من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (13)
سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).
"عشرون صابرون يغلبوا مئتين"
أعلن الليكودي المتطرف المشهور بكراهيته للمسلمين "موشيه فيجلين" أنّه سيقوم بجولة اقتحامية للمسجد الأقصى المبارك، وصرّح أنّ "هار_هبيت" كما يدعو المسجد الأقصى ويعني "جبل الهيكل" كما يزعمون سيكون جاهزاً لاستقباله ولن يكون فيه "كلاباً تنبح" مشيراً بمصطلحه الدالّ على أصله إلى المرابطين والمرابطات.
لم أنم ليلتها وأنا أفكر كيف بإمكاني دخول الأقصى في الصباح مع التشديدات الأمنيّة التي سيفرضونها لتهيئة جولةٍ آمنة لذاك المتطرف النجس!
ولكنّ الله ألقى في قلبي يقيناً أنني سأتمكن من عبور البوابة وسألج الأقصى رغماً عن أنوفهم.
اقتربتُ صباحاً من بوابة الأسباط وأدركتُ من نظرات الجنود إليّ أنهم لن يدخلونني، قبضتُ على جمرة اليقين المتقدة في قلبي وتابعتُ سيري لبوابةِ حطة.
كان الناس على مدخل البوابة ثائرون غاضبون لمنعهم من الدخول للأقصى والكل يصرخ مستنكراً محاولاً الدخول، حاولتُ الاقتراب فأشار إليّ أحدهم قائلاً: "إنتِ بالذات يا هنادي مستحيل تفوتي".
لم أُعره اهتماماً ومضيتُ صامةً أذنيّ عن كلماته الحازمة التي أدركتُ منها أنه قد تم إصدار الأوامر بعدم إدخالي للأقصى اليوم رغم أني لا أمتلك قراراً بالإبعاد هذه الفترة!
لقد آنستُ من جانب المحنةِ نور اليقين وإن بدت المحنةُ ناراً، ومضيتُ لعليّ أجدُ لدخول الأقصى هُدى.
ساقت أقدار الله قدميّ لباب السلسلة، ألقيتُ نظرةً فوجدتُ الجنود سمحوا فقط لطالبات المدرسة الشرعية ومعلماتها بالدخول، انزويتُ بينهنّ واجتزتُ الحاجز الأوّل دون أن ينتبهوا لدخولي.
وعند الحاجز الثاني انتبه أحدهم لي ومضى مسرعاً نحوي ليمنعني من الدخول، تداخلت الصور في مقلتيّ وأصابني هبوطٌ حادّ في ضغط الدم في تلك اللحظة وكدت أسقط، وكأنّ الله وهبني هذا الوهنِ ليسخرّ لي برّهم وفاجرهم، فحين رآني لا أقوى على الوقوف سمح لي بالدخول، ربما رقّ قلبه وربّما رآني لا أشكل خطراً وأنا بهذا الوهن.
ناولته هويتي وأخذتُ بطاقةً لأعيدها لهم حين خروجي مطبوعاً عليها رقم هويتي ليسهل عليهم استخراجها من بين كوم الهويات حين أخرج.
نظرتُ للأفقِ وأنا ألجُ الأقصى وكأني ولجتُ الجنة، بقلبٍ ممتن شاكر لله على تدبيره الذي أبطل مكرهم، وصليتُ ركعتين شكراً له على هذه المنحة.
نظرتُ في ساحة المسجد القبلي فلم أجد إلا عدداً قليلاً من النساء لا يتجاوز العشرين، مكثنَ من بعد صلاة الفجر أو دخلنَ بوقتٍ مبكرٍ جداً، ونظرت بالمقابل لعشرات المسلحين والمسلحات والمجندات المدربات الحاقدات ودمعت عينيّ.
لم أعتد هذه الصورة أبداً!
ولكنني استجمعتُ قوايَ وأنا استذكر قول الله تعالى: "كم من فئة قليلةٍ غلبت فئة كثيرة بإذن الله"
جلستُ مع النساء في حلقةٍ واحدة في ساحة المسجد القبلي حين دخل ذلك المتطرف "موشيه"، فقلتُ للنساء: تكبيرةٌ واحدة، بقلبِ رجلٍ واحد، وصدحت حناجرنا بتكبيرةٍ بلغت الأفق واهتزّ لها الأقصى فرحاً، لتندفع باتجاهنا المجنّدات ككلابٍ مسعورة تهدد المكبِّرات بالضرب والاعتقال!
تسللّ الخوف إلى القلوب وسارت بعض الأخوات يكبرنَ على استحياء وبصوت لا يكاد يُسمَع، نظر إلينا ذلك الحاقد فوجدَنا محاطاتٍ بكلابه المدرّبة فمضى متابعاً جولته وانسحبت المجنّدات.
فكرتُ في طريقةٍ أخرى، فجمعتُ النساء وبدأت بسؤالهنّ: من أنهَت المستوى الأول؟ وحين يرفعن أيديهنّ أهتف:الله أكبر ولله الحمد وتتعالى أصواتهنّ بالتكبير من خلفي، وأعاود السؤال ثانيةً من أنهت المستوى الثاني؟ من أنهت المستوى بتقديرٍ جيّد؟ وتتعالى أصواتنا بالتكبير بعد كلّ سؤال!
في تلك الأثناء، لم أنتبه لجنديّ حاقدٍ مأمور يراقبنا من بعد برفقةِ كاميرته اللعينة ويصوّرنا لأسياده، ولو كنّا قد انتبهنا فلن نهتم له.
ثمّ قلت للأخوات: لن ندع ذلك اللعين يهنأ بجولته، لن يبلغ مبتغاه وفينا عِرقٌ ينبض، سنري الله من أنفسنا خيراً ونجلسُ في حلقةٍ عند باب السلسلة حيث محطته الأخيرة وخروجه من المسجد، ومضيتُ لبوابة السلسلة وذلك الجندي يلاحقني بكاميرته دون أن أشعر!
التفتُّ حين وصلت فلم أجد معي إلا خمسة نساءٍ من أصلِ عشرين، لكننا جلسنا نتلو القرآن بصوتٍ مرتفع منتظرين وصوله، وتعالت حناجرنا بالتكبير حين وصل، كنّا خمسةً فقط، لكنّ حناجرنا باركها الله فكأنما هتفت خمسئمة حنجرة.
ليصرّح ذلك اللعين للفضائيات أن الوضع في "هارهبيت" لا زال مقلقاً، ولا زالت هناك "كلابٌ تنبح" لم تنجح التشديدات كلها بقمعها وإسكات صوتها!
وغادر منزعجاً خائباً خاسراً، وبقينا منتصرين.
حين قررتُ المغادرة اتجهتُ لباب السلسلةِ وبمجرّد وصولي رأيتُ المجنّدات يتجهزنَ وكأنما بلغنَ صيداً ثميناً، لم أهتم، اتجهت لاستلام هويتي لأفاجأ بالضابط يقول لي: أنت موقوفة!
حوصرتُ من كلّ جانب وتم اقتيادي لمركز بوابة السلسلة لتبدأ هناك سلسلةٌ جديدة من المضايقات ومنحىً جديداً في سياسة الاحتلال لقمعنا.
يتبع...