هذه الشعوب أصبحت أكثر وعياً وأكثر قوة

منذ 2011-04-06

المتأمل لمسيرة الصراع ومقاومة الاستعمار في المنطقة العربية منذ 50 سنة إلى يومنا هذا، لا بد أن يلاحظ تغيرات كبيرة طرأت على طبيعة الشعوب العربية ووعيها للأحداث وردها على التحديات الاستعمارية والاستفزازات العدوانية من قبل القوى الخارجية.



المتأمل لمسيرة الصراع ومقاومة الاستعمار في المنطقة العربية منذ 50 سنة إلى يومنا هذا، لا بد أن يلاحظ تغيرات كبيرة طرأت على طبيعة الشعوب العربية ووعيها للأحداث وردها على التحديات الاستعمارية والاستفزازات العدوانية من قبل القوى الخارجية.

قد تكون الأرقام المؤسفة التي تطالعنا بها تقاريرالتنمية العربية داعية لليأس والإحباط، بما تحمل من إحصاءات مؤلمة عن الفقر والمرض والأمية، لكن الواقع أخذ يظهر في السنوات العشرين الأخيرة صورة مختلفة تماماً عن الصور المعروفة للرد الشعبي على أشكال الاحتلال المتعددة.
الشعوب العربية بدأت منذ سنوات عديدة تترك البساطة والسذاجة التي وصمت مسيرتها خلال القرون الأخيرة، والتي منعتها من مقاومة المحتلين ووضعتها داخل قيود التخلف النفسي وفقدان الثقة بالقدرة على النهوض، وهذان العاملان من أهم عوائق نهوض الأمة.

نعم رغم كل المؤشرات السلبية هناك مسائل أخرى اختلفت تماماً وباتجاه الأفضل، بل فرضت نفسها كمعجزة في وجه من يريدون لهذه الأمة أن تتخلى عن آخر نقاط قوتها وهي قوة الإرادة ورفض الهيمنة.


اللعبة واللاعبون اختلفوا تماماً بين الأمس واليوم:
وتعالوا نسرد شيئاً من التغييرات التي طالت مختلف شرائح الأمة، وجعلتها في حال مختلفة:

- فرق كبير بين حالة علماء الشريعة الذين كانوا لا يسمع لهم صوت موحد، ولم يكن يعرف لهم هيئة موحدة، وبين حالتهم اليوم، حيث صار لهم وجوه معروفة يخشى المحتلون كلمتها، كما لهم اتحادات عالمية تنقل فتاويها وبياناتها على القنوات العالمية.


نعم علماء الدين كانوا دائماً وقود الثورات ضد المحتل، من الخطابي إلى المختار إلى القسام إلى غيرهم الكثير الكثير، لكن ثوراتهم كانت منفردة، و نادراً ما تلقى التجمع والتنسيق المطلوبين من قبل سائر العلماء، وكانت بالتالي تنطفئ باستشهاد العالم أو أسره.

الوعي الديني اختلف تماماً بين الأمس واليوم، فكثير من بديهيات المقاومة اليوم كانت محل نزاع وجدل بين علماء الأمس، خاصة عند بداية عهد الأمة بالاستعمار الحديث، مترافقاً بالتخلف الفقهي الرهيب والجمود الفكري اللذين سيطرا على أهل التدين وغيرهم.

فواجب المقاومة على أبناء البلد المحتل ومن يليهم مثلاً، أمر لا يجادل فيه أحد من العلماء المعتبرين اليوم، بل إن هناك شبه إجماع على هذه المسألة من كل أصحاب العلم الشرعي والخبرة السياسية بل والأفراد البسطاء، هذه المسألة كانت غير واضحة تماماً في السابق، بسبب الجهل بالعلوم الشرعية وغيرها، والمكر الكبير وحملات الدعاية المضللة التي رافقت الحملات الاستعمارية، حتى صدرت فتاوى بعدم جواز مقاومة المحتلين؛ لأنهم -حسب الفتوى- ضيوف أغراب لا يحق لنا إيذاءهم.


كما أن الوعي الشعبي بالمكر المدبر من قبل الأعداء والأصدقاء على الساحة الدولية صار واضحاً جلياً، فسكان القرى الفلسطينية هجروا منها بفعل الدعاية الإعلامية التي هولت من شأن العصابات اليهودية وبعد وعود عربية بأن الخروج سيكون لأسابيع قليلة، وهكذا رحل أولئك البسطاء حاملين مفاتيح بيوتهم على أمل العودة قريباً، الأمر الذي لم يروه إلى اليوم.

فإذا قارنت هذا الوضع بالرغبة المستميتة للفلسطينيين اليوم في البقاء على حطام منازلهم، رغم كل البطش الصهيوني، ورغم الفقر والتشرد والبؤس وتخلي القريب والبعيد عنهم، أيقنت أن وعي هذا الشعب وإرادته قد نما وتغير بشكل كبير جداً.

وإذا قارنت بين بساطة القرار الفلسطيني في ثورة مثل ثورة 1936م، حيث وبناء على طلب عربي رسمي تخلى الفلسطينيون عن ثورتهم دون أي التزام من الطرف اليهودي، مما أتاح الفرصة للصهاينة باستعادة التوازن من جديد، وبين رفض الطرف الفلسطيني اليوم إيقاف أي نشاط مقاوم للاحتلال، قبل وقف المجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، أيقنت مدى التغيير في الوعي والإرادة لدى الشعوب العربية.


المقارن بين أشكال ونماذج الشباب التائه التي سادت خلال سنوات الخمسينات إلى أوائل الثمانينات، وبين الشباب العربي المسلم اليوم، يدرك أن قفزة كبرى حصلت في الوعي لدى الشباب بشكل خاص، وهؤلاء كانوا وسيبقون أمل أي أمة في أي تغيير.

فالشباب العربي خلال تلك السنوات كان يميل مع كل ريح آتية من الخارج، بل لم يكن يدلي بأي صلة للأمة ولا لتاريخها، ولم يكن ذلك الموقف إعراضاً عن الأمة ومبادئها، بل كان ثورة عليها ورفضاً لها، أما اليوم فالتغيير واضح، حيث يبدو الكثير من النماذج الشبابية الملتزمة بالدين والأخلاق، والتي تصر على مواكبة العصر، انطلاقاً من الدين.

ولا تزال الأيام تخرج لنا بشكل متواتر، نماذج شبابية تحاول إخضاع العلوم المختلفة لتعاليم الدين والمواءمة بينهما، كما نلاحظ الاختلاف الكبير بين نموذج المتكلمين عن الدين والداعين إليه وتطورهم من الطبقات البسيطة والفئات العمرية المتقدمة، إلى فئات من الطبقات الغنية والمتوسطة الشابة، التي صارت تعاليم القرآن على يديها تفيض بالحيوية والحياة، وتحولت إلى حديث المجالس الشبابية، بحيث لا تكاد تجد مجالاً من مجالات الإبداع إلا وقد سخر الله لها من يظهر تفوق الإسلام ومبادئه فيها.

من ناحية أخرى، المناداة بالمقاطعة للشركات والبضائع الصهيونية والمتعاونين معها، من قبل الهيئات والقوى الشعبية العربية والإسلامية، أصبح الصوت الوحيد المقاوم بالاقتصاد بعد انفراط العقد الرسمي وتخليه عن هذه المهمة، وتسرب البضائع الصهيونية إلى الأسواق العربية.


القوة المفرطة لم تعد تجدي مع العزم:
نعم هذه كذلك حقيقة فرضت نفسها على الواقع المظلم لشعوبنا، فالقوة المهيمنة التي لا تترك حجراً ولا بشراً، صارت تلقى من يقف في وجهها وينهك عزمها دون سبيل إلى إنهائه، بل إن أعتى القوى البشرية على سطح الأرض اليوم، صار يجر أذياله خيبة وحيرة في المنطقة.

فإن المقارن بين المقاومة التي لقيها الصهاينة عند احتلالهم للأقصى عام 1967م، حيث قتل على أبواب المسجد الثالث للمسلمين عدد من الشباب لا يتجاوزون أصابع اليدين، وبين المقاومة الباسلة التي يلقاها الجيش الصهيوني عند كل محاولة اقتحام لمخيم من مخيمات الضفة والقطاع، حيث يضطر إلى المغادرة بفعل الهجمات التي لا تنتهي من الشباب المسلحين بالسلاح الخفيف، المقارن بين الحالين يدرك أن المسألة أشبه بالمعجزة منها إلى التحول أو التغيير.

والذين يستعجلون النتائج، ولا يرون إلا السلبيات، ويتساءلون عن نتائج هذا التغيير ميدانياً، عليهم أن ينظروا إلى الهجرة العكسية التي تشهدها الأراضي المحتلة، وحالة الهلع التي يعيشهاالمحتلون الصهاينة بفعل العمليات الاستشهادية والقصف اليومي للمستوطنات بصواريخ من الصنع المحلي.

المقارنة بين الجانبين مثيرة بالفعل، وتدل بكل بساطة على أن أصحاب الأرض يحسون بأوجاعها، ولا يتخلون عنها مهما كانت التضحيات، فالصهاينة الذين يتعرضون لهجمات لا تساوي ضراوتها عُشر ما يتعرض له الفلسطينيون، يتركون الأرض بكل بساطة ويرحلون عنها كما جاؤوا إليها من كل البلاد والأصقاع.


وفي العراق اليوم نماذج لما يمكن أن تصل إليه القوة الشعبية عندما يتاح لها المجال وتدعم بشيء من العتاد والسلاح ولوكانا قليلين ، فرغم القوة النارية الهائلة والتدمير غير المحدود، والبطش بالمدنيين بشكل متعمد، لا تزال مدينة صغيرة مثل الفلوجة، تقاوم السيطرة الأميركية، بل إنها نجحت في تحويل كل العراق إلى فلوجة تذيق الاحتلال الويل والهوان.

هذه دلائل تغيير كبير في الأمة، وهناك منها المزيد والقادم مبشر بالخير -بإذن الله-.


12/10/1425 هـ
 

المصدر: شادي الأيوبي - موقع المسلم
  • 0
  • 0
  • 5,247

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً