دروس من الزلازل والكوارث
ملفات متنوعة
إن هذه الأرض التي نعيش عليها من نعم الله الكبرى علينا، فإن الله
سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش عليها، ونسير على ظهرها،
ونستنبت فيها ما نأكله وترعى به أنعامنا، ونستخرج من الخيرات العظيمة
التي بداخلها ما نستكشفه يومًا بعد يوم...
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
مقدمة:
قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ . فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:102].
عباد الله، إن هذه الأرض التي نعيش عليها من نعم الله الكبرى علينا، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش عليها، ونسير على ظهرها، ونستنبت فيها ما نأكله وترعى به أنعامنا، ونستخرج من الخيرات العظيمة التي بداخلها ما نستكشفه يومًا بعد يوم، قال تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ} [الملك:15].
ومن رحمته عزّ وجل أن أودع في هذه الأرض كل ما يحتاجه الخلق الذين يعيشون على ظهرها، فبارك فيها وقدر فيها أقواتها؛ قال تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف:10]، ثم سبحانه وتعالى سخرها لنا وجعلها ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال، حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، وفي بعض الأحيان، يجعل الله عز وجل هذه الأرض جندًا من جنوده، فتتحرك وتميد فتحصل الزلازل المدمرة، تخويفًا للعباد، وتأديبًا للبعض الآخر، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر .
أولاً: من علامات الساعة:
عباد الله، لقد كثُر في زماننا وقوع الزلازل المروّعة التي تدمر العمران وتهلك الإنسان، ويذكُر العلماء ويتحدَّث الإخصائيّون عن تكاثُر المتغيِّرات الكونيّة على هذه الأرض وتتابُع الحوادث والكوارِث في هذا العصر، حتى قالوا: إنّ الزلازلَ في السنوات القريبة الماضية أكثر منها أربع مرّات مما لم يحصل مثلُه سوى مرّة واحدة طوال عشرين سنة أو أكثر في أوائل القرنِ الماضي، ويقولون: إنّه كلّما تقدّمت السنوات زادَ عددُ الزلازل وأنواع الكوارث.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ ».
إنها علامات أخبر بها من لا ينطق عن الهوى، وهي تتحقق كما أخبر تمامًا؛ فقد تتابع حدوث الزلازل في عصرنا، ففي سنين متقاربة، حدث زلزال عظيم في الجزائر، ثم أعقبه زلزال عظيم في إيطاليا، ثم أعقبه زلزال عظيم في اليمن، ثم أعقبه زلزال عظيم في المكسيك وفي تركيا ثم في مصر والعقبة وتبوك.
وها نحن اليوم نسمع عن الزلزال المروع في اليابان، وقد دُمر في هذه الزلازل خلال لحظات مدن بأكملها، وهلك فيها مئات الألوف من البشر، وشُرد فيها مئات الألوف من مساكنهم، مما تسمعون أخباره المروعة، ويشاهد الكثير منكم صوره المفزعة تعرض على شاشة التلفاز.
عباد الله:
وإن مما يُؤسَف له ويدعو إلى العجب: ما درجت عليه وسائل الإعلام من إظهار هذه الكوارث على أنها ظواهر طبيعية، وأنّ سببها تصدّعٌ في باطن الأرض ضعُفت القشرة عن تحمّله، فترتّب من جَرّاء ذلك حدوث تلك الهزّات المُزلزِلة.
والسؤال الذي يوجّه إلى هؤلاء وأمثالهم: مَن الذي قدّر لهذا الصدع أن يحدث؟ ومن الذي أضعف قشرة الأرض أن تتحمّله؟ أليس هو الله؟! إنما كان ذلك بسبب فشوّ المنكرات، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، والغفلة عن مكر الله.
لقد جاءهم الزلزال بعد هجوع الناس، جاءهم بياتًا وهم لا يشعرون، فاللهم إنا نسألك عفوك ولطفك.
ثم يأتي بعد حدوث الزلزال من ينشغل بتقدير الخسائر في الأموال والممتلكات، ومدى تأثير ذلك على عجلة الاقتصاد، ويتناسى قول الله: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، ويتعامى عن قول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
ينظرون إلى الكوارث المهلكة الفتاكة نظرة الجاهلين ممن ابتلاهم الله بقسوة القلب ممن قال من أسلافهم:
قد مس آباءنا الضراء والسراء ، فهي ظواهر طبيعية عندهم لا تستحق الوقوف عندها وتأمل أسبابها، بل ولا معرفة خالقها ومقدِّرها ومراده من ذلك.
ثانيًا: العبرة من الكوارث:
أ- الكون كله مسخر لله: إن ما يجب أن يعلمه كل إنسان أن الكون كلُّه، بإنسِه وجنِّه، وأرضه وسمائِه، وهوائِه ومائِه، وبرِّه وبحرِه، وكواكبِه ونجومِه، وكلِّ مخلوقاته ما علِمنا منها وما لم نعلَم - كلُّها مسخَّرة بأمره سبحانه، يمسك ما يشاء عمّن يشاء، ويرسِل ما يشاء إلى من يشاء.
وكيف لا تُدرَك عظمةُ الجبار جلّ جلاله وضَعفُ جبابِرة الأرض مهما أوتوا من قوة؟! كيف لا تدلُّ على عظمةِ الجبّار ومنها ما يُهلك أممًا ويدمِّر دِيارًا في ثوانٍ وأجزاءٍ من الثواني؟! ومنها ما ينتقل عبرَ الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يُرى، ومنها ما لا يرى، نُذُر وآيات، وعقوبات وتخويفات، لا تَدفَعها القوى، ولا تطيقها الطاقات، ولا تقدِر عليها القدرات، ولا تتمكَّن منها الإمكانات، ولا تفيد فيها الرّاصدات ولا التنبُّؤات، لا تصِل إليها المضادَّات ولا المصدّات، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، إنها آياتُ الله وأيّامه ونذُره، تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقدرتُه وقوّته وعظيمُ سلطانِه وعزَّته وتمامُ ملكه وأمره وتدبيره. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } [غافر: 81].
ب- إيقاظ الغافلين واعتبار المؤمنين: إنَّ هذه الحوادث والقوارعَ توقِظ قلوبًا غافِلَة؛ لتراجع توحيدَها وإخلاصها، فلا تشرِك معه في قوَّته وقدرتِه وسلطانه أحدًا، ويفيقُ بعضُ من غرَّتهم قوّتُهم؛ فيتذكَّروا أنَّ الله الذي خلقَهم هو أشدّ منهم قوّة، وبخاصةٍ أولئك المستكبِرون ممّن غرَّتهم قوَّتهم وطال عليهم الأمد، فيفيقُ هؤلاء المستكبرون الطغاة ويتذكَّروا أنَّ الله الذي خلقَهم هو أشدّ منهم قوّة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [فصلت:15]، أجل لقد فَرِحوا بما عندهم من العلم.صار علم التأريخ لديهم للتسلية لا للاعتبار، والسياحة ورؤية آثار السابقين للمتعة والمجون لا للاتِّعاظ والادِّكار.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [غافر: 83-85].
جـ - الانتقام من العصاة والمذنبين: إن الله سبحانه توعد الذين لا يتعظون بالمصائب، ولا تؤثر فيهم النوازل فيتوبون من ذنوبهم، توعدهم بعاجل العقوبة في الدنيا، وهذه الزلازل والفيضانات والأوبئة المنتشرة لا شك أنها عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي والمخالفات: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ . أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ . أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 45-47].
إننا معاشر الأحبة في نعمة من الله تامة، أمن في أوطاننا، وصحة في أبداننا، ووفرة في أموالنا، وبصيرة في ديننا، فماذا أدَّينا من شكر الله الواجب علينا؟ فإن الله وعد من شكره بالمزيد، وتوعد من كفر بنعمته بالعذاب الشديد: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7].
إن الله سبحانه وتعالى يري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات.
كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أممًا كثيرة وشردت البقية عن ديارهم، أيتمت أطفالاً وأرملت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها، ويتطاير شرارها على من حولهم، وغير الحروب هناك كوارث ينزلها الله بالناس.
نعم إن ما يحدث في الأرض اليوم من الزلازل المدمرة، والأعاصير القاصفة والحروب الطاحنة، والمجاعات المهلكة، والأمراض الفتاكة- كل ذلك يحدث بسبب ذنوبنا ومعاصينا، كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }[الشورى: 30].
إنه يحدث من الذنوب والآثام التي منها ما هو كفر كترك الصلوات المفروضة، وما هو من الكبائر الموبقة كأكل الربا، والرشوة، وتبرج النساء، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل الفواحش وغير ذلك مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحًا ومساءً!!
{أفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97-99].
تُرِكت الصلوات، وأهملت الواجبات، ضعف الخوف من الله في قلوب الناس، تغيرت أخلاقنا، سلوكنا.
هل اعتبرنا يا عباد الله بما يحدث؟ هل غيّرنا من حالنا من سيئ إلى حسن؟
{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ . أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ . وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 16-18].
د - النعم قد تكون استدراجًا:
عباد الله، إن كثيرًا من الناس الغافلين عن ذكر الله، المعرضين عن آياته، الغارقين في شهواتهم والمنغمسين في ملذاتهم - يحسبون أنهم بعيدون عن بطش المنتقم الجبار، ولا يدركون أن من سنة الله في مثل هؤلاء أن يمدَّهم الله بالنعم استدراجًا لا إكرامًا، ثم يأخذهم على حين غفلة أخْذَ عزيزٍ منتقم؛ ليكون ذلك أقسى عليهم.
روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى.. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: {كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102].
ولقد ذكر الله قصة أقوامٍ ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا ويتوبوا إليه، ولكن قست قلوبهم وازدادوا طغيانًا، فكان أن انتقم الله منهم بأن أمدَّهم بأموال وبنين، وفتح عليهم خيرات الأرض؛ فانغمسوا بها، وظنوا أنهم تمكنوا من كل شيء؛ فأخذهم الله عندئذٍ على غرة، وقطع دابرهم، واستأصل شأفتهم عن بَكْرة أبيهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 42-45].
عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج »، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْء حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44]؛ (رواه الإمام أحمد).
أيها المسلمون:
إنه والله يُخشى علينا اليوم الوقوع في مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا نقمة الله التي حلت بمَن قبلكم ومن حولكم أن تحلَّ بكم.
لقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم شدة بأس هذه الزلازل؛ فاستعاذ بالله منها كما في البخاري عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {{C}{C}قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ {C}{C}} ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{C}{C}أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {C}{C}» قَالَ: {{C}{C}أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ{C}{C}}؛ قَالَ: { {C}{C}أَعُوذُ بِوَجْهِكَ{C} {C}} {{C}{C}أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ{C}{C}}؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « {C}{C}هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ {C}{C}»".
ثالثًا: واجبنا نحوها:
أ- أن نخاف أن تحلَّ بنا، ولا نقف عند التفسيرات المادية لها، فكما كانت في بلاد غيرنا فقد تقع -لا قدّر الله - ببلادنا نحن، نسأل الله السلامة والعافية لهذا البلد ولكل بلاد المسلمين.
انظروا -رحمكم الله- إلى هدي نبيِّكم محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وخوفِه من ربِّه، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعَله أمنةً لأصحابه؛ فقال: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، ومع هذا قَالَتْ عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: "وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ في وَجْهِهِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ في وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ! قَالَتْ: فَقَالَ« {C}{C}: يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِى أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟! قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا{C} {C}»؛ فقال الله: {{C}{C}بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأحقاف: 24]، حتى إذا نزل المطرُ سُرِّي عنه عليه الصلاة والسلام.
إنّ من تأمَّل أحوالَ بعضِ الناس ومواقفَهم ومسالكهم رأى أمورًا مخيفة؛ فيهم جرأةٌ على حرمات الله شديدة وانتهاكٌ للموبِقات عظيمة، وتضييعٌ لأوامر الله، وتجاوزٌ لحدودِه، وتفريطٌ في المسؤوليات في العبادات والمعاملات، وإضاعة للحقوق!!
فالحذر الحذر -رحمكم الله- من مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القومُ الخاسرون، ألم يقل الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]؟! ألم يقل الله: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]؟! إنها سنّة الله فيمن يغيّر حاله من الشكر إلى الكفر، { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب:62]، قانون يَطَال كلَّ مَن كفر بأنعم الله.
فهل أصلحنا أنفسنا وطهّرنا بيوتنا من المفاسد؟ إن شيئًا من هذه الأحوال لم يتغير - إلا من شاء الله - بل إن الشر يزيد، وإننا نخشى من العقوبة المهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الله تعالى يقول: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ . ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 52-53].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [يونس: 101-102].
ب - النهي عن المنكر:
إننا على كثرة ما نسمع ونرى بأعيننا من الحوادث المروعة والعقوبات الشديدة - لا يزال الكثير منا مُصِرًّا على معاصيه، من أكل الحرام، وترك الصلاة، وهجر المساجد، وفعل المنكرات، حتى أصبح كثير من البيوت أوكارًا للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة، والعاكفين على قنوات الرذيلة ومواقع الفاحشة والمجون! ولا ينكر عليهم صاحب البيت ولا جيرانه ولا مَن يعلم بحالهم!! وفي الحديث: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب؛ أبو داود.
ترون الشوارع والبيوت ملأى بالرجال، وترون المساجد وقت الصلاة فارغة منهم، لا يؤمها إلا القليل وفي فتور وكسل، والذي يصلي منهم لا ينكر على مَن لا يصلي من أهل بيته وجيرانه ومَن يمرُّ بهم في طريقه إلى المسجد!
ما الذي أمات الغيرة في قلوب الناس؟ إنه ضعف الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان » (رواه مسلم) [وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل].
جـ - التوبة الصادقة، والاستغفار والتضرع إلى الله:
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال: 32].
اعلم أخي المسلم أن الله إذا أراد شيئًا أوجد سببه ورتب عليه نتيجته، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16]، فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما يجري حولكم وبينكم، وتوبوا إلى ربكم توبةً نصوحًا، وإياكم أن تأمنوا مكر الله؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
إن الواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والرياح والفيضانات البِدَار بالتوبة إلى الله سبحانه، والضراعة إليه، وسؤاله العفو والعافية، والإكثار من ذكره واستغفاره؛ ففي الصحيحين: أنه لما خسفت الشمس زمن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى طويلاً، ثم َخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: « إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ».
د - ردّ المظالم والتراحم بين المسلمين: فرب العمل يرحم عامله، والكبير يعطف على الصغير.
ويستحبّ أيضًا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حم: «ارحموا ترحموا، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء »، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من لا يَرحم لا يُرحم ». وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يكتب إلى أمرائه عند الزلزلة أن يتصدّقوا.
الخطبة الثانية
د- زلزال الآخرة:
عباد الله، تخيلوا الفجيعة التي حصلت بما سمعنا من زلزال اليابان، وقد شاهدنا الجثث المترامية، والأشلاء المتناثرة، والدماء النازفة. كل هذا بسبب زلزال بسيط، في بقعة محددة من الأرض؛ فماذا يحصل لو وقع الزلازل في الأرض كلها؟! تخيلوا زلزالاً يهزّ الأرض كلها - وسيحصل هذا بلا شك - فهل أخذتم حسابكم واحتياطاتكم للزلزال الأكبر الذي سيضرب الأرض كلها، لا بلدة وحدها ولا الجزيرة وحدها، ولا قارة آسيا أو إفريقيا، لكنه زلزال عظيم، سيصيب الأرض من قاعها لا قشرتها فحسب، كما قال الله وصدق الله:
{إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُ زِلْزَالَهَا . وَأَخْرَجَتِ ٱلأرض أَثْقَالَهَا . وَقَالَ ٱلإِنسَنُ مَا لَهَا . يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا . بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا . يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتًا لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ . فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [سورة الزلزلة].
ماذا عملنا؟ أو هل احتطنا لذلك الزلزال الأكبر، { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ . لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم: 48-51].
إنه زلزال اليوم الذي سينفضح بعده كل مجرم: عملتَ كذا في يوم كذا، وعملت كذا في يوم كذا، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته، ويُظلنا في ظله، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.
ثم اعلموا رحمكم الله أن ما يحلُّ بالناس من المآسي والمصائب بالزلازل والكوارث في الدنيا، مهما كانت شديدة مؤلمة فهي أخف من عذاب الآخرة، الذي توعَّد الله به المعرضين عن شرعه؛ قال تعالى: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأدنىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [السجدة: 21].
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، وتوبوا من ذنوبكم، وقوموا على أولادكم وأهليكم، وأنقذوا أنفسكم وأنقذوهم من عذاب الله؛ كما قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
واعلموا أن التمكين في الأرض نعمة تستوجب الشكر: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40-41].