يظهره الرحمن ويخفيه الشيطان!!
محمد جلال القصاص
ويعلم الله من حال النفوس أنها لا تستقيم إلا رغبةً ورهبة.. إلا طلبًا لحبيب ودفعًا لبغيض، ولذا فصلت الشريعة من أول يوم عن الجنة والنار وقامت بتشريع الحدود والتزمت الجد في تطبيقها. ترسم حدًا من نار دون المحارم، وترفع الجنة عالية وتبرز الجحيم ودركاته، لينصرف الناس عن المحارم ويخرج الخير منهم.. تطفئ نيران الشر والفساد تلقائيًا، ويظهر ما في النفوس من خير تلقائيًا، وحين يبدأ الانحراف.. حين يصغي الناس لوساوس الشيطان يتلاشى تدريجيًا ذكر الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب، فيظهر الشر الكامن في النفس جرأة على المعصية أو تأولًا..
- التصنيفات: التوبة - الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة - الطريق إلى الله -
بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من أبرز المشاهد وأكثرها تكرارًا في رواية "في الجحيم" للكاتب الأمريكي الأشهر "دان براون" مشهد جهنم، أو الجحيم كما يسميه.
نقل عن الشاعر الإيطالي "دانتي" وصف جهنم بكثيرٍ من الأوصاف التي عندنا.. في كتاب ربنا القرآن الكريم، فيصف الجحيم بأنه دركات بعضها تحت بعض، وكل دركة من دركات الجحيم لنوعية معينة من الخاطئين، وأشد الخاطئين عندهم في أسفل الجحيم. تمامًا كالذي عندنا يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
وينقل "دان براون" عن شاعر الكوميديا الإلهية "دانتي" حديثًا عن جنة عالية، يصعد إليها الناس بعد أن يتطهروا من الخطايا، كالذي عندنا في كتاب ربنا {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} {الحاقة: 22}، فالجنة درجات لأعلى حتى تستظل بعرش الكريم المنان ربِنا الجميل، سبحانه وتعالى ذكره.
الملاحظة الأهم أن كل ذلك اختفى. فلم يعد اليهود ولا النصارى يتحدثون عن الجنة والنار إلا شيئًا مجملًا بلا تفاصيل، أصبح الحال عندهم كالحال عند مشركي العرب، جاءهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقد طمس ذكر الجنة والنار بينهم فلم يكن ذكر الآخرة إلا ظن يظنونه، ويتردد في أشعار وخطب قلة قليلة منهم، وكاد يختفي من تصور العامة وعامة الخاصة، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
ما القصة؟
تتلخص في جملتين:
أن وحي الله إلى أنبيائه يرتكز على النذارة والبشارة. إنذار من عصى رسله بالعذاب المهين وتبشير من أطاعهم بالنعيم المقيم. ولا تكاد تخلو آية عن ذكر العذاب بإحدى دلالات الخطاب المختلفة. حتى أن الأبرز في كتاب الله هو الحديث عن الجنة والنار. تعرض مشاهد حية كأن من يقرأ يشاهد بعينيه، وتدبر هذا المشهد: " {يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة:35)، كأنك تشاهد الذهب والفضة وهي تحمى في نار جهنم، وهما من أشد المعادن توصيلًا للحرارة، ويؤتى بمن قد كنز المال ولم ينفقه فيما أمر به ويشوى كالشاة على الذهب والفضة وهما في حالة انصهار يشتعلان.. تقلبه ملائكة العذاب على النار وتوبخه. كأنك تشاهد.
ويأتي ذكر الجنة والنار متجاورين، وتستنفر العقول للمقارنة والتفكير: { {أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]. فلا تكاد تقرأ شيئًا من كتاب الله إلا وتجد حديثًا عن العذاب والنعيم، ولا تكاد تستعرض قضية اهتم بها القرآن من قضايا الاعتقاد أو التشريع إلا ويعرضها بين دفتي العذاب والنعيم. وفوق ذلك يفرد القرآن الكريم للجنة والنار وحال الناس فيهما حديثًا خاصًا يطول أو يقصر، ولكنه يتكرر كثيرًا، حتى أن من يفتح المصحف ويدنوا من أي آياته لابد أنه سيقرأ عن النعيم وعن العذاب. فثمة إصرار واضح على توطين العذاب والنعيم في حس من يقرأ ولو آية من كتاب الله.
وفي المقابل فإن وحي الشيطان يخفي اليوم الآخر، أو يحاول أن يجعلها كلها دنيا، وإن جاء ذكر الآخرة فشيء مجمل لا يردع.. شيء يسكن الضمير حين يتقلب.. يهدده حتى ينصرف ثانية إلى دنياه.
وتتضح الفكرة أكثر من تدبر تشريع الحدود في الإسلام (حد السرقة، وحد القتل، وحد السحر، وحد الزنا. إلخ). كان العرب قبل الإسلام على أسوأ حال لا يأمن أحدهم على نفسه إلا أن يكون ذا شوكةٍ أو في الأشهر الحرم، كل شيء مباح، وحين جاء الإسلام وشرَّع الله الحدود ورأى الناس جدية في تطبيق الحد على من خالف أيًا كان نسبه أو حسبه، انصرفوا عن المحارم تلقائيًا. فلم يحتج الجادون إلى قطع أكثر من يد أو يدين في ثلاثمئة عام، ولم يقترف أحد الزنا إلا حالات فردية تعد عدًا.. انصرف الناس تلقائيًا عن المحارم، وعادوا إليها بعد أن ضعف تطبيق الحدود.
ويعلم الله من حال النفوس أنها لا تستقيم إلا رغبةً ورهبة.. إلا طلبًا لحبيب ودفعًا لبغيض، ولذا فصلت الشريعة من أول يوم عن الجنة والنار وقامت بتشريع الحدود والتزمت الجد في تطبيقها. ترسم حدًا من نار دون المحارم، وترفع الجنة عالية وتبرز الجحيم ودركاته، لينصرف الناس عن المحارم ويخرج الخير منهم.. تطفئ نيران الشر والفساد تلقائيًا، ويظهر ما في النفوس من خير تلقائيًا، وحين يبدأ الانحراف.. حين يصغي الناس لوساوس الشيطان يتلاشى تدريجيًا ذكر الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب، فيظهر الشر الكامن في النفس جرأة على المعصية أو تأولًا، وعشرات الآيات تربط بين كل انحراف وضعف الإيمان باليوم الآخر وما فيه، وعلى سبيل المثال: { {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [ الأنعام: 113]، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى} [ النجم: 27]. ولذا يظهره الرحمن ويخفيه الشيطان.
7 رمضان 1438.