بتلك التسابيح الخلابة، التي لم تتحمل الصخور الراسيات أن تسكت عنها، فسارعت لترديدها معه، منافسة بذلك الطيور، التي ما انفكت عن التأويب والتغنى معه بذكر الإله الحبيب ..
وهو مع كل ذلك صانع حداد يأكل من ريع حرفته
إن هذا لشيء عجاب!
عجبت لحاكم متطوع، وملك متوج، لا يمتلك قوت يومه، إلا من عمل يديه

ها هو الجواب يأتيك من أخيه محمد صلى الله عليه وسلم 

«ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه ، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه»  [ رواه البخاري]  

إنها الخيرية التي اعتاد داوود أن ينشدها ولا يعدل عنها لغيرها

لم يكن  داوود عليه السلام يقبل إلا الأفضل في كل شيء
حتى في رزقه ليس أفضل من كسب اليد

فليكن 
ليأكل إذن من عمل يده
 
ألهذا الحد يمكن أن يصل التعفف بعبد؟!

لله درك يا داوود: لا تسأل الناس أجرا على دعوتك وجهادك، ولا تستحب إلا أن تأكل بعزة نفس، وكد ساعدٍ، وعرق جبين ..

كيف وجد وقتًا لكل ذلك؟!!
إنه كما قلت يضرب في كل جانب أروع نماذج القصد، والتوازن بين النجاح الباهر في تكاليف الدنيا، وبين قربات الدين ..

ويكأنه مثال يُضرب لكل متنطع، يلتمس لنفسه معاذير التخاذل، ويسوِّل لنفسه القعود عن العمل والبذل والفداء والعبادة، بحجة ضيق الوقت وقلة بركته ..

كأني به لو عاش بين ظهرانينا لصاح بالمعذرين، أو بأضدادهم من العاملين الذين هم عن العبادة منصرفين قائلًا: اتقوا الله، ولا تعلقوا فشلكم وتنطعكم على شماعة الوقت، فالوقت يكفي لكل شيء، إن صدق العزم، وصلحت النية وحلت البركة

 وتلك الأخيرة , محض فضل من الله يؤتيه من يعلم في قلوبهم خيرا

وها هو ذا نموذج داوود يضرب المثل للجميع ..

ألا فلينظر المتنطعون إلى اجتهاده وعمله وحكمه وحكمته، رغم زهده وعبوديته 
وليتأمل الغافلون المتشاغلون بأعمالهم وهمومهم، في عبادته وقيامه وصيامه وتأويبه رغم مشاغل وهموم تنوء بحملها تلك الجبال التي تردد تسبيحه كأنها المزامير تعزف أجمل الأنغام ..

ولتقم عليهم الحجة، وتثبت البينة ..
فلو كان لأحد أن ينشغل عن عبادة، بسبب هموم وشغل لكان داوود 
لكن ها هو يسبح، ويذكر، كأحسن وأندى ما يكون الذكر
ويصوم ويقوم، كأحسن ما يكون الصيام والقيام
ويقضي ويحكم ويعمل يبذل ويؤدي واجباته ويقوم بمسؤولياته ثم هو يعبد علي أكمل ما يكون الجهد البشري في العبادة من التمام ..
ويصنع ويعمل وينتج

ويأكل.. 
من عمل يده

ولا شك أن نموذج نبي الله داوود ونمط حياته لن يعجب أرباب الدروشة أو المتدروشين

لست أعني بالدروشة هنا ذلك الاستعمال الدارج الذي يتندر به البعض على من لم يؤتوا قدرا من الفطنة فكانوا على درجة من السذاجة غير المتكلفة لا يملكون غيرها ولا يقدرون على سواها 

ولا أعني بالدروشة أيضا تلك الدرجة من درجات الترقي في التطور الروحي لدى المتصوفة ممن اتخذوا باب التقشف والتجوال في ربوع الأرض سبيلا لبلوغ مراتب الزهد والتواضع والابتعاد عن التملك المادي 

لكنني أقصد به نمط المتدين المتقوقع على نفسه المنعزل عن واقعه فلا يعني بأمور الناس  ولا يعرف شيئا عن أزماتهم ولا يهتم بمشاكلهم وكأنه لا يعيش معهم على ظهر الكوكب نفسه

إنه نمط يستريح للسذاجة ويتكلفها ويأوي إلى الخواء الفكري ويختاره ويهرب من المعرفة والفهم

لا فارق يذكر عنده بين حق وباطل ولا صواب أو خطأ فهو لا يدري -قاصدا- ما يحدث من حوله وهو على كثرة تلاوته للقرآن يكاد يعطل آيات العمل والأخذ بالأسباب  ويبتعد تماما عن مدلول آيات مكر الماكرين وكيد الخائنين وإفساد المضلين أو على أحسن تقدير يعرف مدلولات ومعاني تلك الآيات المحكمات لكنه يظن أن ليس له شأن بها وأنه غير مكلف أو مخاطب بتكليفاتها فما عليه إلا المكث في محرابه والتبتل بعباداته وأوراده والخير سيأتيه بغير بذل ولا تعب والرزق سينهمر عليه من السماء مع المطر ومن دون سعي أو عمل ومشاكل أمته ستحل بدون هم ولا اجتهاد ومكابدة

ينسى المتدروش أو يتناسى أن في نفس القرآن الذي يقرأه {ولينصرن الله من ينصره}  و {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} ويغفل أو يتغافل عن تكرار قوله تعالى "ثم أتبع سببا" وعن أسباب تنزل الفتح وظهور الحق والنماذج الجلية في كتاب الله لأقوام لم يكتفوا بالتعبد ولم يركنوا إلى المحاريب مقصرين في واجب الأخذ بالأسباب 

يتغافل صاحبنا الدرويش ومن يدروشونه ويحبون له الدروشة عن كل ذلك ويتناسى أن المؤمن كيس فطن وأنه ليس بالخب وليس الخب يخدعه 

والدرويش يفعل كل ذلك بحجة التفرغ للعبادة والتنسك وكأن الذي تعبده بالصلوات والأذكار والدعاء لم يكلفه بالعمل والمجاهدة والمصابرة والبذل أو أنه خلقه بمعزل عن مخالطة باقي المخلوقين ولم يختبره ويبتليه بمعاملتهم والتأثر والتأثير فيهم 
إن الركون للعزلة الاختيارية والتقوقع على الذات بحجة التعبد والتنسك هو رهبانية لا يعرفها الإسلام  و في أغلب الأحيان ما هي في الحقيقة إلا دروشة هروبية يلجأ إليها المتكاسل العالة الذين {لا يقدر على شيء وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}
وأين ذلك من منهج أتقى الخلق لله وأشدهم له خشية وأكثرهم عبادة؟ 
أين تلك الشبهات الانعزالية من نهج داوود عليه السلام وقد استعرضنا بوضوح ذلك النجاح المبهر الذي حققه في شتى نواحي الحياة جنبا إلى جنب مع نجاحه التعبدي وسبقه في أبواب القربات المختلفة

 وعلى نفس النهج سار نبينا صلى الله عليه وسلم 
 إنه لم يدخر وسعا في العمل والدعوة والجهاد ورغم ذلك كان أعبد الناس وأخشعهم 

لم يمنعه القيام والصيام والدعاء والتبتل من الاعتناء بأمر أمته ومعالجة مشاكلها والأخذ بالأسباب المادية المتوفرة لذلك 

ثم كان التوكل 

تجده غشية غزوة بدر مستيقظا داعيا باكيا مستغيثا مبتهلا فإذا أشرق الصبح وكان اللقاء واشتد البأس وجدته في الصفوف الأولى يحتمي به أصحابه بين غبار ساحات الوغى فإذا جن الليل من جديد آوى إلى محرابه يذرف دمع الخشية ويحويه همس مناجاة السحر واستغفار الغفار
هكذا كان وهكذا كان الأنبياء من قبله ومثالهم الأوضح الذي نصحبه في هذه السطور
داوود عليه السلام
وكذا كل من سار على نهجه من المتوازنين الذين يعطون لكل شيء قدره فلا  العبادة حالت بينهم وبين  هذا نجاحهم الواضح و الذي يدحض شبهات الدراويش ويدمغ حججهم
ولا النجاح والسبق وقف حاجزا بينهم وبين التقرب لمولاهم بالعبادات والطاعات والقربات

  • 0
  • 0
  • 13,789

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً