صاحب الجنتين 2
محمد علي يوسف
إن عدم إدراك حقيقة كون الإنعام = نوعا من الاختبار والابتلاء يورث هذا الركون والتزكية المبالغ فيها للنفس ويجعل المغتر يقطع باستحالة زوال تلك المعاملة ولا يتصور أبدا أنها قد تكون معاملة مؤقتة ستزول إن لم يرعها أهلها حق رعايتها وبالتالي يتعامل كأنه تلقى عهدا من الله بتلك النجاة الأبدية..
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التاريخ والقصص -
لم يركن الصاحب المؤمن لبرج عاجي يسهل من فوقه تقييم الخلق ومحاكمتهم دون بذل الجهد لتغييرهم ولم يكتف بأداء تكليف ثقيل يحوله الاستثقال إلى واجب جاف ودعوة لا روح فيها وكلمات جوفاء لا طعم لها.
لقد اختار أن يحاول.. أن يحاور ويجادل بالحسنى.. وأن يدخل لصاحبه..
لقد دخل عليه في جنته وبذل لصاحبه نصيحته في عقر داره وبلغت كلماته مسامع المستكبر داخل حديقته.
وكذلك ينبغي أن يكون الداعية الحقيقي:
لا يكتفي بالتقييم المستعلي والنقد السهل من بعيد ولا ينتظر المدعو ليأتيه راغبا ويسارع لتقبيل يديه ثم يجلس تحت قدميه منتظرا أن يفيض عليه من علمه.
الداعية الصادق يبحث عن المدعو.. يطرق أبوابه.. يحاول الدخول إليه من مداخله.. يحدثه بما يفهمه ويسعى للوصول إلى مفاتيح عقله ويجتهد لفتح أقفال قلبه.. حتى لو اضطره ذلك لأن يأتيه في آخر مكان يمكن أن يتوقع إتيانه فيه.. في ناديه! هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاءت نفر من قريش يوما إلى أبي طالبٍ فقالوا أرأيتَ أحمدَ يُؤذينا في نادِينا وفي مسجدِنا فانهَهُ عن أذَانا.. فقال يا عَقيلُ ائتِني بمحمدٍ فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى به إلى أبي طالب فقال: يا ابنَ أخي إنَّ بني عمِّك زعموا أنك تُؤذِيهم في ناديهم وفي مسجدِهم فانتَهِ عن ذلك فحلقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ببصرِه فقال «ما أنا بأقدرُ على أن أدعَ لكم ذلك على أن تُشعلوا لي منها شُعلةً يعني الشَّمسَ». (السلسلة الصحيحة: 1/194)
إنه إصرار الداع إلى الله في أوضح صوره وعزيمته التي لا تنكسر كما ينبغي أن تكون..
سيظل على طريقته وسيأتيهم في ناديهم ومسجدهم يسمعهم ما يريد الله لهم أن يسمعوا ويدعوهم ليغفر الله لهم.
هذه سبيله وتلك طريقته وطريقة من يتبعه على بصيرة:
وهو لا يقدر على ترك تلك السبيل إلا كقدرتهم على إيقاد شعلة من الشمس.. وهم لن يقدروا على ذلك أبدا.. وهو أيضا لن يقدر إلا على الاستمرار.
لما رأى أبو طالب منه ذلك الإصرار ولمس تلك العزيمة ما كان منه إلا أن يرجع لقريش قائلا بحسم: ما كذب ابنُ أخي فارجِعوا.
هكذا كان هديه صلوات الله وسلامه عليه وكذلك كان هدي من سبقه ممن حملوا هم تلك الدعوة كذلك الصاحب المؤمن.
وهكذا ينبغي أن يكون حال من اتبع بإحسان:
وما أبعد صاحب الجنتين المجرم عن هذا المسلك.. لقد كان هذا الشخص مثالا عمليا لما يمكن أن يفعله الاغترار بالنعم.. إنها إحدى أخطر إشكاليات عدم فهم المعاملة الربانية بإغداق النعم.. أن يحدث الاغترار.. أن يقع الافتتان.
إنها فتنة السراء في أوضح صورها:
فانهمار النعم في الدنيا قد يورث في قلب غافل لا يفهم السنن الربانية، نوعا من الركون لوجود تلك النعم ويظن أن ذلك هو الأصل الدائم في معاملة الله له ثم يتطور الأمر بعد حين ليصير إلى أمن من مكر الله يتحول بعد ذلك إلى غرور وتزكية للنفس فيصبح وشعاره كشعار من قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
وبالطبع لا يتصور أبناء الله وأحباؤه أن يمسهم العذاب ولئن مسهم فمجرد أيام معدودات.. {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[آل عمران: 24].
هذا نفسه هو ما حدث مع صاحب الجنتين:
لقد غرته النعم المنهمرة وظن أن وجودها ثابت لا يتغير في الدنيا وسيمتد ثباته للآخرة إن كانت ثمة آخرة أصلا فجنة مثله في الدنيا فقط وبالتالي لا يرجون آخرة وإن رجوها فما رجاؤهم إلا أماني خاوية وتألٍ وقح يبدو صارخا في قوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].
إنه الاغترار في أفحش صوره: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24]
إن عدم إدراك حقيقة كون الإنعام = نوعا من الاختبار والابتلاء يورث هذا الركون والتزكية المبالغ فيها للنفس ويجعل المغتر يقطع باستحالة زوال تلك المعاملة ولا يتصور أبدا أنها قد تكون معاملة مؤقتة ستزول إن لم يرعها أهلها حق رعايتها وبالتالي يتعامل كأنه تلقى عهدا من الله بتلك النجاة الأبدية وما ذلك في حقيقته إلا محض تقول على الله بغير علم.. {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 80].
هذه هي ببساطة حقيقة الاغترار بالنعم وهذا نفسه ما اعترى قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
لكن هذا الاغترار بالنعم إنما يصيب من تغافلوا وتعاموا عن تلك الحقيقة التي طالما نُبه إليها من أصيبوا بتلك الآفة ووجهت أنظارهم لتأملها.
حقيقة إحتمالية تعرض النعم للزوال بل والاستبدال بالعذاب إن لم تقابل بالشكر والعمل الصالح.. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
لكن قلة من الناس من يشكر:
وصاحب الجنتين للأسف لم يكن من هذه القلة.