فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبرَاهِيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ (2/3)

منذ 2017-05-10

تكملة السيرة المختصرة للشيخ مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي الجزائِري. المقال الثاني.

ذكرنا في المقالة السابقة شيئا من سيرة الشيخ مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي (الجزائِري)، رحمه الله، والمراحل التي مرَّ بها في حياته قبيل تأسيسه لجمعية علماء الجزائر. وكيف مثل لقاءه بالشيخ عبد الحميد بن باديس منعطفا جديدا في حياته ومن ثمَّ في الواقع الجزائري الذي خطط الشيخان لتغييره وبعث الإصلاح فيه، من منظور واعٍ وحركة منظمة، وتخطيط مسبق. ونكمِلُ هنا شيئًا مِن جُهودِه في تأسيسِ "جمعيةِ العُلماءِ" واهتمامِه بشَريحةِ الشَّبابِ في الجزائر خصُوصًا، مع جُهودِه الإصلاحيةِ التي بذلها في توعية المجتمع وإصلاحِ تدَيُّنه.

تأسيسُ جمعِية عُلماء المُسلمين بالجزائِر:

كان الإِبراهيمي يعتقدُ أَن المشارِيع الإِصلاحية لاَبًدَّ أَن تكون تحت مظلّة إِداريّة، وأَنَّ إِدارةَ الأُمورِ الكبِيرَةِ لا بُدَّ أن يسبِقها نجاحٌ في الأُمورِ الصَّغيرةِ، لذلك كانَ يُقرر ويُكرر أَنَّ: "الأمَّة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع إدارة مجلس فضلًا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب!"[1].

ثمَّ جاءَ الوقتُ لكَي تتحوّل تلك الأَفكار والمشاريع التي انطلقت عام 1913م إِلى حقائق وفعال عام 1931م. وكان الإِبراهيمي يومها في عنفوانِ شبابهِ. فكانت أَن تحولت (الفِكرة) إِلى (عَمل)، و(الأَمانِي) إِلى (حقِيقة)، بعد أَن كوَّنَ جيشًا مِن الطُّلابِ غَرَسَ فيه الحُبَّ والتَّعظِيمَ لدينهِ ووطنه.

فيحكِي المُصلح الشاب ذلك فيقُول: "في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920م و1930م كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قويَّة، وكنَّا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في الشَّعبِ بالعَدل، ونبني على ذلك أَمرَنا، ونَضعُ على الوَرَقِ برامجنا للمستقبل بميزانٍ لا يختَلُّ أبدًا، وكنَّا نقرأُ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.

كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات، كانت كُلُّها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم، وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وحمَاسٍ متَأجِّجٍ وغَضَبٍ حَادٍّ على الاستعمار. وأصبح لنا جيشٌ مِن التَّلامذة يحمل فِكرَتنا وعقيدتنا، مُسلَّحٌ بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتَفُّ به مئات الآلاف مِن أنصار الفكرة وحمَلةِ العقيدة، يجمعُهم كُلُّهم إيمان واحد، وفكرة واحدة!!"[2].

وهذا العمل المُؤسسي قد تعجز على قيامه وتشيِيدهِ دُولٌ وجامعات، فكان أَن وفقَ اللهُ فيه هذا الشاب المُصلح الإِبراهيمي ورفيقِهِ ابن باديس لإنجازهِ وإِتمامهِ.

ومن نظَرَ متأملًا في سِيرَة الإِبراهيمي، وتأمَّل في تاريخِ جمعيةِ العلماءِ، رأى أَنها مشروعٌ لا ينفكُ وُجودُه عن الإِمامِ المُصلحِ الإِبراهيمي. ثُمَّ إِنَّ مِن العوامِل التي ساهمت في إِثرائِهِ وتنفِيذه جمعُ علماءِ الجزائِر بتنوعِ عُلومِهم وفُهومِهم ومشَاربِهم ومَأربِهم على تقليل الخِلافِ الحَاصِلِ، لِيَحفظ على الوَطنِ (دِينَه) و(لُغتَه) و(هَوِيّتَه). فكان أَن: "تكامل العدد وتلاحق المدد.. العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد مِن إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم. فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931م، بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا مِن وَضعي، أدرته على قواعدَ مِن العِلمِ والدِّينِ لا تُثِيرُ شَكًّا ولا تُخِيفُ. وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهِينُ بأعمَالِ العَالمِ المسلِمِ، وتَعتَقِدُ أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة. فخيَّبنا ظنَّها -والحمدُ لله. دعونا فقهاءَ الوطن كُلُّهم، وكانت الدعوة التي وجَّهنَاها إليهم صَادِرَةً باسم الأُمِّةِ كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأنَّ أولئك الفقهاءَ كانوا يخافوننا لما سبق لنا مِن الحملات الصادقة على جمودِهم، ووَصفِنا إيَّاهم بأنَّهم بلاءٌ على الأمَّةِ وعلى الدِّينِ لسُكُوتهم على المنكرات الدينية، وبأنَّهم مطايا للاستعمار، يُذلُّ الأُمَّةَ ويَستَعبِدُها باسمهم، فاستجَابُوا جميعًا للدَّعوةِ، واجتمعوا في يومها المقرَّر، ودام اجتماعنا في نادي التَّرقِّي بالجزائر أَربَعةَ أيَّامٍ، كانت مِن الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر. ولما تراءَت الوجوه، وتعَالت أصواتُ الحقِّ، أيقن أولئك الفقهاء أنَّهم ما زالوا في دورِ التلمذة، وخضعُوا خُضُوعَ المسلم للحقِّ، فأسلموا القيادة لنا، فانتُخِبَ المجلس الإداري مِن رِجالٍ أكفاءَ جمعتهم وِحدَةُ المشرب، ووِحدَةُ الفِكرةِ، ووِحدَةُ المنازع الاجتماعية والسياسية، ووِحدَةُ المناهضَةِ للاستعمار. وقد وكَّلَ المجتمعون ترشيحهم إلينا فانتخبوهم بالإجماع. وانتخبوا ابن باديس رئِيسًا، وكاتب هذه الأَسطُرِ وكيلًا نَائبًا عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة وَاقِعةً قَانونيةَ... وجاءَ دَورُ العمل"[3].

عُلُو هِمَّةِ الإِبراهيمي:

لقد كان لدى هذا الشاب المصلحِ همَّةُ فَعَلت الأفاعِيل، وصَنعَت الأعاجيبَ، في تَفقِيهِ أُمَّتهِ وإِنقاذِ وطَنهِ، وإِصلاحِ ما أفسَدَه الغَربُ الفرنسِي! وكان يغلُبُ على كتابتهِ ما يُمكن تسميتُهُ بـ(رُوحِ الاستِنهَاضِ)! فهو مشغُولٌ بالتحفِيزِ والحَضِّ على القِيامِ بمطَالبِ أٌمَّته[4].

هذهِ الهِمَّةُ هي التي صَنَعَت شيئًا ممَّا تقدَّم ذكرُهُ، فنَقلَها وَاقِعًا في مُجتَمعِهِ، وجَعلَها شِعارًا في حَياتهِ ومَسيرَتِهِ، فصَارَت يَحشدُ بها هِممَ الشَّبابِ، ويُنادِي بها في المحافِلِ والمُناسبَات! فالواعِظُ والوازِعُ الدِّيني هو أَكبر أَسبابِ الروحِ لتُستَنهَضَ، والهِمّةِ لتَتحرَّكَ، والجوارِحِ لكي تفعَلَ وتعمل! فـ"الوَعظُ الدِّيني هو رائِدُ جمعيةِ العُلماءِ إلى نُفوسِ الأُمَّةِ، جَعلَته مُقدِّمةَ أعمَالها، فمهَّد واستقرَّ، وذلَّلَ الصِّعابَ، وألَانَ الجوامِحَ، وعليه بُنِيَت هذه الأعمالُ الثَّابِتةُ مِن إصلاحِ للعقَائِدِ، ونَشرِ للتَّعليم، ومِنه جنت كلَّ ما تحمدُ اللهَ عليه مِن نجاحٍ"[5].

لقد كان الإبراهيمي ينطلِقُ في أعماله مِن قوله: "الأعمَالُ الكبيرةُ إذا توزَّعتها الأيدي، وتقاسمَتها الهِممُ، هان حِملُها وخفَّ ثِقلُها، وإن بلغت في العظم ما بلغت!"[6]؛ وقوله: "إنَّكم ستسمَعُون منِّي كلمَاتٍ مِن بابِ الحَمدِ والشُّكرِ، ولكنَّها مِن باب الحثِّ والازعاجِ، وسأصِلُ بها مبدَأَ هذا العمل بنهَايتِه، فقد بدأناه مجتمعين، وختمناه مجتمعين، ولكن كلّ أعمالنا فيه تعدُّ شيئًا يتَرقبُّ تمامَه، فإذا كنتُ قاسيًا في كلامي فذلك لأنَّ عملي معكم نُسخَةٌ مِن عَملِ الطبيب: يجرح ولكنه يبرئ"[7].

عِناية الإِبراهِيمي بالشباب:

جعلَ الإِبراهِيمي شرِيحة الشباب أَكبَرَ هَمَّه وأَساسَ عَملِه؛ وبنى عليهم دعوَته. فأَلقى عليهم الخُطبَ ليوجههم، وكتب لهم المقَالات ليُرشِدهم. فكانَ أَن ألقى ونشر (إِلى الشَّبابِ) و(الشَّبابُ المُحمَّدي) و(الشُّبانُ والزَّواج) وغيرها الكثير من المقالات[8]. خاطبَهم فيها بأَلطَفِ عِبارَةٍ، وأَوضَحِ إِشَارَةٍ، يُشعِرهم مِن خِلالِ كَلامِه بالأُبُوَّةِ مِن جِهةِ، وبالنصحِ والصِّدقِ مِن جِهةِ أُخرى. فكان يرى أنَّهم هُمُ الذين عليهم المٌعوّل! ولهم وعليهم البِناءُ في الآخِرِ والأَوَّل. فوَصفَهم بأَوصَافٍ رَائِعةٍ، وألقَابٍ رائِقَةٍ، فكان منها قوله: "شَبابُ الأُمَّةِ هم عمَادُها، وهُم مادَةُ حياتِها، وهُم سِرُّ بريقِها"[9]، "هم السَّاقُ الجَدِيدُ في بنَاءِ الأُمَّةِ، والدَّمِ الحَدِيدُ لحياتِها، والامتدادُ الطَّبيعيُّ لتاريخِها"[10]، و"الشَّبابُ أمَّةٌ مُستَقِلَّةٌ"[11]، هم "أَمَلُنا ووَرَثةُ خصَائِصِنا"[12].

كانت كلمَاتُه تَفيضُ حُبًّا وحَنانًا ورِعايَةً واهتمَامًا. فكان يقول لهم: "أي أبنائي! إنَّ هذا القَلبَ الذي أَحمِله يحمِلُ مِن الشَّفقَةِ عليكم، والرَّحمَةِ بكم، والاهتمَامِ بشُؤونِكم، ما تَنبَتُّ مِنه الحبَالُ، وتَنُوءُ بحِملِه الجِبالُ"[13]. كلُّ ذلك لأنَّ "الأُمَّةَ الرَّشيدَةَ" في نظره: "هي التي تحرُسُ شبَّانها في طَورِ الشَّبابِ مِن الآفَاتِ التي تصَاحِبُ هذا الطَّورِ. فتحَافِظُ على أَفكَارِهم أن تَزِيغَ، لأَنَّ هذا الطَّورَ طَورٌ له ما بعده مِن زَيغٍ أو استقَامَةٍ! وتحافظُ على أهوائهم أن تتجه اتجاهًا غَيرَ محمُودٍ. وتحافظُ على عقُولِهم أن تعلَقُ بها الخيالات، فتنشأُ عليها، ويعسر أو يتعذَّر رجوعُهم عنها، وتحافظ على ميولهم وعواطفهم أن تطغى عليها الغرائزُ الحيوانيةُ، لأنَّ هذا الطور هو طورُ تنبُّهها ويَقظَتها!"[14].

ويقول مُخاطِبًا ومُذَكِرًا المُعلِمِين والمُنَشِئِين: "إنَّكم جُنودُ الإصلاحِ، فأصلحُوا نُفوسَكم ودَاوُوها،... إن أشرَفَ خِدمَةٍ يُقدِّمُها العاملون المخلصون لأمَّتِهم ولوَطنِهم هي التعليم والتربية الصالحة، فهما سلَّمُ الحياةِ وإكسيرُ السَّعادةِ...

أنتم معَاقِدُ الأملِ في إصلاحِ هذه الأُمَّةِ، وإن الوَطنَ لا يعلِّقُ رجاءَه على الأُميِّين الذين يُريدُون أن يصلِحُوا فيُفسدُون، ولا على هذا الغثَاءِ مِن الشَّبابِ الجاهِلِ المتسكِّعِ الذي يعيشُ بلا عِلمٍ ولا عَقلٍ ولا تَفكيرٍ، والذي يغطُّ في النَّومِ ما يغطُّ، فإذا أفَاقَ على صيحَةٍ تمسَّكَ بصدَاها وكرَّرها كما تكرِّر الببغاءُ!"[15].

لقد كان الإبراهيمي يُشعِرُ فِئةَ الشَّبابِ بعَظيمِ اهتمَامِه، وكبيرِ تفكِيرِه، وأنَّهم هم نَواةُ المجتمعِ وأسَاسُه، فيقول: "أيُّها الأبناءُ الأعزَّة.. لستم منَّا بموضعِ الهوانِ حتى ننسَاكم، وليس شأنكم عندنا بالهيِّن حتى لا نفكِّرَ فيه، وليس مُستَقبَلكم في نَظَرِنا بالرَّخيصِ حتى لا نُغالي فيه، إنَّما أنتم عندنا أحجَارُ بناءِ المستَقبَلِ المجيد، فحقٌّ علينا أن نتخيَّرَ وأن نستَجيد، وإنَّما أنتم ذخائر الغد!"[16].

وكانَ يتابعُ أَخبارَهم في الدَّاخلِ والخَارجِ باهتمامٍ وكَبيرِ شَغفٍ، مُراقِبًا ومُحذِّرًا مِن أَيادِي السُّوءِ أَن تُؤذِيهم، وشياطِين الإِنس أَن تُفسدَهم وتُغوِيهم: "ما زِلنا نتتبَّعُ أخباركم باهتمام، ونعوّذكم بالله وبالمعوّذات مِن كلامه أن تكون مِن ورائكم يدٌ تحرِّكَكم للمساعي الضائعة، أو تكيدَ لكم مِن حيث لا تشعرون، فقد عوَّدنا هذا الزَّمانُ الفَاسِدُ عادات مَرذُولةٍ في استغلال الشَّبابِ وتصريفِهم في غير الطُّرقِ التي خلِقُوا لها!"[17].

وكان يتمنَّى ما تمنَاهُ أَمِيرِ الشُعراءِ أَحمد شوقِي حين قال:

هل يمدُّ اللهُ لي العيشَ عَسَى *** أَن أرَاكم في الفريقِ السُّعداءِ

فيٌعَلِقُ الإِبراهيمي على هذه الأبيات قائلا: "لا أخَالِفُ شوقي إلَّا في التَّخصيصِ، فقد خَاطبَ بهذا شبابَ النِّيل، وأنا أهتفُ بشبابِ العَربِ وبشبابِ الإسلام، أهتِفُ بشبابِ العَربِ أن يرعَوا حقَّ العُروبَةِ، وأن يكونوا أوفياءَ لها، وأن يعلموا أنَّها ليست جنسيةَ تَميُّزٍ، ولا نِسبَةَ تَعرُّفٍ...، وإنَّما هي بناءُ مآثرٍ، وتَشييدُ أمجادٍ ومحَامِدٍ، وإنَّما هي مساعٍ مِن الكِرامِ إلى المكارم، ودواعٍ مِن العُظمَاءِ إلى العظائم...

ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أنَّ الإسلام ليس لفظًا تلوكه الألسنةُ المنفَصِلةُ عن القلوب، وتتنَاولُه قوانين التَّعريفِ بموازِينها الحرفِيَّةِ، وتقلُّبه اشتقاقات اللغة على معانيها"[18].

لقد عقد الإِبراهِيمي الأَماني على هؤُلاءِ الشباب، أَنَّهم هم الباقون مِن بعده، المُصلِحون مِن ورَائِه، المُكمِّلون لما بدأَهُ مِن إِصلاحٍ ودَعوةٍ وجِهادٍ، ويقُول: "لا نملِكُ بعد الاعتماد على الله إلَّا ثِقتَنا بأنفِسِنا وأبناءٍ بَرَرةٍ مِن شبَابنا الصَّالحِ المرجو للصَّالحات، المدَّخرِ لحمَل رَايةِ الإصلاحِ بعدنا، المرشَّحِ لاقتحَامِ ميَادِينه"[19]. وكان يُشِيدُ بمَن علَّمَهم ودرَّسَهم، وأَعدَّهم وهذَّبَهم وصقَلَهم فيقول: "ومِن شبَّان ربينَاهم للجزائرِ أشبَالًا، ووتّرناهم لعدوِّها قسيًّا ونِبَالًا، وصوَّرنا مِنهم نماذِجَ للجيلِ الزَّاحِفِ بالمصَاحِفِ، وعلَّمناهم كيف يُحيون الجزائر، وكيف يَحيَون فيها"[20].

وعند حديثهِ عن ما أثمرته الحركةُ الإِصلاحيَّةُ في الشَّبابِ يقول: "فأصبَحَ بها القُرآنُ قريبًا إلى الأفهَامِ، مُؤثِّرًا في العُقُولِ، وأصبحنا نَسمَعُ مِن تلامِذَتِنا الذين ربيناهم على القُرآنِ حِفظًا وفِهمًا وعَملًا، ورَوَّضنَاهم على الغَوصِ ورَاءَ معانيه، آرَاءَ في الاجتماعِ الإنساني سَندُها القُرآنُ، ما كانت تَزيغُها أفكارُ الشُّيوخِ، وآرَاءَ في الدُّستورِ القُرآني وتَطبيقِه على زمَانِنا ومكانِنا ومصَالحِنا، ما كانت تسيغُها عُقُولُ الأجيال الماضية. وهؤلاء التَّلامِذةِ لم يزالوا بعد في المراحل العِلميَّةِ المتوسِّطةِ، فكيف بهم إذا أمدَّتهم الحياةُ بتجاربها، وأَمدَّهم العِلمُ باختباراته؟ لعمر أبيك إنَّه القرآن حين تتَجلَّى عجائبه على الفطر السليمة، والعقول الصافية"[21].

رأى الإبراهيمي أَنَّ هؤُلاء الشَّباب لوطنهم وأُمَّتهم كالرُّوحِ للجسدِ، والتَّمامِ للبُنيانِ، لا غِنى لأحدِهما عن الآخر: فـ"لا يحسنُ الشَّبابُ إلى أمَّتِهِ كُلِّها إِلَّا إِذا تبنَّتُه كُلَّه، حتى لا يقول كبير: حسبي ولدي! ولا يقول صغير: حسبي والِدِي"[22].

الشبابُ والدِّين:

إنَّ أَعظَمَ وأَصلحَ ما يُزرعُ في الشَّبابِ حُبُّه لدِينِه وتفَانِيه في خِدمَتِه؛ فهو الغَرسُ الذي ينمُو، والحصنُ الذي يُتَّقَى به، والحَائِطُ الذي لا يتَصدَّعُ: "فإِذا نشَأ الشَّبابُ على التَّديُّنِ أحبَّ الدِّين! وإذا أحبَّ ما فيه أحبَّ ما يستَتبِعَه مِن فضَائلَ وأخلاقٍ حمِيدةٍ، وعَمِلَ على غَرسِها في نُفُوسِ غَيرِه مِن الأجيال اللاحقة"[23].

وهذا لا يعني انفصاهم عن الحياة وأسبابها، يقول: "والشَّبابُ المحمَّدي أحقُّ شبَابِ الأُممِ بالسَّبقِ إلى الحياةِ، والأَخذِ بأسبَابِ القُوةِ، لأنَّ لهم مِن دِينِهم حَافِزًا إلى ذلك، ولهم في دِينِهم على كُلِّ مكرُمةٍ دليلٌ، ولهم في تارِيخِهم على كُلِّ دعوى في الفخَارِ شَاهِدٌ..!

يا شبَابَ الإسلامِ.. وَصِيَّتي إليكم أن تتَصِلوا باللهِ تَديُّنًا، وبنَبيِّكم اتِّباعًا، وبالإسلامِ عَملًا، وبتاريخِ أجدَادِكم اطِّلاعًا، وبآدَابِ دِينِكم تخلُّقًا، وبآدَابِ لُغَتكم استعمَالًا، وبإخوَانِكم في الإسلامِ ولِداتكم في الشبيبة اعتناءً واهتمَامًا، فإن فعلتم حزتم مِن الحياةِ الحظَّ الجَليلَ، ومِن ثَوابِ اللهِ الأَجرَ الجزِيلَ، وفاءَت عليكم الدُّنيا بظِلِّها الظليل"[24].

والمخَاطِرُ الكَثيرةُ تُحدِقُ بالشَّباب في طريقِ حيَاتِهم، لا سِيَّمَا مِن جِهَةِ دِينِهم وهَوِيَّتِهم، فتُحيطُ بهم العقبَاتُ والمُعوِّقَاتُ، وتَدفعُ بهم إِلى الانحرافَاتِ والضَّلالاتِ. وما أصَابَ الشَّبابَ ما أصَابَهم إِلَّا حين غَابَ عنهم فَهمُهم لدِينِهم ، والمَعرفَةُ للوَاجبِ الذي عليهم، والإِدرَاكِ والإِحَاطَةِ لمحَاسِنِ شَريعَتِهم. فـ"لو أنَّ الإسلامَ فُهِمَ على حقِيقَته، وطُبِّقَ على وجهِهِ الذي جاءَ به مِن عند الله محمَّد بن عبد الله، لكان هو الدواءُ النَّافِعُ الذي يحل العُقَدَ ويَرفَعُ الإشكال، ولكان هو الحكم في مُعتَركِ الخِلافِ، والجَالبُ بقوانينه وأخلاقه لسعَادَةِ العَالم"[25].

كان الإبراهيمي يُحذِّر الشَّبابَ ممَّا أُلصِقَ بدِينِهم مِن الأباطيلِ والأضالِيل، ويُذكِّرُهم بسيرةٍ نبِينا مُحمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- فيقول: "إنَّ دِينَكم شوّهته الأضَاليلُ، وإنَّ سِيرةَ نبيِّكم غَمَرتها الأباطِيلُ، وإن كتَابَكم ضيَّعته التَّآويل، فهل لكم يا شبَابَ الإسلامِ أن تمحُوا بأَيدِيكم الطَّاهِرةُ الزَّيفَ والزَّيغَ عنها، وتكتُبوه في نُفُوسِ النَّاس جَدِيدًا كما نَزَلَ، وكما فَهِمَه أصحَابُ رَسولِ الله عَن رَسولِ الله. إنَّكم قد اهتديتم إلى سواء الصِّراطِ فاهدوا إلى سواءِ الصِّراط"[26].

وكاَنَ يرى أنَّ هناك عوامِلُ وأسبَابٌ ساهَمَت في هذه الجَفوةِ بين الشَّبابِ ودِينِه وهَوِّيتِه وأُمَّتِه، يتَعلَّقُ بعضُها بالجَوانِبِ العَقديّةِ والفِكريَّةِ، وبالأُمُورِ السُّلوكيّةِ والأَخلاقيَّةِ. ومِن عَادِته أَنَّه يذكُرُ الأسبَابَ والمظَاهِرَ ثمَّ يتبِعُها بذكِرِ الحُلُولِ والعِلاجِ. فهو يَرى أَنَّ إِصلاحَ النَّشءِ مِن الشَّبابِ والمجتمعات مرتكزُ على أُمورٍ أَربعة: (البيتُ) و(المَسجِدُ) و(المَدرَسةُ) و(المُجتَمعُ). فكيفَ إِذا ما تَمَّ تَعطِيلُها، أو إفسادُها وتخرِيبُها؟!

يقول الإِبراهيمي: "إذا كان الشَّبابُ لا يَفهمُ الدَّينَ مِن البيتِ، ولا مِن المسجِدِ، ولا مِن المدرَسةِ، ولا مِن المجتمعات، فإن فَهِمَ شيئًا مِنه في شَيءٍ مِنها فَهمَه خِلافًا وشَعوَذةً وتَخرِيفًا. ففي أيِّ مَوضِعٍ يَفهمُ الإسلامَ على حَقِيقتِه طهَارَةً وسُموًا واتِّحادًا وقُوةً وعِزَّةً وسيَادَةً؟!"[27].

ويضيف: "إنَّ شبَابَنا اليوم يتَخبَّطُ في ظُلمَاتٍ مِن الأفكَارِ المتضَارِبَةٍ، والسُّبلِ المضِلَّةِ، تتَنَازَعه الدِّعايَاتُ المختَلِفةُ التي يقرَأَها في الجرِيدَةِ والكِتابِ، ويسمَعُها في الشَّارعِ وفي المدرَسةِ، ويَرى مظَاهِرَها في البيتِ وفي المسجدِ. وكُلُّ داعٍ إلى ضَلالَةٍ فِكريَّةٍ أو إلى نحلَةٍ دِينيَّةٍ مفرِّقَةٍ يَرفعُ صَوتَه ويجهرُ ويُزيُّنُ ويُغري ويَعِدُ ويُمنِّي، ونحن ساكِتُون! كأنَّ أَمرَ هؤُلاءِ الشُّبَّانِ لا يعنِينا، وكأنَّهم ليسُوا مِنَّا ولسنَا مِنهم، ولا عَاصِمَ مِن تَربيةٍ صَالحةٍ مُوحَّدةٍ تعصِمُهم مِن التَّأثُّرِ بهذه الدِّعايَاتِ، ولا حَامٍ مِن مُذكِّرٍ أو مُعلِّمٍ أو مَدرَسةٍ أو قَانونٍ يحميهم مِن الوقُوعِ في هذه الأشراك"[28].

المخاطِر الّتي تقفُ في طريقِ الشّباب:

لقد عصَفَت بالشَّبابِ -يمينًا وشمالًا- أُمُورٌ أَدَّت بهم إِلى التَّنكُّبِ لدِينِهم، وقضايا أُمَّتِهم، أَخطَرُها ما كان مُتعلِّقًا بالجَوانِبِ الفِكريةِ مِن انبهَارٍ بالغَربِ، وإِعجَابٍ بما يُقرِّرُه مِن ثقَافَتهِ، ممَّا تسبَّبَ في إِرثٍ لعِدَّةِ تفصِيلاتٍ وتَفرِيعَاتٍ. ويعيد الإبراهيمي هذه الأمور إلى جهلُ الشَّبابِ بدِينهم: ما أَفقَدَهم الثِّقةَ في مَاضِيهم وحَاضِرِهم ومُستَقبَلِهم، وفي محَاسِنِ دِينِهم.

"إِنَّ شبَابَنا لجهلِهم بالإسلامِ أصبَحُوا لا يثِقُون بماضِيه، وكيف يثِقُون بمَاضٍ مجهُولٍ وهذا حَاضِرُه؟ أم كيف يدافِعُون عن هذا الماضي المجهول إذا عَرضَ لهم الطَّعنُ فيه في الكتَّاب الطَّاعِن؟ أم سمعوا اللعن له مِن الأستَاذِ اللاعِنِ؟ أم كيف يفخرُون بالمجهول إذا جليت المفَاخِرُ الأجنَبيَّةُ في كتَابٍ يُقرِّرُه قانون ويزكِّيه أستَاذٌ؟ اعذروا الشُّبَّان ولا تَبكُوا على ضيَاعِهم فأنتم الذين أضَعتُمُوهم، ولا تَلومُوهم ولومُوا أنفسَكم. أهملتموهم فذوقُوا وبَالَ الاهمالِ. وأنزلتُمُوهم إلى اللُّجَّةِ وقُلتُم لهم: إيَّاكم أن تَغرَقُوا! ثمَّ استَرعَيتم عليهم الذئَابَ ومن استرعى الذِئبَ ظَلَم"[29].

وهذا الجَهلُ قابلَه انبِهارٌ وتَعظِيمٌ للحضَارَةِ الغَربيَّةِ، ما أَدَّى إِلى تلقُّفِ الغَربِ الكَافِرِ لهؤُلاءِ الشَّبابِ: "إنَّ جُلَّ أَبنَائِنا الذين التَقَطتهم أُورُبا لتُعلِّمَهم عَكَسوا آيةَ فِرعونَ مع مُوسى. ففِرعونُ التَقطَ مُوسى لينفَعَه ويتَّخِذَه ولَدًا، ورَبَّاه صَغِيرًا وأحسَنَ إليه، فكان مُوسى له عَدُوًا وحَزَنًا وسَخنَةَ عَينٍ، أمَّا أبنَاؤُنا فقد التقَطَتهم أورُبا وعلَّمَتهم وربَّتهم فكانوا عَدُوًا لدِينِهم، وحَزنًا لأَهلِه، وسَخنَةَ عَين لأهليهم وأوطَانِهم، إلاَّ قليلًا مِنهم دَخلَ النَّارَ فما احتَرقَ، وغشيَ اللُّجَ فأَمِن الغَرقَ!"[30].

ويتحدث الإبراهيمي عن هذا الانبِهارُ فيقول: "عَمدُوا إلى الشَّبابِ فرَمَوه بهذه التَّهاويلِ مِن الحضَارَةِ الغَربيةِ، وبهذه التَّعالِيمِ التي تَأتي بنيَانَه الفكري والعقلي مِن القَواعِدِ، وتحرفُ المسلم عن قِبلَتِه، وتحوِّلُ الشَّرقي إلى الغَربِ، وإنَّ مِن خصَائصِ هذه الحضَارَةِ أنَّ فيها كُلُّ معَاني السَّحرِ وأسَاليبِ الجذبِ. وحسبُكم مِنها أنَّها تُفرِّقُ بين المرءِ وأَخِيه، والمرءِ ووَلدِه، فأصبحَ أبناؤُنا يهرَعُون إلى معَاهِدَ العِلمِ الغَربيةِ عن طَوعٍ مِنَّا يشبَهُ الكُرهَ، أو عن كُرهٍ يشبَهُ الطَّوعَ، فيَرجِعون إلينا ومعهم العِلمُ وأشياءَ أُخرَى ليس مِنها الإسلامُ ولا الشَّرقيةُ، ومعهم أسماؤُهم وليس معهم عقُولُهم ولا أفكَارُهم. وإنَّ هذه لهي المصيبَةُ الكُبرى التي لا نَبعُدُ إذا سمَّينَاها مَسخًا. وليتها كانت مَسخًا للأفرادِ، ولكنها مَسخًا للأمم ونَسخًا لمقوِّماتها"[31].

حتَّى وَصَلَ الحَالُ ببَعضِ الشَّبابِ أن: "تَركُوا حِكمَةَ الدِّينِ في تحريمِ الخَمرِ، وزَواجِرَ القُرآنِ في التَّعبيرِ عنه، والتَمسُوا تحريمَه مِن قوانين أمريكا، وقلَّدُوها في تَأسيسِ الجمعيات لمنعِ المسكرات!!"[32].

لقد "تركوا فَخرَهم الذي يَتِيهون به على الأُمَمِ، ووَضعُوا أَنفُسَهم في مُؤخِّرةِ الأُممِ! وما أقبحَ بالمسلمِ أن يَطلُبَ الحكمَةَ مِن غَيره وعندَه مَعدِنُ الحكمة، وأن يتطفَّلَ على موَائِدِ الغَيرِ وعنده الجفنَةُ الرَّافِدةُ!!"[33].

 

وممَّا توَلَّدَ عن ذلك تسَرُّبُ المفَاهيمِ الكَافِرةِ للمجتمعِ المسلمِ، وتوَلُّدُ شَبحُ الإِلحادِ لدى شريحةِ الشَّبابِ: و"تُمثِّلُ مسأَلةُ وُجودِ اللهِ تعالى مَساَلةً شَدِيدَةَ المركزيَّةِ والأَهميَّةِ في البَحثِ العَقدِيِّ. فهو الأَصلُ الذي تُبنَى عليه كُلُّ المُقرراتِ التَّاليَّةِ، بل هُو المحدِّدُ الأسَاسُ الذي يتَحدَّدُ في ضَوئِهِ تَطرُّقُ المُؤمِنُ لنَفسهِ وللحيَاةِ والكَونِ مِن حولهِ"[34]. لذلك فإنَّ فُشوَ ظاهِرةِ الإلحَادِ لم تكن بذاك الشيءِ المَلحُوظِ، ولا بالأَثرِ القَوي، وقد عبَّر عنه الإِبراهيمي ووَصَفهُ بأنه: "ضَيفٌ ثَقِيلٌ"[35]، ورأى أنَّ الشَّبابَ -زهرةَ الأُمَّةِ- هي الطَّائفةُ المعرَّضُةُ للإلحادِ "وأنَّها جَدِيرةٌ بكُلِّ عنَايةٍ واهتمَامٍ"[36].

 

 سعد بن عبد الله بانِيمة

_________________

[1] الآثار: ج2/235.
[2] الآثار: ج5/280.
[3] الآثار: ج5/281.
[4] انظر: كتاب الماجريات، للشيخ إبراهيم السكران: ص74.
[5] الآثار: ج5/356.
[6] الآثار: ج2/379.
[7] الآثار: ج3/285.
[8] هذه عناوين مقالاتٍ كتبها، فانظرها في الآثار: ج3/293، وج4/120، و267.
[9] الآثار: ج2/453.
[10] الآثار: ج4/267.
[11] الآثار: ج2/301.
[12] الآثار: ج3/293.
[13] الآثار: ج3/265.
[14] الآثار: ج3/295.
[15] الآثار: ج2/116.
[16] الآثار: ج3/413.
[17] الآثار: ج3/413.
[18] الآثار: ج4/267.
[19] الآثار: ج4/267.
[20] الآثار: ج4/182.
[21] الآثار: ج4/231.
[22] الآثار: ج2/263.
[23] الآثار: ج4/121.
[24] الآثار: ج4/78.
[25] الآثار: ج4/271.
[26] المرجع السابق نفسه.
[27] الآثار: ج4/221.
[28] الآثار: ج4/221.
[29] الآثار: ج4/222.
[30] الآثار: ج4/312.
[31] الآثار: ج2/470.
[32] الآثار: ج1/95.
[33] الآثار: ج1/95.
[34] شموع النهار، عبد الله العجيري: ص23.
[35] الآثار: ج1/194.
[36] الآثار: ج1/194.

المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث
  • 4
  • 0
  • 24,295

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً