نعم المصلى (10) معجزة الإسراء والمعراج روابط ووشائج

منذ 2017-09-25

المسجد الأقصى المبارك له نكهة تراثية وأصالة تاريخية، رسخها وأكدها عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، عندما ربط البراق بالحلقة التي كان الأنبياء السابقون يربطون دوابهم التي يركبونها عند قدومهم المسجد الأقصى للصلاة فيه، إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى.

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.

الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.

س9/ ماذا تعرف عن معجزة الإسراء والمعراج؟

رحلة الإسراء والمعراج من أعظم المعجزات وأجل الآيات، التي تفضل بها سبحانه على نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ولأهميتها ومكانتها ذكرها الله سبحانه في موضعين من القرآن:

الأول: قوله سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.[1]

الثاني: في مطلع سورة النجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى....} الآيات .

رحلة الإسراء ليست مجرد تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، على فقد خير معين له ومدافع عنه أمام قريش عمه أبا طالب، ووفاة زوجه خديجة رضي الله عنها التي كانت خير مناصر ووزير له؛ بل هي رحلة تربية وتثبيت وتهذيب لنا جميعا لما فيها من دروس ومواعظ وعبر.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ»، قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ»، قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ».

وفي رواية للبخاري: قال جبريل: «الحمدُ للهِ الذي هداكَ للفطرَةِ، ولو أخذتَ الخمرَ غوَتْ أُمَّتُكَ».

فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتِيَارَ اللَّبَنِ لِمَا أَرَادَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ تَوْفِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاللُّطْفِ بِهَا فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.[2]

وهنا إشارة مهمة ووقفة لابد منها؛ أن اللطف والتوفيق والعزة والرفعة لا تتحقق لهذه الأمة، طالما المسجد الأقصى بعيدا عنها وأسيرا بيد الأعداء قتلة الأنبياء، فالتوفيق كل التوفيق والخير والسعادة لهذه الأمة في استعادة مقدساتها والحفاظ عليها!

المسجد الأقصى المبارك له نكهة تراثية وأصالة تاريخية، رسخها وأكدها عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، عندما ربط البراق بالحلقة التي كان الأنبياء السابقون يربطون دوابهم التي يركبونها عند قدومهم المسجد الأقصى للصلاة فيه، إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى.

على الرغم من أن المسجد الأقصى في تلك الفترة، كان تحت الحكم البيزنطي، ولم يكن مسجدا قائما متكاملا، إلا أن أساسات المسجد وبعض الأعمدة والأطلال باقية، بدلالة الحلقة التي ربط بها البراق، لذلك سماه الله مسجدا وسيبقى كذلك مهما عدت عليه العوادي وتعرض للمتغيرات!

ليلة الإسراء هي أسعد ليلة في حياته عليه الصلاة والسلام، وهي ليلة مقدسية بامتياز، والصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت في السماء السابعة بدون واسطة، ليصلي عليه الصلاة والسلام إماما بجميع الأنبياء في المسجد الأقصى في تلك الليلة، في اجتماع تاريخي لم يحدث عبر التاريخ إلا في تلك الليلة وفي ذلك المكان المقدس.

تلك الرحلة العجيبة بتدبير ورعاية ربانية جمعت بين عظائم الأمور في وسط الزمان؛ إذ جاء جبريل عليه السلام أعظم الملائكة وأجل مُرافق وصاحب له في سفره، ومعه البراق أعظمُ دابة وأجلّ وسيلة نقل عرفتها البشرية، وحُمل النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الخلق، من مكة أعظم الأماكن والبقاع، إلى المسجد الأقصى المبارك، في وقت قصير من الليل.

إمامة النبي عليه الصلاة والسلام بإخوانه الأنبياء في هذه الليلة ببيت المقدس؛ دلالة واضحة وإيذان صريح بأن دين الأنبياء واحد وارتباطهم جميعا بتلك البقعة ارتباط عقدي ديني إيماني مستمر، كما فيه إشارة بتسلم الأمة الراية والقيادة والإمامة، الأمر الذي يعني ضمنا أن هذه الأمة وحدها المؤهلة لوراثة أرض النبوات ومهد الرسالات.

تلك المعجزة الفريدة جاءت بالعديد من الروابط والأواصر والتوثيقات فربطت بين مدينتين مقدستين وبقعتين مباركتين (مكة وبيت المقدس )، كما ربطت بين قبلتين (الكعبة والمسجد الأقصى )، وربطت بين الأرض والسماء، وربطت بين الأنبياء باجتماعهم فيها، وربطت بين زمانين باختصار وقت الانتقال، وجمعت بين مهابط الوحي (مكة وبيت المقدس)، ومن ألطف الروابط ربط البراق بحلقة باب المسجد الأقصى دون الحاجة إلى ربطه لأنه مؤتمر بأمر النبي عليه الصلاة والسلام وجبريل عليه السلام، ولكن فيه إشارة وتوكيد لهذا المعنى الجميل والوشائج القوية لما ذُكر.

الله سبحانه وتعالى قادر على معراج النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى السماء وعودته مرة أخرى، لكن من حِكم تلك الرحلة هو توكيد وتثبيت أهمية بيت المقدس ومكانتها وارتباطها المباشر بالمسجد الحرام، والعناية الربانية لها.

حادثة الإسراء والمعراج إعداد للنبي عليه الصلاة والسلام لمرحلة جديدة ومهمة، في الانطلاق والدعوة والمجابهة وتكوين الدولة ونشر الدين، إذ كانت قبل الهجرة بسنة أو سنة وخمسة أشهر على الصحيح، ورؤية آيات الله الكبرى تمهيدا لهذه المرحلة، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [3]، شبيهة بمرحلة تهيئة موسى في مجابهة فرعون ورؤيته آيات ربه الكبرى، {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[4].

إن ابتداء معجزة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ فيه إيحاء للمسلمين بتذكر مهابط الوحي في مكة وبيت المقدس، وأنها كلها مهابط الرسالات، وأن الرسل جميعا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بناة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم عليه الصلاة والسلام صاحب الإسراء والمعراج.

إذن فلابد أن يخفق عليها دائما علم التوحيد والإيمان على النحو الذي جاء في رسالته، ولابد أن تطهر رقعتها من بذور الشرك والوثنية والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحق وعدالة السماء.[5]

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 2
  • 0
  • 23,014

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً