بيد الله
محمد جلال القصاص
من أول يومٍ علم النبي-صلى الله عليه وسلم- أن قومه سيكذبون، وسيقعدون بكل طريقٍ يوعدون ويصدون عن سبيل الله، وأنهم سيضطروه ومن آمن معه إلى الخروج من أوطانهم مهاجرين يبحثون عمن ينصرهم.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
من أول يومٍ علم النبي-صلى الله عليه وسلم- أن قومه سيكذبون، وسيقعدون بكل طريقٍ يوعدون ويصدون عن سبيل الله، وأنهم سيضطروه ومن آمن معه إلى الخروج من أوطانهم مهاجرين يبحثون عمن ينصرهم.
وجاء في صحيح البخاري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى في منامه دار هجرته، وأنها ذات نخل بين حرتين. وظنَّ-صلى الله عليه وسلم- أنها اليمامة، ربما لكثرة أهلها وانطباق الصفة عليها، وراح –صلى الله عليه وسلم- يتحرك في كل اتجاه بحثًا عن دار هجرة .. يبحث عن من يأويه مبلغًا وينصره، ولم يستجب له إلا عدد قليل من الرجال (ستة أو سبعة)، ومن أهل يثرب (المدينة)!!
ولو جمَّعت كل خبراء الاستراتيجية والتخطيط لأجمعوا على أن يثرب لا تصلح، فالعرب فيها مختلفون إلى حد القتال، وقتال من عشرات السنين، ما يعني أن العداوة متجذرة بينهم؛ واليهود بينهم (قيناع والنضير) وحولهم (قريظة، وخيبر، ووداي القرى، وفدك)، وأكثر منهم عددًا وأحسن عدَّةً، وبعد ذلك كله يحملون شبهات عقدية، ويضمرون عداوة للرسول-صلى الله عليه وسلم- وقومه. وحالهم أنهم يسعون في الفساد حيث (ويسعون في الأرض فسادًا).
ثم ماذا؟
جاء النصر من حيث لا يحتسبون. من أهل يثرب هؤلاء .. أنعم الله بهم وأنعم عليهم. وأولي العدد والعتاد في اليمامة كذبوا وحروبوا ورواحوا بأسوأ ذكر في التاريخ.
ويوم الهجرة جدَّ النبي-صلى الله عليه وسلم- واجتهد وبذل ما استطاع من الأسباب، من الخروج ليلًا في ساعة السحر، وترك عليًا في فراشة يضللهم وللأمانات يردها، واتخاذ الصاحب، والاتجاه جنوبًا عكس الجهة التي يريدها، وتكليف من يعفو بالأغنام أثر قدميه الشريفتين، .. ثم ماذا؟
وصل المشركون إلى حيث هو وصاحبه-صلى الله عليه وسلم-، ولم ينالوا منه شيئًا. بل لم يبصروه وهو بين أيديهم. حين نفذت أسبابه جاءه النصر من عند ربه.
وكان فتح مكة ورطة اقتصادية وعسكرية؛ فقد كان منع العرب (المشركين) من القدوم لمكة يعني وقفَ التجارة التي كان يعيش عليها أهل مكة، وكان يعني إعلانَ الحرب على مَن بأقطارها من العرب والعجم، فقد كان البعيد يرى أنها حربًا داخلية بين الرسول-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، أو ينتظر ماذا سيسفر عنه الصدام بين الدعوة في مهدها وقريش ومن حولها من القبائل؛ ثم ماذا؟
فتحت مكة وأغنى الله عباده من غير بضاعة المشركين، وواجه المسلمون الدنيا كلَّها ولم تمض أعوامٌ قليلة حتى صارت بنات كسرى أمهات لبعض علماء المسلمين، وتنعم الناس بعدل الإسلام ونور التوحيد. أتاهم من الخير ما لم يكونوا يحتسبون.
من كل مكانٍ تصل إلى حقيقة شديدة الوضوح والبهاء هي أن علينا أن نأخذ بما نستطيع من أسباب ثم يأتي الله بالنصر من حيث لا نحتسب، والمعنى الكامن في مجيء النصر من حيث لا نحتسب أن الله هو الفاعل على الحقيقة وأننا فقط أسباب وأننا فيها للعمل وليس لإدراك النصر، وأن النصر يأتي منة وهبة من الله تعالى ومن حيث لا نحتسب، قال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} ، وقال تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}، وقال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}.
وتدعم هذه الحقيقة بعديد من الآيات الكريمات التي ترسخ في الأذهان أن الفضل بيد الله .. أن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء..أن الله يصيب برحمته من يشاء، قال الله: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} ، {يختص برحمته من يشاء} ، {نصيب برحمتنا من نشاء} {بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.
فعلى الجادين الانصراف في بذل ما يستطيعون من أسباب طالبين الأجر الله مستيقنين أن الخير بيد الله البر الرحيم الشكور الكريم المنان ينزله متى يشاء.
ونختم بما ختم الله به سورة هود بعد ذكر حال المكذبين وقد أهلكهم الله ونجى عباده المؤمنين، يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.