حكمة وفقه2
أحمد صقر
الشريعة الإسلامية جاءت بمقاصد تشريعية فى أُصولها وفروعها، مقاصِد عُظمَى تُنَظِّم الحياة الإنسانية فى جميع مناحيها، وتُسيِّر علاقة البشر مع بعضهم بعضا وعلاقتهم بربهم وخالقهم.. ولكل حُكْم غاية ومصلحة شُرِع لأجلِها.
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
ولأن الله لم يخلُق الكون سُدىً، ولم يبرَأ الخَلْق عبثًا، ولأن الله سبحانه شرع شريعة ارتضاها لعباده أمرهم فيها بقُرُبات ونهاهُم عن حُرُمات يُفرَق فيها بين ضال ومُهتَدٍ؛ فإن لمآلات أفعال الخلق فِقهًا واعتبارا مُهمًا فى استنباط الأحكام، ومقصدا شرعيا ينبنى على فهمه أحكام يشقى بها العباد ويسعدون..
إذ أن الله ما شرع الشرائع ابتداء ولا تعبد الخلق بتكليف إلا كان فيه الخير لهم ورُوعِيت المصلحة العائدة عليهم جَرَّاء هذا التكليف، والمَورِد الزُلال ( قرآن وسنة ) مليئ بالأدلة على ذلك..
{ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بالبقرة:216]
{رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]
وقول النَّبى -صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضى الله عنها فى واقعة بناء البيت: «ألم تَرَىْ أنَّ قَوْمَكِ، حينَ بنَوا الكَعْبَةَ، اقتَصروا عنْ قواعِدِ إبراهيمَ؟» قالتْ: فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ! أفلا تَرُدُّها علَىقواعِدِإبراهيمَ! فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لولا حِدْثانُ قومِكِ بالكُفْرِ لفَعَلْتُ» (رواه مسلم).
وحين أُشير عليه - صلى الله عليه وسلم - بقتل من ظهر نفاقه قال: «لا يتحدثُ الناسُ أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابَه» (رواه البخاري ومسلم).
فيجب على المُجتَهِد الترَوّى وإمعان النظر وإطلاق عين البصيرة فيما تؤول إليه أفعال العباد سواء بالإقدام أو الإحجام واعتبار المصالح والمفاسد، ولا يجوز إطلاق القول بالمشروعية من عدمها دون اعتبار المآلات، وهو بحر بعيدة لُججه صعب مَورِده بالنسبة للمجتهد..
وليس من الفِقه أن يجتهد المجتهد فى إجابة مستفتيه بحُكم شرعى دون تقدير لمآل هذه الفتوى وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، وليس من الفِقه إغفال ما يتعلق بمآلات الأفعال من أركان ركينة كَسَد الذرائع وإن كان الحُكم متعلقا بمُباح، وفِعل ذلك جِناية أعظم من جِناية الطبيب الغافل على أبدان العباد، وليس من الفقه الجُمُود على ما كان عليه الفُقهاء قديما دون مراعاة لأزمان متداوَلة وأعراف مشروعة متبدِّلة ومن ثَمَّ إسقاط تلك الأحكام على وقائِع غير الوقائع وأعراف غير الأعراف..
قال ابن العربى: "اختلف الناس بزَعمِهم فيها وهى مُتفَق عليها بين العُلماء ، فافهمُوها وادخروها".
قال الشاطِبى فى المُوافقات: "النظر فى مآلات الأفعال مُعتَبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالِفة، وذلك أن المُجتهد لا يحكُم على فعل من الأفعال الصادرة عن المُكلَفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل .."
خلاصة القول..
أن الشريعة الإسلامية جاءت بمقاصد تشريعية فى أُصولها وفروعها، مقاصِد عُظمَى تُنَظِّم الحياة الإنسانية فى جميع مناحيها، وتُسيِّر علاقة البشر مع بعضهم بعضا وعلاقتهم بربهم وخالقهم.. ولكل حُكْم غاية ومصلحة شُرِع لأجلِها؛ وقاعدة اعتبار المآلات من أجل القواعد وأهم الحُصُون التى يُحفظ بها الدِين وتُقام بها الأُمَم وتُستَجلَب بها النِعَم وتُستَدفَع بها النِقَم .. فإن المآلات حِكمة وفِقه.