نعمة الأمن
في الأمن تستَطِيع الدُّوَل أنْ تُقِيم حَضاراتها، تهتمُّ بِمَزارعها، تُقِيم مَصانعها، تزدَهِر صادِراتها، وتقلُّ وارِداتها، تُشيِّد مظاهر عُمرانها
إنَّ ربَّنا - تعالى - قد أنعَمَ علينا بنِعَمٍ تَترَى، لا نستَطِيع
أنْ نُحصِيَها أو أنْ نعدَّها؛ ومِصداق ذلك قوله - تعالى -: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ
لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
[إبراهيم: 34]، ومن تلك النِّعَم الجليلة العظيمة نعمةُ الأمن، وهي
نعمةٌ طالما غفَلنا عنها ونسيناها، ولم نُعِرها شُكرَها الواجبَ
علينا.
الأمن نعمةٌ عظيمة من نِعَمِ الله على عِباده، ورَكِيزةٌ أساسيَّة من
رَكائِز المجتمع البشري المستقرِّ، فالإنسان بطبيعته التي جُبِل عليها
لا يستطيع أنْ يَحيَا في وسط الجوِّ المعبَّأ بالخوف والذُّعر، أضِفْ
إلى ذلك أنَّ الشعب الآمِن شعبٌ قوي، شعبٌ متقدِّم، شعبٌ مُهابٌ
جانبُه.
كذلك في الأمن تستَطِيع الدُّوَل أنْ تُقِيم حَضاراتها، تهتمُّ
بِمَزارعها، تُقِيم مَصانعها، تزدَهِر صادِراتها، وتقلُّ وارِداتها،
تُشيِّد مظاهر عُمرانها وحَضارتها، ينتشر فيه العلمُ والتعلُّم، ويظهر
أخيارها على أشرارها.
ربُّنا - تعالى - جعَل وُجود الأمن نعمةً من النِّعَم، وحِرمانه
بلاءً من الابتلاءات، قال - تعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]
يقول أبو جعفر ابن جريرٍ الطبري في تأويل تلك الآية: "يقول:
لنختبرنَّكم بشيءٍ من خوفٍ ينالُكم من عدوِّكم، وبسَنَةٍ تُصيبُكم
يَنالُكم فيها مجاعة وشدَّة، وتتعذَّر المطالب عليكم، فتنقص لذلك
أموالكم، وحُروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفَّار، فينقص لها
عدَدُكم، وموتُ ذَرارِيكم وأولادِكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها
ثمارُكم، كلُّ ذلك امتحانٌ منِّي لكم، واختبارٌ منِّي لكم، فيتبيَّن
صادِقُوكم في إيمانهم من كاذِبيكم فيه، ويُعرَف أهلُ البصائر في
دِينهم منكم من أهل النِّفاق فيه والشك والارتياب.
كلُّ ذلك خِطابٌ منه لأتْباع رَسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
وأصحابه"
فهذه الآية يُفهَم في ضِمن ما يُفهَم منها امتِنانُ الله - تعالى -
على عِباده بنعمة الأمن، فإذا كان الخوفُ والجوعُ، والنقصُ في الأموال
والأنفس والثمرات - اختبارًا وابتلاءً وامتحانًا من ربنا تعالى،
فالعكس - وهو الأمن والشِّبَع والوَفرة في الأموال والأنفُس - نعمةٌ
منه، وفضلٌ كبير، وامتنانٌ عظيم من ربِّنا - تقدَّس في عَليائه - على
عِباده الضُّعفاء المساكين الفُقَراء إليه.
وقد امتنَّ الله - سبحانه - على الناس بأنْ جعَل لهم بيتَه الحرام
مثابةً لهم وأمنًا، قائلاً: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]
وقد أدرَكَ إبراهيم خليلُ الرحمن أبو الأنبياء - عليه السلام - عِظمَ
هذه النِّعمة وجليل قَدرها، فدعا ربه قائلاً: {رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، فقدَّم
- عليه السلام - في دُعائِه طلبَ الأمن لهم على طلَب الرِّزق.
في الأمن يستطيع المؤمن أنْ يعبُد ربَّه في طمأنينة قلب، وراحة صدر،
وصَفاء نفْس، لذلك كان من الأسباب الرئيسة من أسْباب هجرة نبيِّنا
المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة
المنوَّرة - الخَلاص من هذا الخوف والاضطِهاد الذي كان يعيشه المؤمنون
في مكَّة، ليجدوا التمكينَ والأمنَ في المدينة المنوَّرة، ومن ثَمَّ
يستطيع المؤمنون أنْ يَعبُدوا ربَّهم في أمنٍ وسكينة، وكان هذا
مِصداقًا لما قاله - تعالى: {وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:
55]
قيِل لأحد الحكماء: أين تجدُ السُّرور؟ قال: في الأمن، فإنِّي وجدت
الخائف لا عَيْشَ له.
الأمن والإيمان قَرِينان مُتَلازِمان، فلا يتحقَّق الأمنُ إلا
بالإيمان الصحيح، قال الله - سبحانه وتعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]
وقد عدَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمنَ من أجلِّ
النِّعَمِ، فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم «مَن أصبَحَ آمِنًا في سِربِه، مُعافًى
في جَسَدِه، عندَه طعامُ يَومِه، فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا»
[2].
مظاهر حِفظ الإسلام للأمن: [3]
ثمَّة مظاهرُ كثيرةٌ حَثَّ وحرَص الإسلام على أهميَّة وُجودها، لأنها
تكون سببًا في وُجود وانتشار الأمن والحِفاظ عليه في المجتمع، ومن هذه
المظاهر:
• تطبيق أحكام الشريعة: عندما يكون الأساس الذي يتحاكَم إليه الناس
هو النِّظام الإلهي، متمثِّلاً في الأحكام الشرعيَّة التي وردت في
كتابه وسنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكون هذا ضمانًا لهم
بعدم الظُّلم والحيف، والخُلوص من المُحاباة والمجامَلة، فيعيش
المجتمع في استقرارٍ وأمنٍ داخلي وخارجي.
تخيَّل معي أنَّ سارقًا أُقِيم عليه حدُّ السرقة، أو زانيًا أُقِيمَ
عليه حدُّ الزنا بالرَّجم أو الجلْد، أو شاربَ خمر أو ما حُمِل عليها
من المخدِّرات جُلِدَ، أو مُرابيًا أو غاشًّا أو مُزَوِّرًا عُزِّرَ -
هل تجد في مجتمعنا هذا سارقًا أو زانيًا أو شارب خمر أو مرابيًا؟
بالتأكيد ستختفي هذه الأشياء من مجتمعاتنا بنسبة كبيرة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد شرَّف الله وفضَّل هذه الأمَّة المبارَكة على أخواتها من الأمم
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]
وتحقيق هذا الأصل القرآني من أنجح الوسائل في إصلاح المجتمعات
الإنسانيَّة، ذلك أنَّ أثَر الشرائع والعقائد يضعُف ويقلُّ الاتِّباع
لما جاء فيها بِمُضِيِّ الزمن وتَوالِي العُصور، ومن سنَّة الله في
الخلق أنْ تتابَعَ رسُلُه وأنبياؤه وكتُبُه وشَرائعه لإصلاح الخلق،
حتى تمَّت النعمة في رسالة خاتم النبيِّين والمرسَلين محمد - صلَّى
الله عليه وسلَّم - وبعد تَمام الرِّسالات السماويَّة وختمها برسالة
الإسلام يُصبِح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلةً دائمة وباقية
لإصلاح المجتمع المسلم، كلَّما تقدَّم العهد، أو ظهرت بعضُ
المنكرات.
الإقلال من المعاصي والآثام:
المعاصي والذُّنوب تُزِيل النِّعم، وتكونُ سببًا في حُلول عاجِل
النِّقم؛ قال ربنا - تعالى -: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]
أنْ نتذكَّر نعمة الأمن دائمًا ونشكر اللهَ عليها:
نعمةُ الأمن يجب أنْ تُقابَل - شأنها شأن كلِّ نعمة - بالذِّكر
والشُّكر، قال - سبحانه وتعالى -: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّـهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
[البقرة: 239]
وأمَر الله - عزَّ وجلَّ - قريشًا بشُكْرِ نعمةِ الأمن والرَّخَاء
بالإكثار من طاعته، فقالَ - جلَّ جلاله -: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا
الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ
خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]
الأمر بالتجمُّع والتوحُّد وعدم التفرُّق:
لقد أمرنا الله بالاعتصام والتوحُّد، ونَهانا عن التفرُّق والتشرذُم،
فقال - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:
103]
قال أبو جعفر ابن جريرٍ الطبري: "يعني بذلك - جلَّ ثَناؤه -:
وتعلَّقوا بأسباب الله جميعًا، يُرِيد بذلك - تعالى ذِكرُه -:
وتمسَّكوا بدِين الله الذي أمرَكُم به، وعهدِه الذي عَهِدَه إليكم في
كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر
الله"[4]
وقد مدَح الله - تعالى - مَن اعتَصَمَ به وبكتابه، فقال - تعالى -:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}
[النساء: 175]
وقال - سبحانه -: {فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ
مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
[الحج: 78]
فاللهمَّ لا تَحرِمنا نعمةَ الأمن، وأفِضْ علينا من برَكاتك
ورَحماتك، واحفَظْ علينا وعلى عِبادك المؤمنين نِعَمَك وفَضلَك، ولا
تُشمِتْ فينا عَدُوًّا ولا حاسدًا، يا ربَّ العالمين، يا أرحمَ
الراحمين.
[1] جامع البيان في تأويل القرآن" (3/220)
[2] الحديث رواه كلٌّ من: البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 300)، ابن
ماجه في "سننه" (4141)، الترمذي في "سننه" (2346)، وغيرهم.
[3] بتصرُّف واختصار وزيادة من رسالة: "الأمن في حياة الناس
وأهميَّته في الإسلام"، لفضيلة الشيخ: عبدالله بن عبدالمحسن بن
عبدالرحمن التركي (ص126)
[4] جامع البيان في تأويل القرآن" (7/70)
- التصنيف: