كي تكون مبدعا في أفكارك
أمين أمكاح
إن الاستطاعة الإبداعية والقدرة على الابتكار الفكري ليس نقطة قوة طبيعية بقدر ما هو نتاج مكتسب بفعل تراكمات إيجابية يحملها العقل البشري. وبقدر ما يكون العقل غير ممتلئ بمظاهر الفكر الخرافي والرؤى الأسطورية يكون ولاداً
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
من المناسب جداً أن نبدأ هذه الرحلة الفكرية بتقديم فكرتي حول مفهوم الإبداع الذي أعتبره من منظوري الشخصي أنه مهارة تفكير عالية مسؤولة على امتلاك القدرة على انتاج الأفكار المتميزة والأصيلة أي؛ القابلية على اكتشاف أفكار جديدة وصناعتها بشكل أصيل من خلال إحداث بصمة فريدة بعيدة عن النمطية السائدة.
يمتلك العقل القدرة على التفكير الإبداعي حين يستقل التفكير فتكون له بذلك فلسفته الخاصة به، وهذا ما يسهل عملية اتصال الإبداع بالعقل، لأن توليد الأفكار الأصيلة لا يكون إلا من صاحب الفكر المتحرر غير المحكوم بعوائق داخلية ذاتية ولا بأغلال فكر الآخرين؛ فلا يتبع غيره في طريقة تفكيره، فيصبح بذلك عقله تلقائيا يفكر بشكل غير قياسي؛ وهذا ما يكسبه القدرة على الابتكار بسهولة دون استحضار أي نسخة فكرية متبعة في كل ما يتم التفكير فيه.
إن الاستطاعة الإبداعية والقدرة على الابتكار الفكري ليس نقطة قوة طبيعية بقدر ما هو نتاج مكتسب بفعل تراكمات إيجابية يحملها العقل البشري. وبقدر ما يكون العقل غير ممتلئ بمظاهر الفكر الخرافي والرؤى الأسطورية يكون ولاداً من ناحية الإنتاج الإبداعي، كما تكون قدرته عالية على إنتاج الأفكار الصحيحة البنية والمضمون؛ ويحصل ذلك بفعل غنى المادة الإبداعية الخام المتوفرة فيه والتي تمكنه من بلورة الأفكار المبتكرة.
كما لا يخامرني شك في أن صاحب الفكر العميق لا يمكنه أن يعلق في دوامة السطحية القاتمة، لأنه محمي بجدار سميك البنية بفضل ثراء أفكاره، فالعمق في التفكير يخلق الإبداع الحقيقي، لأن الأفكار المنتجة من تلك العقول تكون في الغالب ذات هيكلة متينة البنية وإن بانت ظاهريا غير مقبولة شكلا.
وليس ثمة ما هو أكثر أهمية من الطريقة التي يفكر بها الإنسان، فمنهجية التفكير هي المحدد الفعلي والمقياس الحقيقي لمعرفة درجة الإبداع في فكر إنسان ما، كما أن وفرة مخزون الإبداع راجع لمدى ارتفاع درجة المرونة في التفكير والأصالة في تبني الأفكار مع الانفتاح على كل ما هو متاح ومشترك إنسانيا رغم اختلاف المرجعيات والخصوصيات.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه في سياق هذا الحديث هو: كيف يمكن لنا أن نكون مبدعين في أفكارنا؟
قد تمتلك مقومات الابتكار لكن الأفاق ضعيفة جدا لوصول صدى الإبداع صوب عقلك لكي يسمح له باختراق جدران تفكيرك؛ فتنتفع بما عندك ويستفيد غيرك بما يمكن لك إنتاجه، ولتقوية ذلك النقص الحاصل ينبغي عليك الاعتماد على أهم مرتكزات الإبداع الفكري التالية:
تركيز التفكير:
التركيز سر من أسرار قوة العقل البشري، ويقصد بتركيز التفكير هنا؛ حصر العقل في موضوع واحد أو توجيهه نحو عمل محدد والاشتغال به وعدم الانتقال لشيء آخر حتى يتم الانتهاء بما تم الابتداء فيه، فالمحافظة على درجة التركيز العالي يرفع من نسبة حصول الإبداع الفكري؛ لأنك بذلك تتمكن من الإمساك جيدا بزمام أفكارك وتمنع عقلك من الوقوع في حالة الشرود الذهني الذي يشتت الأفكار.
التفكير في شيء تحبه:
إن اقتران ما تفكر فيه بالحب يمنحك الشغف الفكري الذي هو عنصر أساسي في صناعة الإبداع، فقد تفكر فيما لا تحبه ورغم ذلك تنجح في صياغة مجموعة من الأفكار، ولكن كن على يقين أن وتيرة الإبداع بطيئة جدا لتصل لتلك الأفكار.
اختيار الوقت المناسب لتعميق التفكير:
الذي يحسن اختيار الوقت المناسب للتفكير في شيء ما يكسب عاملا مهما لحصول الإبداع في أفكاره؛ بتحديده للوقت المناسب بدقة متناهية، لأن اختيار توقيت محدد لممارسة النشاط الذهني العميق ضروري وحاسم جدا في بروز الإبداع الفكري المتميز.
انتقاء بيئة ملائمة للتفكير:
كلما كانت البيئة المحيطة بالذي يفكر صالحة للتفكير الحر ارتفعت معه نسبة الإبداع اضطرادا، لأن التشكل الفكري عند الفرد لا يحدث بصورة مستقلة عما يحيط به، لذا فانتقاء البيئة الملائمة للتفكير دافع جوهري في جعل أسلوب التفكير زاخرا بالحس الإبداعي.
التحلي بالجرأة المعقلنة في التفكير:
كثيرة هي الأفكار التي تفقد اللمسة الإبداعية لا لشيء إلا لغياب نوع من الشجاعة المعقلنة في الطرح والصياغة، لذا فعند امتلاكك لهذا النوع من الجرأة تكون قد قطعت شوطا مهما لبلوغ الإبداع الفكري.
الاقتناع بما تفكر فيه:
حين تقتنع بما تفكر فيه يسهل عليك إخراج الإبداع من بواطن رحم فكرك، فالابتكار منوط بدرجة الاقتناع بما تفكر فيه، لأنه لا يمكن البتة أن يمتلك ناصية الإبداع من ليس بمقتنع بما عنده من أفكار.
استثمار التفكير بشكل جيد:
اعرف كيف تستثمر تفكيرك؛ فكل الناس يفكرون، لكن ليس جميعهم يعرفون كيفية إنفاق تفكيرهم بشكل جيد، والإبداع يأتي بسرعة لا مثيل لها عند الذي يمتلك القدرة على إدارة تفكيره بفاعلية محكمة.
اعتماد الأصالة الفكرية:
يسيل لعاب فكرك للإبداع كلما اعتمدت على أفكارك المتفردة وابتعدت عن تقليد ما هو معتاد، فلا تسمع لمن يقول لك: "فكر كما يفكر فلان"؛ فأنت لست فلان فتميز واختلف عن الأفكار الشائعة وكن صاحب فكر أصيل، وهذا في حد ذاته ذروة الإبداع الفكري.
فكر لذاتك قبل كل شيء:
الإبداع مرتبط بما تحققه لذاتك من رقي وتطور ولا يوزن بعدد الأتباع، فلا تنسجُ الأفكار الإبداعية الحقيقية بغرض جلب المعجبين لتحقيق نسبة عالية من التجمهر حولها ولتنال بذلك نصيبا وافرا من المدح والشكر.
خلق محفزات فكرية ذاتية:
أقوى محرك لزيادة قريحتك الإبداعية أن تستطيع تغذية ذهنك على الدوام بمحفزات فكرية ذاتية؛ فبفعلها يتم إيقاظ أفكارك الإبداعية من سباتها ودفعها للنهوض والنشاط.
وتبقى هذه المرتكزات أساسية لجعل صدى الإبداع حاضرا في أفكارك، لأنها نابعة عن تجربة ذاتية أراها صالحة للتعميم ليستفيد منها غيري وذلك ما أمله. وما يجمع كل ما سلف ذكره هو الاستمتاع بما تفكر فيه لأنه أهم شيء لا ينبغي أن ينطفأ في ذهنك ليبقى صدى الإبداع واصلا لأفكارك.
وعلى كل حال أتمنى أن تكونوا من المستمتعين والغانمين بعد هذه الجولة الفكرية التي رمت من ورائها تحديد المعالم الكبرى للإبداع والتي يمكن من خلالها أن تضع فكرك في نطاقها حتى لا تتخبط في متاهة التخلف الإبداعي في ظل هذا العالم المتطور.
ومن الجدير بالذكر أن محاولة بناء صياغة جديدة في طرح الأفكار تجعل البصمة الإبداعية حاضرة بشكل قوي، فالتمكن من نسج الأفكار الإبداعية لا يتم إلا بوجود سعة عالية من الاطلاع، لأن القراءات المتعددة من أهم وسائل بناء الإبداع الفكري؛ فبها يكتشف الخطأ أو القصور ليتم التصويب والتكميل، وأحيانا قد يتم الهدم الاستدراكي الكلي للفكرة التي كنت في طور بناءها لتقدم فكرة جديدة أفضل في الصياغة وأقوى في التماسك.
وفي النهاية هذه الرحلة الفكرية لابد أن أشير إلى شيء مهم جدا ولا يمكن إغفاله وهو أنه ليس لدى المتخلف إبداعيا ما يسوغ تخلفه؛ فالإبداع الفكري لا يتطلب الكثير لأنه مجرد مسألة إرادة ورغبة وليست مسألة استطاعة واستحالة، لهذا يمكن تحميل المرء مسؤولية ركوده الإبداعي لأن فكره هو المسؤول الأول عن تخلفه الابتكاري.