من روائع القصص المؤثرة
العاقلُ يَعتَبرُ بكلِ كبيرةٍ وصغيرةٍ تصادفُ حياته، فيتخذها درساً يتزودُ منهُ للمستقبلِ، ويعودُ إليهِ كُلما احتاجَ إليهِ، فتكونَ لهُ وقايةً وسداً منيعاً من مخاطرِ وعقباتِ الحياةِ.
هكذا الحياة فاعتبرْ!
قالوا في الأثر: السعيدُ من اعتبرَ بغيرهِ والشقيُ من اعتبرَ بنفسهِ.
فالعاقلُ يَعتَبرُ بكلِ كبيرةٍ وصغيرةٍ تصادفُ حياته، فيتخذها درساً يتزودُ منهُ للمستقبلِ، ويعودُ إليهِ كُلما احتاجَ إليهِ، فتكونَ لهُ وقايةً وسداً منيعاً من مخاطرِ وعقباتِ الحياةِ.
وبين يديكم الآن قصةٌ قصيرةٌ فيها مواعظ سديدة، وعبرُ مفيدةُ، جديرة لتكون دروساً حكيمةً في رحلة الحياة.
رَكِبَ الرجلُ سيارتِهِ الحديثةِ الفارهةِ، مع عائلتِهِ في نزهةٍ بيومٍ جميلٍ، مصطحباً أنواعاً من طيباتِ الأطعمةِ والملذاتِ والعصائرِ والمكسّراتِ، وباشروا رحلتَهم بالغناءِ والطربِ والأهازيجِ، وفي الطريقِ أوقفَهُ رجلٌ جميلُ الهيئةِ، فقالَ لهُ الرجل صاحب السيارة: خير... ماذا تريد؟ فردَ عليه قائلاً: هل مُمكِن أنْ تَصْطَحِبَنِي معك؟ قال: ومنْ أنتَ؟ قالَ: أنا المالُ الذي تَـنعمُ بقربهِ وتُسَرُ وتفرحُ وتَغْنَى برفقتهِ، قالَ الرجلُ بفرح عارم: أهلاً وسهلاً بك.. أنا انتظرُكَ منذُ زمنٍ، تفضلْ رافقني رحلتي، فركِبَ معه وأجلسه بجواره، فزادتْ ملذاتُهُ من طعامٍ وشرابٍ ولباسٍ وتجاراتٍ وتحفٍ وحسابات مصرفيةٍ وسيارات متعددةٍ، في حين خَفَّ كلامُهُ مع أهلِه، وتَفرغُهُ لصلاتِهِ، واهتمامِهِ بعبادتِهِ وواجباتِهِ، وذلك لكثرةِ مشاغلِهِ الماليةِ، ثم مضت السيارة في سيرها.
وفي الطريقِ أوقَفَتهُ امرأةٌ حسناء جميلة المظهرِ، فقالَ لها السائقُ: نعم.. من أنتِ يا صاحبةَ الوجهِ الحسنِ؟ فقالَت: أنا الدنيا، جِئتُ لأوسّعَ عليكَ منْ متاعِهَا ومسراتِهَا وزخرفِتِها، فهل لي أنْ أصطحبَكَ في مشواركَ؟ فأجابها الرجلُ ببشاشة وشوق: أهلاً وسهلاً ومرحباً بكِ، لطَالَمَا بحثتُ عنكِ طويلاً، اجلسي معي وبقربي، فأخذتْ تقتربُ منه تلك الفاتنةُ حتى دخلتْ قلبَه واستولتْ عليه.. فتوسَعَتْ معارفُهُ وعَظُمَ جَاهُهُ، وتعرّفَ على الكثيرِ من الشخصياتِ المهمةِ والمشهورة، فأصبحَ ذا شأنٍ رفيعٍ في المجتمعِ، بينما قَلَّ اهتمامَهُ بديْنِهِ وأهلِهِ وآخرتِهِ كثيراً. ثم مضتْ هذه السيارةُ بطريقِها...
وبعد فترة أوقَفَهُ شخصٌ ثالثٌ، فقالَ: خير ومنْ حضرَتُكَ؟ قال: أنا الدِيْنُ.. فهل يُمكِنني مرافقتك في سعيكَ؟ فردَ الرجلُ بسرعةٍ وبابتسامةٍ مصطنعةٍ: واللهِ لا يوجدُ معي مكانٌ لكَ (وأهلُهُ يَغمِزُونَه ويَلمِزُونَه من الخلفِ ويقولونَ لهُ: لا تَأخذهُ ولا تحملهُ معكَ، يُعَكِرُ علينا نُزهتَنَا وصفوَنَا فهذا حرامٌ وهذا حلالٌ..ووو)، فقالَ له الدِينُ: إنّمَا جئتُ لأنظّمَ جميعَ أمورِك، وأضبطَ من معك من (المال والدنيا والأولاد والزوجة) دونَ أنْ تخسرَ شيئاً، فقالَ الرجلُ: لا لا لا أشكرك على نصحك. الآن لا أريدُ، بعدَ فترةٍ أحمِلُكَ معي، أنا على عُجالةٍ الآن، إلى اللقاء.... وتركَ السائقُ ذاكَ الرجلَ واقفاً في الطريقِ دونَ أن يَحملهُ معهُ بسيارتِهِ الواسعة، ولم يستمعْ لكلامِهِ، واستمرَ في لَهْوِهِ وعَبَثِهِ ولَعِبِهِ وبُعدِهِ عن ربِهِ وفرائضِه والتفاته إلى رفيقَيهِ السابقَين.
وفي الطريقِ وعند منعطفٍ حادٍ ومنحدرٍ صعبٍ أوقَفَهُ شخص رابع، فوقفَ بسرعةٍ مفاجئةٍ وقال له: منْ أنتَ؟ ماذا تريدُ أيضاً؟ لماذا تقفُ هكذا متوسطاً الشارع وتعترضني؟ فقالَ: انزلْ من السيارةِ لِوَحْدِكَ، أريدُكَ أنتَ فقط... فنزلَ منَ السيارةِ وقال لهُ: نعم منْ أنتَ؟ ماذا تريدُ؟ فرد الرجل قائلاً بقسوة وقوة وشدة: تفضلْ معي أنتَ مطلوبٌ.. قالَ الرجلُ متلعثماً مضطرباً: مَطْ مَطْ مَطْ مطلوب لماذا؟ لمْ افعل شيئاً.. ومنْ حضرتُكَ؟
قال: أنا الموتُ.. فإذا بالرجلِ يَرتجفُ ويَرتعدُ ويُخطَفُ لونُهُ، فقالَ: إلى أينَ تأخذني الآن فأنا في رحلةٍ ممتعةٍ مع عائلتي؟! دعني أكملها أرجوك..... فقال له: تعالَ معي فوراً دونَ تأخرٍ لقد جاء دورُكَ... فقال الرجلُ بصوتٍ يشبهُ صوتَ الطفلِ الذي يختنقُ ببكائه: انتظرْ لأخبرَ أهلي أرجوك، فقالَ له: دعهمْ لن ينفعُوكَ بشيءٍ الآن، فقال السائقُ: إذاً دعني أعودُ إلى الخلفِ لأصطحبَ ذلك الرجلَ (الدين) الذي أوقَفَنِي ونصحَنِي فتركتُهُ، فهو يخبرني ويساعدني في هذا الموقف وما الذي عليَّ فعله، قال: لا لا لا لن تستطيعَ الرجوعَ أبداً، فالطريقُ اتجاهُهُ واحدٌ، فإذا بالسيارةِ تتحركُ بالزوجةِ والأولادِ دونه، ويكملونَ طريقَهم ويتركُونَهُ واقفاً مع الرجلِ، مستسلماً له، مُقاداً بين يديه، فيناديهم ولكن لا جدوى... يُلوحون له بأيديهم يودعونه مبتسمين فيقول في نفسِهِ: يا حسرتا خسرت كلَ شيءٍ وخَسِرتُ ذاكَ الرجلَ الناصحَ (الدينَ) الذي أوقفني في رحلتي فنصحني ولكن لم أكترث به، وتفرغتُ لصحبةٍ مزيفةٍ ماكرةٍ "الدنيا والمال والزوجة والأولاد" فأَغْوَوُني وخدعوُني، فأما أهلي فقد تركُوني وحيداً ونَسَوني وتابعوا سيرَهم، وأما مالي ومتاعي فقد تقاسموه بينهم.. آه آه آه ماذا أفعل؟ من رفيقي الآن؟
فرد الموت لا تخفْ! فعندكَ رفيق وفيٌ لن يتركَكَ أبداً.. إنه عملك وما قدمت في رحلتك تلك.. فإذا بوجهه يَكْفَهِرُّ ويَكْلَحُ ويَعْبِسُ لسوءِ ما قدّم، وتعاسةِ ما زرع، فما ذاك الرفيق الأخير إلا عمله السيئ، وطريقه الخاطئ، واختياره الفاشل.
وهكذا هي رحلةُ الحياةِ بتمامها، يَمرُّ بها كلُ واحدٍ منَّا مسافراً فيها، فيصطحبُ معه ما يريد، ويتركُ ما يريد، وفي الآخرِ سيفعلُ ويطيعُ ما يريدُهُ اللهُ لهُ وهو الموت دونَ عصيان أو تردد أو تلكؤ..
قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] .
وقال أيضاً: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].
وقال: {قل إنْ كانَ آباؤُكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتُمُوهَا وتجارةٌ تخشَونَ كسادَهَا ومساكنُ تَرضَونَهَا أحبَّ إليكُم من اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فتربَصُوا حتى يأتيَ اللهُ بأمرِهِ واللهُ لا يهدِي القومَ الفاسقينَ} [التوبة: 24].
أرجو المولى عز وجل أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه "فالسعيد من يعتبر بغيره والشقي من يعتبر بنفسه". والله تعالى ولي الأمر والتوفيق.
ملاحظة: هذه القصة سمعتها منذ زمن طويل من شيوخنا الأفاضل ولكن لم تكن بهذه الصياغة فقد حبكتها وهذبتها وأجريت عليها تعديلات أرجو أن أوفق في إيصالها بثوب لائق لذي الألباب والنهى.
والحمد لله رب العالمين
الكاتب: فراس رياض السقال
- التصنيف: