من أحكام الذبائح
فكل من أهلّ لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب بها إلى من أهلّ باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين،
وبعد:
فقد سبق بيان أن الذبح عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل، ولذا
وجب أن تكون لله خالصة، وكذلك لا تكون في مكان يعظم فيه غير الله، قال
تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الأنعام: 163]، والنُّسْكُ: هو الذبيحة، والنّسيكةُ: الذّبْحُ، ويجب
أن تكون لله رب العالمين.
النسك عبادة جمع الله بينها وبين الصلاة: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي}، وقال
عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} [الكوثر: 1]، فكان ذلك من أَجَلِّ ما يتقرب به
المسلم إلى الله، وكما أن الصلاة لا تكون إلا لله، كذلك الذبح لا يكون
إلا لله.
فالذي خلق الأرواح وأودعها أجسامها هو المستحق للعبادة والخضوع
والتقرب إليه، وحين تخرج الأرواح وتفارق أجسادها تعود إليه وحده، إليه
المرجع وإليه المصير، وحين يفرّق الإنسان بين روح مأكول اللحم وبين
جسمه عملاً بشرع ربه عليه أن يذبح للباري الخالق، المحيي المميت،
فيذبح وهو يقول: باسم الله، والله أكبر.
حكم الذبح لغير الله:
كانت الجاهلية تذبح بأسماء آلهتها، وتتقرب بذبيحتها إلى أصنامها،
فنزل قول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36]، ونزل تحريم المذبوح الذي
يذكر عليه اسم آلهتهم ويتقربون به إليها، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
[المائدة: 3].
وقال تبارك اسمه: {قُلْ لاَ أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
[الأنعام: 145].
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ} أي: ذبح لغير الله، كالذي يذبح للأصنام والأوثان،
والقبور ونحوها.
وأصل الإهلال: رفع الصوت، والمراد به: ما ذبح على غير اسم الله
تعالى.
وهذا مروي عن قتادة ومجاهد وابن عباس وغيرهم؛ لأن الآية نزلت في
تحريم ما كانت تذبحه العرب لأوثانها، وتحريمه لحكمة مرجعها إلى صيانة
الدين والتوحيد، فالمنع ديني محض لحماية التوحيد.
فكل من أهلّ لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب بها إلى من أهلّ باسمه
تقرب عبادة، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى.
فإذا قال: "هذه لفلان الشيخ" أو "الولي كذا وكذا"، حتى لو سمَّى الله
تعالى عليها وذبحها لم يصح الأكل منها مطلقًا؛ لأن فيها التقرب لغير
الله، والتسمية هنا لفظية لا عينية.
فمن ذبح لمن مات من الأنبياء والأولياء رجاء بركتهم، أو ذبح للجن
إرضاءً لهم، أو دفعًا لشرهم، فإن هذا من الشرك الأكبر، يستحق فاعله
لعنة الله وغضبه.
وللإهلال لغير الله صور:
الأولى: ذكر اسم غير الله عند الذبح على وجه التعظيم، سواء أذكر معه
اسم الله أم لا، فمن ذلك أن يقول الذابح: "بسم الله وبسم الرسول" فهذا
لا يحل؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115]، ولأن المشركين يذكرون مع
الله غيره، فتجب مخالفتهم بالتجريد.
ولو قال الذابح: "بسم الله، محمد رسول الله" فإن قال: "ومحمد" بالجر
لا يحل؛ لأنه أشرك في اسم الله اسم غيره، وإن قال: "محمدٌ" بالرفع
يحل، لأنه لم يعطفه، بل استأنف فلم يوجد الإشراك، إلا أنه يكره لوجود
الوصل من حيث الصورة، فيتصور بصورة الحرام، فيكره، هذا ما صرح به
الحنفية. [بدائع الصنائع 5/48].
وصرح الشافعية: بأنه لو قال: "بسم الله واسم محمد" فإن قصد التشريك
كفر وحرمت الذبيحة، وإن قصد أذبح باسم الله، وأتبرك باسم محمد كان
القول مكروهًا والذبيحة حلال، وإن أطلق كان القول محرمًا لإبهامه
التشريك وكانت الذبيحة حلالاً. [البجيرمي على الإقناع 4/251].
الثانية: أن يقصد الذابح التقرب لغير الله تعالى بالذبح، وإن ذكر اسم
الله وحده على الذبيحة، ومن ذلك أن يذبح لقدوم أمير ونحوه، ففي الدر
المختار مع حاشية ابن عابدين: "لو ذبح لقدوم الأمير ونحوه من العلماء
- تعظيمًا له - حُرمت ذبيحته، ولو أفرد اسم الله بالذكر لأنه أهل بها
لغير الله.
ولو ذبح للضيف لم تحرم ذبيحته لأنه سنة الخليل عليه السلام، وإكرام
الضيف تعظيم شرع الله تعالى، ومثل ذلك ما لو ذبح للوليمة أو للبيع.
[ا. هـ. (5/196)].
فإذا قام المسلم بالذبح عند قدوم الضيوف إكرامًا لهم، أو ذبح لأهله
من باب التوسعة عليهم، أو ذبح تقربًا إلى الله تعالى وبعيدًا عن
الأماكن التي فيها شرك، وجعل النية صدقة عن أبويه مثلاً، يرجو الثواب
من الله تعالى، كل هذا جائز، بل هو إحسان يُرجى ثوابه من الله
تعالى.
والفرق بين ما يحل وما يحرم: أن قصد تعظيم غير الله عند الذبح يحرم،
وقصد الإكرام ونحوه لا يحرم. [راجع الموسوعة الفقهية (21/193،
194)].
السنة المطهرة والذبح لغير لله:
ولقد عضدت السنة القرآن الكريم، وبين صلى الله عليه وسلم أن من ذبح
لغير الله ملعون، ففي الحديث المتفق عليه وجاء بروايات عدة منها عند
مسلم عن أبي الطفيل قال: قلنا لعلي بن أبي طالب: أخبرنا بشيء
أَسَرَّهُ إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أَسَرَّ
إليَّ شيئًا كَتَمَهُ النَّاس، ولكني سَمِعْتُهُ يقولُ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ
الله، ولعن اللهُ مَنْ آوَى مُحْدثًا، ولَعَنَ اللهُ مَن لعن والديه،
ولعن الله من غير المنار- من غير مَنار الأرض - ».
لقد نصبت طائفة العداء لعلي رضي الله عنه بعد قبول التحكيم بينه وبين
الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه واعتبروه كافرًا، وتشيعت طائفة
له، وبالغت في تقديسه، وتبرأ رضي الله عنه من هؤلاء وهؤلاء، لكن نار
هاتين الفتنتين ظلت تشتعل هنا وهناك، حتى سأله الناس عما يشاع من أن
النبي صلى الله عليه وسلم قد خصه بأسرار، لم يُطلعِ عليها أحدًا من
الأئمة، وأنه كان الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ادعوا أنه
صلى الله عليه وسلم جعله وصيًا على زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله
عنهن يطلق منهن من شاء من بعده، فطلق عائشة رضي الله عنها خرافات
اختلقوها وأشاعوها، فكان إن سأله بعضهم: "هل خصك رسول الله صلى الله
عليه وسلم بسر أسرّ به إليك دون بقية الناس؟" في بعض الروايات: "ما
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسرُّ إليك؟"، "أخبرنا بشيء أسره إليك
رسول الله صلى الله عليه وسلم"، "أخصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشيء؟"، والخطاب في كل هذه الروايات لعلي رضي الله عنه، وعند النسائي:
"هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهد إلى الناس
عامة؟"، وعند البخاري في كتاب العلم: "هل عندكم كتاب؟"، وفي كتاب
الجهاد: "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما كان في كتاب الله؟"، وفي كتاب
الديات: "هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟"، وفي مسند إسحاق بن
راهويه: "هل علمت شيئًا من الوحي؟".
سبب هذا السؤال أن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -
لا سيما عليًا - أشياء من الوحي، خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها،
لم يطلع عليها غيرهم، فكان أن غضب لهذه الفرية رضي الله عنه وقال:
"وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليَّ شيئًا يكتمه الناس"،
"وما أسر إليَّ شيئًا كتمه الناس".
قال علي رضي الله عنه: "والله ما خصني بسر من الأسرار، ولكن حدثني
بأحاديث، كما حدث الناس، فاحتفظت بها في قِراب سيفي"، قالوا: فما فيه؟
فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة من قِراب السيف، وقراب السيف - بكسر
القاف وعاء من جلد، ألطف من الجراب، يدخل فيه السيف بغمده، فإذا فيه:
«لعن الله من ذبح لغير
الله»، «ولعن الله من
آوى محدثًا» أي مذنبًا وحماه، وضمه إليه، ودفع عنه عقاب
الجريمة، «ولعن الله من لعن
والديه»، و«لعن الله من
غير منار الأرض» أي علامات حدودها بين المتجاورين في امتلاكها،
وبتغييرها يحصل على جزء منها ليس له.
ويظهر من ذلك إبطال ما تزعمه الرافضة من الوصية إلى عليّ رضي الله
عنه وغير ذلك من اختراعاتهم من قولهم: إن عليًا رضي الله عنه أوصى
إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم، وقواعد
الدين، وكنوز الشريعة، لأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم
يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة.
ومن الحديث نتعلم أن حكم الذبح لغير الله، حرام.
والذبح في موضع يشرك فيه بالله تعالى؛ كوثن يُعبد أو صنم أو قبر أو
ضريح أو شجرة أو موضع اتخذ عيدًا حرام، ومن أكل من هذه الذبيحة فهو
آثم، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].
وروى أبو داود في سننه وهو في صحيح المشكاة (3437)، وصحيح الجامع
(2548) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً
ببُوانة - موضع أسفل مكة - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«هل كان فيها وثن من أوثان
الجاهلية يُعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا:
لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَوْف بنذرك فإنه لا وفاء
لنذرٍ في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم».
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين
- التصنيف: