من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (24)
سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).
الثمن:
الأقصى سلعةٌ غالية، ولاستردادها من أيدي الصهاينة المرتزقة لا بدّ أن ندفع الثمن، لعلّه من مالنا، أو من وقتنا، أو راحة بالنا، أو حتى من أرواحنا، ولعلّه لن يعود إلا بشلّالٍ من الدماء الطاهرة التي تسيل في سبيل أن تظلّ كلمة الله هي العليا!
وأنا أدفعُ من هذا الثمن ولا أبالي، فها أنا أعودُ من احتجازٍ مذلّ دام ستة أيامٍ بلياليها، وأنا أصطحب بجعبتي قراراً بالحبس المنزلي، وممنوعٌ عليّ أن أخطو ولو خطوةً على أرض بلادي بأمرٍ من محتلٍّ يعيث فيها الفساد!
ما كدتُ ألتقط أنفاسي بين أبنائي وعائلتي، وأهنأ بقليل من النوم بعد أن حرمت راحة البال وبدأ الانهاك يسرق من أعصابي وينسج الضيق على صدري حتى طُلبتُ للتحقيق مرةً أخرى وزوجي في صباح اليوم التالي.
خرجتُ من التحقيق الذي هددوني فيه من مغادرة منزلي والإتيان بأي حركةٍ ممنوعة بعد ساعات من التحقيق، وأنا أصطحب بيدي ورقة منعٍ من السفر بحجة أني أهدّد أمن الدولة الاسرائيلية المزعومة في أساطيرهم!
يا لهذه الدولة الهشة التي تجنّد ثلثي شعبها في صفوف جيشٍ مقهورٍ ادعت أنه لا يقهر، وتخشى من سفرٍ أعزل لامرأة، خوفاً على أمنها وحفاظاً على هذا الشعب الذي يميل حيث مالت الريح.
لم يكن قرار منع السفر الوحيد، تسلّمت قبله عدة قرارات تراوحت مدتها بين الشهر والستة أشهرٍ ولا زالوا يخشون على أمن دولتهم، فقطعوا عني وعن أبنائي التأمين الوطني، ومنعونا من أي خدمةٍ علاجية ومن التأمين الصحي، وأبعدوني عن الأقصى كرهاً لا طوعاً، وعن البلدة القديمة أيضاً سبق أن أبعدوني.
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ولكن هيهات، فهل يُضَر وهج الشمس من هواء فم أحدهم؟ فكيف بالنور رب النور لا إله سواه، ولو منعوا عني حتى الهواء، فلي رحمة الله تتغشاني في كلّ خطوةٍ أخطوها هي يقيني وزادي ودوائي، لن يملكو أن يمنعوها عني. وسأستمرّ بدفع الثمن ولا أبالي.
وما هي إلا أيامٌ حتى عادوا لمضايقتي بعد أن انتهوا من فحص المقتنيات التي صادروها من منزلي بعد أن اقتحموه وأعاثوا فيه الفساد باحتجازي الأخير، كنتُ يومها في بيتي أجهز نفسي لأكون ضمن لجنة امتحان في أحد مسابقات القرآن في المساجد، وإذ بي أسمعُ على مدخل البيت ضجيجاً وصراخاً وأصوات أقدامٍ تعلو السُلّم باتجاه منزلي.
أدركتُ أنهم متجهون لاعتقالي، فوثبتُ للباب أغلقته بإحكام ومضيتُ بكلّ هدوءٍ لغرفتي، أجهز نفسي للاعتقال وأردتي ثياباً إضافيّة لأتمكن من تبديلها لو طال اعتقالي كما في المرة السابقة، وحين أردت وضع الشال تذكرت أنهم يصادرون الدبابيس كلها فارتديت شالاً قطنياً احتياطياً لا يحتاج لدبابيس أسفل شالي.
كل هذا وهم ينادونني ويعوون من الغضب، ويضربون الباب بعنفٍ حتى كادوا يكسروه ويصرخون مهددين أن يفجروا باب البيت لو لم أخرج لهم حالاً.
تدخل الجيران في محاولةٍ لانقاذ الباب الذي كاد أن يكسر في أيديهم وأخبروهم أنني قد أكون خرجت لإحدى المساجد، فانسحبوا متجهين لمحل زوجي.
بدقائق معدودةٍ كانوا يدخلون عليه المحل ويهددوه بتكسيره وتدميره إن لم يحضرني للمسكوبية حالاً، فاتصل زوجي يوصيني بتجهيز نفسي لأذهب للتحقيق.
انتظرتُ حتى عاد أبنائي من مدارسهم، فتناولت طعامي معهم، أخذتهم بحضني أودعهم وأوصيهم بأنفسهم ودراستهم وقرآنهم وأقصاهم، وأذكرهم أنني أدفع الثمن بفخرٍ ولن نبالي،ومضيتُ للمسكوبية لأواجه قدري المحتوم.
يتبع...