إعادة تعبئة الرصيد القيمي من جديد

منذ 2017-06-10

وينظر في الانحرافات والتهديدات التي تواجهه بعين بصيرة، فيدرك أخطائه وتقصيره، فلا يستقر به الحال حتى يستدركها ويعدلها.

إن السائر في دروب الحياة المتشابكة بدون رصيد قيمي كالهائم في ليل دامس طويل بمكان مقفر وموحش بدون دليل يهتدي به؛ فقد تعترضه المخاطر من كل جانب، وقد يسير في طريق ذي عوج ولربما يحدث له ما هو أشد سوءاً من ذلك؛ فقد يهوي في حفرة من حفر هذه الحياة العميقة التي تفقده القدرة على الصعود منها لغرقها المكنون فيهلك قبل وصوله لقاعها، وعلى النقيض فإن حال الذي يتوفر على رصيد قيمي مشحون فتراه يسير في طرق واضحة يَقدِر من خلالها أن يلمح ويتابع بين الحين والآخر معالم سبله التي توصله إلى مبتغاه، وينظر في الانحرافات والتهديدات التي تواجهه بعين بصيرة، فيدرك أخطائه وتقصيره، فلا يستقر به الحال حتى يستدركها ويعدلها.

لهذا تعد القيم الإنسانية ركيزة أساسية في بناء المجتمع الصالح بكونها مجموعة من الأسس والمبادئ التي يستحسن الالتزام بها والسير بمقتضاها لأنها تمثل دعائم موجهة لسلوك الفرد ومعينة على الارتقاء به إلى مستوى أخلاقي عالي فتجعله بذلك محصناً من السلوكات المنحرفة التي تهدد الأمن الأخلاقي للمجتمعات.

لم يكن لرصيدنا القيمي أن يقرب على النفاذ هكذا عبثاً، فالبشرية تعرف انحرافاً أخلاقياً فضيعاً؛ بحث أننا نلاحظ انتشاراً واسعاً للانحلال والفساد مما يهدد بانهيار المجتمعات التي أصبح في حالة أخلاقية متردية بتصدع منظومة قيمها الإنسانية.

والسؤال المطروح هنا: لِم علينا أن نعيد تعبئة رصيدنا القيمي؟ أي ما هي أهم الدوافع التي تدعونا إلى شحن رصيدنا القيمي من جديد؟

إن الحفاظ على الرصيد القيمي يعني شحنه باستمرار في ظل الصورة الباهتة التي يعكسها عالمنا اليوم والذي يلح على ضرورة بروز القيم الإنسانية بشكل قوي باعتبارها أهم حلقة ينبغي استحضارها، فبدونها سيصعب فعلاً تصور حال الشعوب في العقود اللاحقة، خاصة أمام التراخي الأخلاقي الذي فتح المجال لإستعلاء الانحطاط واشتداده.

لست الآن بصدد عرض الكيفية التي تتم بها عملية الشحن القيمي، لأن هذه المرحلة تأتي بعد التي نقوم بها في الحين، أي أننا في فترة نحتاج فيها لتوصيف دقيق لمشكلة تدهور القيم الإنسانية، وذلك بالتعرف على حمولة النسق القيمي التي تعرف نوعا من الفوضوية بفعل قوى أثرت فيها نتيجة لتغيرات عميقة الغور تعرفها المنظومة القيمية، ولا يمكن لنا أن نفهم هذا الركود بدون أن نعيد تركيزنا في ملامح المجتمعات المعاصرة، فعَدادُ القيم الإنسانية يشير إلى أن رصيدها على وشك الانتهاء ويلزمه طلب رصيد إضافي لأنه غير كافٍ لمواصلة العيش بحس إنساني خالي من شوائب الانحراف ومظاهر الفساد؛ أي أن تصرفات الإنسان المعاصر أصبح فيها نوع من الجرأة والتجاوز لكل ما هو أخلاقي سامي بعدم إلقاء أي اعتبار يذكر للأخلاق الحسنة وكأنها لا تعني شيئا ويمكن الاستغناء عنها بسهولة، وقد تعرف ذلك من خلال بعض السلوكات الممارسة من قبيل استغلال الموقع أو الصفة للوصول إلى أغراض شخصية وأشياء غير مسموح امتلاكها أو بلوغها؛ أي أن هناك مانع للحصول عليها دون استغلال الخرق اللاأخلاقي الذي يعتبر المرء نفسه من خلاله أنه فوق الأخلاق فتصير تلك الالتزامات والمبادئ غير سارية عليه.

ومن أهم الدوافع التي أدت إلى حاجة رصيدنا القيمي للتعبئة من جديد:

- سقوط دور النخبة المثقفة وصعود دور الفنانة المشهورين؛ بحيث أصبحت جميع الأضواء موجهة صوبهم مقابل منعها عن الطائفة المثقفة التي فُقدت الثقة فيها لكثرة سكوتها والتي وإن نطقت لا يسمع لحديثها همساً؛ إذ لا يُحْدثُ صوتهم أي تغيير يذكر، في حين أن الطائفة الأخرى الفاقدة للحق والتي تدافع عن الباطل بشدة لتسخير أصحاب النفوذ والشوكة لهم فتجدهم أبواقاً في جل المنابر يصدعون بباطلهم المغلف في قالب لكي يظهر على أنه الحق الصحيح.

- النظرة المقزمة للذات الإنسانية باعتبارها كياناً مادياً صرفاً لا تتعدى أن تكون مجرد هيكل مجسم لها حاجياتها الغريزية وإغفال جانب جوهري في مكنونها والمتعلق بالخصوص في البعد القيمي الأخلاقي، أي أن تفكير الإنسان يصبح مقصوراً على تحصيل الملذات وتحصر أفعاله في نطاق ذلك فقط.

- كثرة التنفير من الآخر المخالف وما يترتب عنه من تحقير واستنقاص وهجران، فتقبل المخالف ليس منحة يمنحها الفرد لذاته، بل هي محصلة قيمية بفعلها يرتقي الإنسان نحو تقبل الآخر المخالف واحترامه بمخالطته تلقائياً وحسن تدبير الاختلاف الحاصل معه، وهذا التقبل لا يتحقق إلا بالتوفر على رصيد قيمي كافٍ للقيام بالعملية على أكمل وجه.

- غياب الاهتمام بالآخرين إلا لغرض مصلحي ذاتي يجعل المرء متقوقعاً حول براغماتيته ودوافعه الأنانية، فلا يمد يده لغيره ولا يلقي أي اهتمام للآخر سواء لآلامه أو لحاجاته، أي لا يسهم في شيء يفيد فيه الآخرين إن لم يكن له فيه مصلحة شخصية، بل قد يسحق الآخرين ويبتلع حقوقهم بكل شراسة بغية تحقيق رغباته الذاتية، ويترتب على ذلك انعزاله واضراره بمجتمعه وإن كان منتمياً إليه في الشكل لكن يبقى في الجوهر بعيد كل البعد عن أن يكون في صلبه أي أنه لا يعبر عن حقيقته بتصرفاته الخارجة عنه.

غير أن أخطر مظاهر الانقلاب على القيم الإنسانية التي يمكن اعتبارها مؤشراً قوياً على أن هذه الفترة الزمنية التي نعيشها تعرف هبوطاً قيمياً حداً، انطلاقا من بروز نوع من التمايز الكبير بين أفراد المجتمع الواحد، والذي أُحدث قهراً تحت شعار: "هناك النافع وغير النافع"، وهذا في نظري ما سيخلق لزاماً حالة تمرد مجتمعي عنيفة جداً إن لم تتم مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في ضوء ترسيخ مبدأ التكافؤ والمساواة، بضرورة مراعاة القيم الإنسانية الراسخة من خلال التعامل بنفس الطريقة مع جميع الأفراد الذين يحتضنهم المجتمع الواحد.

لا مناص من أن الركود القيمي يجعل المجتمعات على شفا الانهيار الإنساني، والحفاظ على القيم الإنسانية ضروري تماشياً مع ما أعتبره قاعدة: "ما لا تتحقق الإنسانية إلا به فهو لازم لا مفر منه ولا غنى عنه"، فبوجود هذه القيم يحيا المجتمع في جوي صحي وبزوالها يموت موتة شنيعة.

وانطلاقا من كل ما سبق نستطيع أن نشدد الآن على أن عملية الخروج من هذا الانحدار القيمي الحاصل لن تتم أبداً ما دامت المنفعة الشخصية والمصلحة الذاتية هي الغالبة على تصرفات الأفراد وتعاملاتهم، فصاحب الرصيد القيمي المشحون يغيب تلك الدوافع ويذوبها ليقوم بإحلال الدوافع الأخلاقية ذات البعد القيمي مكانها، وأستحضر هنا عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك الذي يعتقد بأنه من المستحيل أن يصل مجتمع من المجتمعات إلى مستقبل سليم دون احترام القيم الإنسانية وإحيائها، ولن يحصل ذلك من وجهة نظري إلا بتخليق مجتمع يحمل تركيبة قيمية سوية ومتوازنة تنير الطريق وتقوِّم الانحراف وتقود الفكر وتضبط السلوك وتوجه الفعل، وهذا يأتي نتيجة لتحقيق الرقابة القيمية التي تتجسد في الضمير -الأنا العليا- وتثقل وتنشط بما يواجه الشخص من مواقف وسلوكات منحرفة في العالم الخارجي (سواء الواقعي أو الافتراضي)، وبالشحن القيمي يتم ترسيخها وتثبيتها بإحكام.

 

أمين أمكاح

كاتب و باحث إسلامي: كاتب مهتم بالشأن التربوي، وبالمواضيع ذات الصلة بكل ما يتعلق بتطوير الذات والبنية الفكرية. باحث في القيم والتواصل؛ متخصص في دراسة سلوك المراهق.

  • 8
  • 0
  • 2,613

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً