ناصحٌ فهل يكون أمينا؟
فالاسلام عقيدة وأخلاق، وشريعة وحياة، وهؤلاء المصلحون لابد ألا ينسلخو عن هذا الإطار ولابد ألا تألف أعيننا هذه الازدواجية حتى وان أحسنا الظن بهم فالنصح والوعظ والإرشاد جزء أصيل من المفهوم الديني في الإسلام.
حال قطاع عريض من الشباب لو سألته للوهلة الأولى عن مجموعة من الأسماء اللامعة في فضاء الدعوة بعد الثورة أن يجيبوا:
"أصبحنا لا نثق في دعاة الفضائيات ومن نحا نحوهم لأنهم دعوا إلى ما لم يعملوا به أو على أقل تقدير أننا اعطيناهم في قلوبنا حجما ورأينا واقعهم أحجام أخرى أصغر فحدثت الصدمة"، وسواء هذه الصدمة كانت بسبب الدعاة أنفسهم أو بسبب الشباب وأن هذا تعميم لا يصح، وغيره من المسائل فهذه ليست المشكلة...
المشكلة الجديدة هي:
ظهور الشريحة الجديدة من دعاة الأخلاق والقيم والمصلحين ولو لم يكونوا يلتزمون بما يقولون من هدي ظاهر ولا علم محقق ولا حصيلة علمية من الأصل.
شاب على اليوتيوب صاحب قناة كذا، وفتاة على مواقع التواصل الاجتماعي متبرجة تماما ولا أتهمها أبدا بل على العكس فحديثها في المجمل متزن وصحيح، وخطابها ينم على شخصية قوية وعقلية وراجحه، وقد تكون مبادرتها وأمثالها غيرة على الإسلام وحبا لمجتمعها حينما وجدت أن واجب الوقت قد حان وأن من هم اهل لها اختفوا واعتزلوا .... نماذج من هذا القبيل لا مشاحة فيها ظاهريا.
لكن أخشى ما أخشاه من ذلك هي تلك النتائج الوخيمة على المدى الطويل حين يتحول العرض لظاهرة ينتج عنها عواقب لا يمكن السيطرة عليها ومنها:_
أولا: أن تألف القلوب هذه الظاهرة وهي اقتصار الدعوة على الوعظ ممن ليسوا أهلا لها، فالاسلام عقيدة وأخلاق، وشريعة وحياة،
وهؤلاء الوعاظ لابد ألا ينسلخو عن هذا الإطار ولابد ألا تألف أعيننا هذه الازدواجية حتى وان أحسنا الظن بهم فالنصح والوعظ والإرشاد جزء أصيل من المفهوم الديني في الإسلام.
ولابد أن يكون الاستقبال والإرسال فيه من خلال منافذ شرعية دينية حتى لا نتجه نحو علمنة الأخلاق أكثر مما نحن عليه.
وثانيا : أن هؤلاء المصلحين يصيبون ويخطئون وركيزة ذلك عندهم هي تجارب عقلية وثقافية بحتة لا تنضبط بضوابط الشرع عند الاختلاف بينهم وهذه طامة كامنة لن تظهر من مقطعين او عشرة مقاطع ينشرونها، ولكنها حتما ستظهر في وقت متأخر بعد تكوين جمهور عريض لديه خلفية مسبقة عما فعله وعاظ الفضاء.
الثالثة: إن لم نحسن الظن بهؤلاء الناصحين فقد يكون بعضهم يمارس التقية ويبدأ ببعض المواضيع الرائعة طرحا وتحليلا وإسقاطا على الواقع ... بما يوافق الشرع والعقل ثم نجد منه ما عانينا منه في السابق مع من هم ربما أفقه منهم ... ولربما يتجهون نحو شرعنة العقل فوق الدين، وعلمنة الشريعة باسقاط ما لا يحلو لهم منها... ولا أريد ان أقول أنني اشم الدخن ويصيبني السعال أحيانا ولا حيلة لي سوى المقال ...
فاستقطاب شرائح الشباب لم يعد بعد اليوم بأولوية علم الداعي وأمانته بقدر ما هو منوط بقدرة الناصح على الاقتراب من مشاكلهم ومواطن ورودهم ومناقشة قضاياهم...
ونتيجة النتائج والعياذ بالله هو ضياع هذا الدين على مستوى هذه الشريحة كلها وتآكله حتى يصير إلى ما صار إليه أهل الكتاب أخلاق بلا شرائع ومحبة بلا خشية وعبادة بلا علم وعمل بلا نية.
كل ما كتبته سابقا وزيادة هو واقعنا... وبعد أن انتهيت منه استنطقتني ذاكرتي بقول صاحب الكلام الجامع المانع صلى الله عليه وسلم فيما روي
عن عبد الله بن عمر بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.» [صحيح مسلم].
- التصنيف:
- المصدر: