شخصية داوود 3
محمد علي يوسف
رغم أن كل ما سبق ينبيء بمدى لين جانبه ورقة روحه وحسن لسانه , فإن ذلك اللسان قد لعن قوما!
هذه النفس الرحيمة اجتمعت على لعن ذات القوم مع نفس أخرى لا تقل عنها رحمة؛ نفس المسيح عيسى بن مريم
ذلكم المبارك أينما كان والذي يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله الذي لم يجعله جبارا شقيا
هاتان النفسان الطيبتان الرحيمتان وهذان اللسانان الصادقان , صدر عنها اللعن في موضع معين
أي قوم هؤلاء الذين تمكنوا من دفع هذين العابدين الرحيمين لأن يرفعا أيديهما ويدعوان عليهم بالطرد من رحمة الله؟!
- التصنيفات: قصص الأنبياء -
ورغم ما ذكرناه سابقا من عبودية داوود عليه السلام ومع ما أسهبنا في تفصيله من ملامح تواضعه وإخباته وانكساره بين يدي ربه ورغم كونه أوابا منيبا ذكَّارا شكَّارا متبتلا تأوب الطير والجبال لتسبيحه الذي شُبِّه لفرط جماله بالمزامير
رغم أن كل ما سبق ينبيء بمدى لين جانبه ورقة روحه وحسن لسانه , فإن ذلك اللسان قد لعن قوما!
هذه النفس الرحيمة اجتمعت على لعن ذات القوم مع نفس أخرى لا تقل عنها رحمة؛ نفس المسيح عيسى بن مريم
ذلكم المبارك أينما كان والذي يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله الذي لم يجعله جبارا شقيا
هاتان النفسان الطيبتان الرحيمتان وهذان اللسانان الصادقان , صدر عنها اللعن في موضع معين
أي قوم هؤلاء الذين تمكنوا من دفع هذين العابدين الرحيمين لأن يرفعا أيديهما ويدعوان عليهم بالطرد من رحمة الله؟!
وأي ذنب منكر ذلك الذي استحق أن يخرج هذا الاستثناء من هذيْن المزكيْن المنيبين المخبتيْن وأن يحتويه وحي من ربهما تنزل عليهما في الزبور والإنجيل؟!
إنهم بنو إسرائيل مرة أخرى
ومن جديد تبرز خصلة من خصال السوء ودركات العصيان والاعتداء التي حركت في هذين القلبين الطاهرين مشاعر الغيرة والغضب لله
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة 78 - 79]
رُوي بإسناد صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله عَنْ اِبْن مَسْعُود رضي الله عنه , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ الرَّجُل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ إِذَا رَأَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْب نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيرًا , فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَد لَمْ يَمْنَعهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُون أَكِيلهُ وَخَلِيطه وَشَرِيبه , فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَان نَبِيّهمْ دَاوُد وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم ; ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " . ثُمَّ قَالَ : " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ , وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَر , وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الْمُسِيء , وَلَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه قُلُوب بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض , وَلَيَلْعَنَنَّكُم كَمَا لَعَنَهُمْ» "
يمكنك أن تقول باختصار أنه قد حدث تطبيع مع المعصية
هذا التطبيع كان دليلا على شيء استحقوا لأجله اللعن
لقد كان دليلا على غياب الغيرة ومن ثم غياب المحبة
محبة الله
إن المحب يغار وغيرته تلك من أوضح علامات حبه..
فما بالك بمن أحب ربه؟!
وإن داوود وعيسى بن مريم كان محبين لربهما
لذلك لم يستطيعا السكوت والتعايش مع أقوام هان مقام الله في قلوبهم لهذه الدرجة
إن الغضب لله والغيرة على حرماته من أهم نتائج الإيمان وعلاماته
فكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها فإن الغيرة لا تنفك عن تلك المحبة
وبالتالي فالمؤمن المحب لله يغضب إذا ما انتهكت حرمات مولاه، ويغار إذا تطاول أحد على مقامه المقدس..
بل إن الجمادات التي يسميها الناس بغير العاقلة تغضب لله، وتغار على مقامه أن يُساء إليه!
لقد كادت السموات أن تتفطر والأرض أن تتشقق، والجبال أن تتهدم لقول فيه تطاول على مقام من لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا..
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88-92].
تأمل رد فعل تلك المخلوقات حين سمعت ذلك القول، ثم قارن بينه وبين رد فعل أقوام لا تتمعر وجوههم ولا تختلج قلوبهم عند سماع ورؤية ما يضاهي ذلك القول أو يزيد عنه ثم هم لا يكتفون ببلادة مشاعر الغيرة بل ينهشون من لم تزل في قلوبهم غيرة تجعلهم لا يقبلون التطبيع مع الانتهاك والاجتراء على حرمات الله ويرفضون ذلك ولو بقلوبهم
وهم يفعلون ذلك زاعمين أنهم بهذا يرحمون الخلق ويتعايشون مع المخالف
ولو أنهم صدقوا في رحمتهم تلك لدعوا إلى الصواب وأمروا بالحق ولنهوا عن الباطل وكانت رحمتهم في أعظم مواضعها وهي رحمة الخلق بدفعهم عن سبيل النار ودلالتهم على الجنة
الحق أن قلوبهم مدعية الرحمة هي قلوب أقسى من الحجارة التي قُدت منها جبال تكاد تخر غيرة على مقام الله وحرماته
لكن قسوتهم تلك لا تظهر إلا في حق ربهم أما في حق ما عداه ومن عاداه , إذا هم يستبشرون ويرِقون، وعن المنكر أبدا لا يتناهون
ياليت داوود وعيسى ابن مريم -عليهما السلام - يشهدان تطور الأمر وتجاوزه مرحلة التطبيع مع الباطل وعدم النهي عنه ليصل إلى درك تشويه من ينهى، وامتهان من تبقي في قلبه شيئا من تلك المشاعر
مشاعر تحدث عنها الحبيب صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنَّ اللهَ تعالى يَغارُ، وإنَّ المؤمِنَ يَغارُ، وغَيرَةُ اللهِ أن يأتِيَ المؤمِنُ ما حَرَّمَ اللهُ عليهِ»
ترى ماذا كان داوود سيقول وكيف سيكون رد فعل المسيح عيسى عليهما السلام لو شهدوا من تخطوا انعدام الغيرة ووصلوا لمرحلة جديدة ومفزعة
مرحلة عداوة تلك الغيرة واحتقارها؟!
أما داوود - عليه السلام - كقاضٍ يفصل بين الناس ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه فهو يضرب مثالا آخر للكمال في هذا الجانب من جوانب شخصيته شديدة الثراء
إنه رغم عصمة النبوة التي يتمتع بها جنبا إلى جنب مع سعة العلم المشهود لرسوخه فيه بشهادة من رب العزة سبحانه وتعالى
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}
{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}
إلا إنه ومع ذلك العلم يؤصل عمليا لحقيقة كون القضاة أولاً وأخيرًا : بشرا
هم بشر يحكمُون بما يظهر لهم، يصيبهم الزلل، ويعتريهم أحيانا النقص والخلل وتطرأ عليهم المؤثرات كالخوف والفزع.
ولقد ثبت في الحديث الصحيح أن من بين كل ثلاثة قضاة , قاض فى الجنة، وقاضيان فى السعير
وهو نفسه صلوات ربي عليه حين وقف موقف القضاء بين الناس كان ينبه إلى أنه يقضى ببشريته
في صحيح البخاري «إنكُم تَخْتَصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعْضَكُم ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمن قضَيتُ له بحَقِّ أخيهِ شيئًا بقوله، فإنما أقْطَعُ له قِطْعَةً من النارِ، فلا يأخُذها»
هكذا بيَّن الحبيب بوضوح لا مزيد عليه
بعضكم ألحن بحجته
بعضكم أكثر قدرة على تزيين موقفه
بعضكم لديه من سحر البيان ما يستطيع به ليّ الحقائق والتأثير على القاضي
حتى لو حكم القاضي بالشرع المنزل وليس بقانون وضعه بشر أمثالهم , فالفتنة لم تزل واردة والخطأ محتمل
ها هو داوود يخر راكعا تائبا بعد قضاء قضاه خشية أن يكون قد فتن فيه
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَاب}
الأشهر من كلام المفسرين والأبعد عن الإسرائيليات والأقوال الضعيفة أن استغفار داوود وسجدته حدث لما تبين له كونه قد جانب الأصوب في حكمه بين المتخاصمين
فسيدنا داوود ابتداءً قد فزع من الخصمين وهذا هو الإشكال الأول إذ ليس من الصواب أن يفزع القاضي أو يخاف من المتقاضين فذلك يمثل درجة من الخطورة في الحكم الصادر بعد ذلك واحتمالية تأثره بهذا الفزع أو الخوف
الإشكال الثاني يتمثل في استماع داوود إلى أحد الخصمين الذي شكا بغي أخيه واستيلاءه على نعجته الوحيدة ليضمها إلى نعاجه التسع وتسعين
سياق الآيات لم يذكر أن الآخر دافع عن نفسه أو تدخل في الحوار مما يفسر بعض الشيء مسارعة داوود للنطق بالحكم كما سيأتي
لكن هذا أيضا خلاف الأولى ذلك لأن الأصل أن يتبين القاضي وأن يلتمس الأدلة على صدق الدعوى وأن يسأل الطرفين ويناقشهما وهذا كله لم يرد في سياق الآيات أن داوود قد فعله بل ما ورد أن حكم داوود قد صدر مباشرة بمجرد أن انتهى الشاكي من روايته فحكم داوود بأن أخاه قد ظلمه
الإشكال الثالث يتمثل في حيثية ذكرها داوود في حكمه تأثرا برواية الشاكي رغم أن تلك الحيثية لا يفترض أن يكون لها أي تأثير على الحكم
تلك الحيثية هي قوله: { إِلَىٰ نِعَاجِهِ}
ما قيمة ذكر نعاج الآخر هنا؟
هب أنه لا يمتلك أي نعجة فضلا عن امتلاكه تسع وتسعين نعجة فهل يباح له حينئذ أن يضم نعجة أخيه إلى حيازته بغير حق؟
الجواب : لا
سواء كان المشكو منه غنيا أو فقيرا فإن ذلك لا علاقة له بالحدث الذي يقضى فيه
لكن يبدو أن لحن الشاكي بحجته وتلميحه لثراء أخيه شكل نوعا من التأثير على سيدنا داوود مما أدى إلى أن يذكر ذلك في حكمه دون أن تكون له أية حيثية
هذه الأمور كلها شكلت على الراجح أركان الفتنة أو الابتلاء الذي أراد الله من خلاله أن يعد هذا الخليفة الذي سيحكم بين الناس ولا يشطط
ولقد أدرك داوود ذلك فكان رد فعله سريعا
لقد استغفر وتاب
ثم خرَّ..
وهذا اللفظ تحديدا له مدلولاته العظيمة
إنه لم يتكلف السجود أو يجبر نفسه عليه
لقد خرَّ
هوى
سجد
تواضع وركع و أناب خشية الافتتان .
لم يقل حكمى عنوان الحقيقة و لا معقب له
لكنه اختار التواضع وخر واستغفر..
هكذا تعامل كقاض لا ينكر إمكانية فتنته ولا يزعم أن حكمه في قضية مبنية على السماع هو حكم قطعي الصحة لا يجوز التعليق عليه
فإن كان هذا في حق نبي مكلم فكيف يكون الحال فيمن هو أدنى؟!
ورغم علم داوود المشهود له به بشهادة من ربه كما أسلفنا
ورغم نبوته المعصومة والزبور الذي أُنزل عليه والحكمة التي أوتيها
ورغم اجتهاده وسعيه للفهم وحرصه على طرق أبواب الحل الأمثل
رغم كل ما سبق = فإن الله بيَّن أن الفهم في مسألة مشكلة حكم فيها داوود ثم حكم فيها ولده سليمان فكان من نصيب سليمان عليه وعلى أبيه السلام
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}[ اﻷنبياء 78]
القصة باختصار وبجمع الروايات تتلخص في أن غنما تفلتت من صاحبها بليل فرعت في حقل - وقيل في كرم عنب - يملكها رجل آخر وإذا بالغنم لا تدع غصنا ولا ثمر إلا وقد أفسدته
فتحاكم الرجلان لداوود عليه السلام فاجتهد وقضى بالغنم لصاحب الكرم كتعويض له على ثمره الذي أفسدته تلك الغنم
لكن سليمان عليه السلام كان له رأي آخر
روى ابن زيد وغيره من أهل التفسير أن السائلين مروا بِسُلَيْمَان فَقَالَ: مَا قَضَى بَيْنكُمْ نَبِيّ اللَّه؟ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: أَلَّا أَقْضِي بَيْنكُمَا عَسَى أَنْ تَرْضَيَا بِهِ؟
فَقَالَا : نَعَمْ .
فَقَالَ : أَمَّا أَنْتَ يَا صَاحِب الْحَرْث , فَخُذْ غَنَم هَذَا الرَّجُل فَكُنْ فِيهَا كَمَا كَانَ صَاحِبهَا أَصِبْ مِنْ لَبَنهَا وَعَارِضَتهَا وَكَذَا وَكَذَا مَا كَانَ يُصِيب
وَاحْرُثْ أَنْتَ يَا صَاحِب الْغَنَم حَرْث هَذَا الرَّجُل , حَتَّى إِذَا كَانَ حَرْثه مِثْله لَيْلَة نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمك فَأَعْطِهِ حَرْثه وَخُذْ غَنَمك!
كان هذا حكم سليمان
وعلى ما يبدو أنه قد رأي من خلال علمه أن هذا الحكم أقرب إلى الصواب من حكم أبيه ومعلمه داوود عليه السلام
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة وأخرجه [البخاري ومسلم ] في صحيحيهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك اللّه هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى» ذلك لأن ما ظهر من إشفاقها على الغلام وحرصها على حياته حتى لو كانت مع غيرها دل بشكل قاطع على كونه ولدها إذ يكاد يستحيل على الأم أن تقبل قتل ولدها وهي قادرة على دفع ذلك
وذلك ما فهمه سليمان وقضى به مخالفا مرة أخرى لاجتهاد أبيه
لم يمنعه توقير الوالد ولا تقدير المعلم أن يعدِّل على رأيه أو أن يبين رأيه هو
ولم يدفعه ذلك للاجتراء على تلميح يقلل من شأن من اختلف معه بل ورأى أن لديه ما هو أصوب من قوله
لكنه ومع كامل التوقير والتقدير تكلم بما يراه حقا وصوابا وحكم به
ولقد شهد الله لحكمه وفهمه في قضية الغنم
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
وشمل الثناء داوود ولكن لم يشمل حكمه بل فقط حكم سليمان
إذن فلو اجتهد المرء وسلك السبل الشرعية لهذا الاجتهاد , فإنه مأجور ولا يذم شخصه رغم خطئه
الإثنان أوتيا حكمة
والإثنان أقر الله لهما بالعلم
لكن الفهم الصحيح لمسألة أو بعض المسائل لا يشترط أن يكون حليفا لمن توفر له كل ما سبق
الأجر ثابت إن شاء الله لكن اجتماع وجود الأجر مع وجود الحل الأمثل ليس شرطا
الاجتهاد الذي وصلت أنت من خلاله إلى حل أو وصل من تتبعهم إلى كونه حلا , لا يشترط أن يكون هو الحل الوحيد والحق الحصري الذي لا ينبغي لأحد أن يخرج عنه أحد أو يجرؤ على مخالفته مخلوق
من الممكن جدا أن يصل غيرك إلى حلول أفضل وأن يفهم ما لم تفهمه وهذا لا يقلل من شأنك كما لم يقلل من شأن داوود عليه السلام
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
ولقد كان للحمد والشكر حضورهما الواضح جدا في حياة داوود عليه السلام
وانتقل هذا الحضور الواضح إلى آله خصوصا ولده ووريثه سليمان عليه السلام
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}
الحمد لله الذي فضلنا
هكذا كانا يتحدثان بنعمة الله وفضله ويستشعرانها في واقعهما
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
دائما الشعور بالفضل والاعتراف به وهذا أسمى معاني الحمد والشكر التي يبتغى تمكنها من القلب
إن من أعظم خصائص العبد الشكور ومن أوضح الفوارق بينه وبين العبد الكفور , ذلك الإحساس القلبي بنعمة الله واعترافه بها
فالشكر ليس فقط كلمات يتمتم بها اللسان دون ان يدرك لها معنى أو يستشعر لها أثرًا
الشكر حالة وشعور يملأ كيان العبد ويسيطر على وجدانه ويخفق به قلبه وتتسامى به نفسه وتهفو به روحه
والاعتراف بالفضل هو أول درجات تلك الحالة النورانية
ولذلك تجد أخطر ما وقع فيه قارون كنموذج لعبد كفور جاحد هو رفض هذا الاعتراف وإنكار ذلك الفضل الذي تجلى في قوله {إنما أوتيته على علم عندي}
وشتان الفارق بينه وبن عبد آخر شكور كسليمان بن داوود عليهما السلام حين عاين النعم فقال: {ذلك من فضل ربى ليبلونى أأشكر أم أكفر}
إنه لم يتكلف تلك الكلمات وإنما خرجت من قلب لم يتعود أن يشهد لنفسه فضلًا
قلب لم يشهد إلا فضل الله ونعماءه
قلب يحيا بقول الله جل وعلا: {وما بكم من نعمة فمن الله}
قلب تربى في بيت داوود فتعلم قيمة الشكر بل وتضرع إلى مولاه أن يلهمه دوما إياها ويجمع روحه عليها
{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
لكن ثمة فارق دقيق بين الشكر والحمد وفي كلٍ خير..
هذا الفارق يظهر أيضا في سياق الحديث القرآني المتصل عن داوود وآله الكرام
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
العمل..
إن الحمد هو ثناء على الله بحب وامتنان نابع من قلب مستشعر للنعم فهو عبادة قلبية وقولية
أما الشكر فهو امتنان أيضًا ولكنه امتنان بطريقة مختلفة
طريقة عملية
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}
هذا الاقتران بين العمل والشكر في تلك الآية من سورة سبأ يشير بوضوح إلى المعنى الأدق من معاني الشكر
معنى الشكر العملي
معنى أن تترجم مشاعر الامتنان إلى جهد وبذل وعطاء
أن يجتهد العبد أكثر فأكثر لا لشىء إلا ليكون حاله كحال سيد الشاكرين حين تعجبوا من كثرة عبادته وهو المغفور له كل ذنبه
- أفلا أكون عبدا شكورا؟!
هكذا رد على من سأله
وهكذا بيّن سبب بذله وبالغ عمله وجهده
إنه ذلك الشكر العملي الذي ينبثق عن قلب سيطر عليه شعور الامتنان وملأت جنباته الرغبة في الوفاء ومقابلة الإحسان بالإحسان والفضل بالشكر
وكذلك العبد الشكور
يترجم شكره إلى طاعة أو عبادة أو نفقة أو تضحية وبذل أو أي من سائر تلك الأعمال والقربات التي يستحق بها هذا اللقب الشريف
لقب العبد الشكور