أبو سفيان.. في الوادي الجديد
ملفات متنوعة
كان إنسانًا بسيطًا لا يشغله من حياته إلاَّ العمل في سبيل قوته وقوت
أولاده .. لم يمارس السِّياسةَ في حياته قط ولا يعرف عنها حتىَّ ما
يعرفه عامة الناس ولا يعرف من الدِّين أكثر من الصلوات يصليها قبل أن
ينزل إلى عمله وربما انشغل أحيانا عنها..
- التصنيفات: موضوعات متنوعة -
في رحلتي الأخيرة إلى سوهاج منذ أيام جاءني أحدهم يسلم علي بحفاوة
وبشاشة، فسلمت عليه بحرج إذ لم أعرفه للوهلة الأولى ولكنَّه لما تكلم
تذكرت صوته فصحت مرحبا " أبو سفيان" إذ لم أكن أعرفه إلا بهذا الاسم
فقد كنا في سجن الوادي الجديد نتنادى بأسماء كودية حتىَّ إذا ما سمعنا
الحراس لا يعرفون المُتحدِّثَ فينال من إيذائهم بسبب انتهاكه حظر
التَّحادُثِ عبر النافذة.
أخذت أستعيد قصته الَّتي حكاها لي عبر النافذة في ليلة من ليالي
سمرنا هناك لأحكيها لكم دون أن أنسى منها شيئا.
كان إنسانًا بسيطًا لا يشغله من حياته إلاَّ العمل في سبيل قوته وقوت
أولاده .. لم يمارس السِّياسةَ في حياته قط ولا يعرف عنها حتىَّ ما
يعرفه عامة الناس ولا يعرف من الدِّين أكثر من الصلوات يصليها قبل أن
ينزل إلى عمله وربما انشغل أحيانا عنها وكانت بساطة حياته وتفكيره
مبعث تندرنا أحيانا .
في يوم لم تظهر له شمس دخل أمن الدولة مقبوضًا عليه لا يعرف لماذا
اصطادوه من طريقه إلى عمله اشتباهًا به واقتادوه إلى حجز أمن الدولة
في الدور التاسع بسوهاج إلى جوار حجرة التحقيقات والتعذيب في تاريخ لم
تستطع السِّنون الطوال بعد ذلك أن تنسيه إيَّاه 17 - 6 - 1994
م.
مرَّ عليه نهار هذا اليوم كالدهر وظل يردد في نفسه بالتأكيد سوف
يكتشفون خطأهم ويفرجون عني، وكلما سمع وقع أقدام خارج الحجز تصور أنهم
آتون للإفراج عنه - كانت عينه مغماة فلم يكن يرى شيئًا - كان يشعر
بوجود آخرين إلى جواره ولكنَّه لم يسمع لهم صوتًا..
ومرت به الساعات يقضي نهاره يغفو ويفيق في خوف وقلق ويقضي ليله يسمع
صراخ المعذبين في التحقيقات، في ليلة بدأت التحقيقات كالعادة وبدأ
يسمع صراخ أحد المعذبين من الألم وصراخ المحققين يسأله عن أشياء وهو
يكرر أنه لا يعرفها .. ثم وبعد عدة ساعات مرت كدهر فتح الباب وادخلوا
أحدهم وهو يتأوه من الألم وألقوه إلى جواره ثم أغلقوا الباب منصرفين..
أخذ الداخل يتأوه ويطلب جرعة ماء.. انتظر قليلا حتىَّ ذهب صوت الأقدام
ورفع الغماية من على وجهه لكي يسقيه فإذا به شابًّا في العشرينيات من
عمره بدا وجهه شاحبًا ولم يستطع أن يحرك أيًّا من يديه ولا رجليه من
شدة ما ناله من تعذيبٍ.. سكب في فمه بعض الماء من زجاجة كانت إلى
جواره وعاد يسأله بصوت خافت عن اسمه وبلده فأجاب أن اسمه أيمن هاشم
فراج وأنه من مركز البلينا محافظة سوهاج..
لم ينته من كلامه حتىَّ عادوا مرة أخرى ليأخذوه وعاد الصُّراخُ
والتَّعذيبُ واستمر قرابة أربع ساعات أخرى ثم عادوا به إلى الحجز بعد
منتصف الليل وهو بين الحياة والموت وكلما تأوَّهَ أو صرخ ضربه الحارس
برجل كرسي كانت إلى جواره ليصمت ثم انصرف الحارس فقام الجميع إليه
ليسقوه فكان كلما شرب جرعة ماء تقيَّأها وهو يصرخ من الألم ثم ومع صوت
المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فاضت روحه إلى بارئها كان يومًا يستحيل أن
ينساه الجمعة 19 - 6 - 1994.
في الصباح جاء الحراس فأخبروهم بأنه مات فأخذوه وقالوا لهم إنه لم
يمت وإنما هو مغمى عليه ولكن أبا سفيان ببساطته وسذاجته صرخ فيهم " بل
هو مَيِّت مَيِّت أنا رأيته مَيِّتًا "، انصرف الحراس وبعد ساعات جاءت
ترحيلة فحملت كل من كانوا في الحجز إلى سجن الوادي الجديد - باستيل
العصر المباركي - ليقبروا هناك مع سرهم ودفن أيمن دون أن يعرف مكانه
أحد.
غادرت سجن الوادي بعد سنوات من هذا اللقاء وعدت إليه أيام ندوات
المبادرة لأجد أبا سفيان ورفاق الحجز مازالوا موجودين في نفس الزنزانة
لم يخرجوا منها بل حتىَّ لم يفرقوهم بين الزنازين.. ثم هاأنذا ألتقي
به مرة أخرى في الحرية بعد أن قضى ومن معه اثنتي عشرة سنة ثمنا
لمعرفتهم سر قتيل التعذيب في أمن الدولة بسوهاج.
01-04-2011 م