مراجعة كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية)

منذ 2017-09-29

معلوم أن الشريعة الإسلامية متعلقة بجميع ما يتصل بأفعال العباد الظاهرة والباطنة وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، لكن قد يُغير أيضًا لفظُ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسمٌ لحُكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فَرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعةٌ لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا.

كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) للعلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى [1]

1- غاية الكتاب:

لم تزل قضيةُ تلبيةِ الاحتياجات الفقهية للمسلمين غايةً من غايات النشاط العلمي الذي مارسه العلماء عبر العصور، تصنيفًا، وتدريسًا، وإفتاء، وقضاء، وصارت القدرة على تحقيق تلك الغاية معيارًا يُرجَّح فيه مذهب على مذهب، ومنهج على منهج. وإلى هذا يشير شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجيحه طريقة من أسماهم أهل النصوص على طريقة أهل الرأي فقال: (النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرِفه من يتحرّى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها، وهذا يعرفه من يتأمَّل، كمن يُفتي في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل، وأنا قد جرَّبت ذلك.

ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائمًا أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأي المُحدَث، فإن الذي رأيناه دائمًا أنَّ أهل رأي الكوفة من أقلِّ الناس علمًا بالفتيا وأقلِّهم منفعة للمسلمين، مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان، وكثرة ما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك، ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة، قلَّ أن يجيبوا فيها، وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف، وأما كونهم يجيبون بحُجَّة فهم من أبعد الناس عن ذلك )[2].

فهنا يجعل الشيخ رحمه الله المقدرة على نفع المسلمين بتلبية حاجتهم في الإفتاء سببًا لتفوّق منهج فقهي على آخر.

ومع حلول حقبة الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، وحصول الصدمة الحضارية والثقافية التي زلزت العالم الإسلامي، وجد العلماءُ أنفسهم أمام حاجةٍ جديدة للمسلمين مضافةٍ إلى ما تقدم، وهي متصلة بأصل شريعة الإسلام، وهي الحاجة إلى الحفاظ على اعتقاد المسلمين بصلاحية شريعتهم لعصرهم هذا ولكل العصور، بإزاء موجة الانبهار بالثقافات المناقضة لشريعة الإسلام، وبإزاء ما حصل للمسلمين من تراجع حضاري، برز سؤال: ما الذي يمكن أن تقدمه شريعة الإسلام للخروج من هذه الأزمة؟[3]

وقد عاش الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في هذا العصر، وكتابُه الذي بين أيدينا (مقاصد الشريعة الإسلامية) يظهر أنه صنّفه لتلبية هاتين الحاجتين:

أما الأول: فقد صرح به في مقدمة كتابه إذ قال بعد أن بيّن أنه يريد جعل كتابه نبراسًا ومرجعًا للمتفقهين لدى حصول الخلاف: (إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل). (ص3).

وأما الثاني: فنستطيع أن نلمسه من نفَس ابن عاشور في تأليفه هذا، فقناعته بضرورة إبراز المنهج الذي رسمه في تأليفه جعلته يقول: (طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وأنه إن لم يتبع هذا المسلكَ الواضح والمحجةَ البيضاءَ فقد عطَّل الإسلام عن أن يكون دينًا عامًا وباقيًا) (ص98). فإشكالية تعطيل الإسلام عن عمومه إشكالية يروم الشيخ معالجتها في ما رسمه، وقد عنون الشيخ لهذا المقصد بعنوان خاصّ في كتابه سماه (عموم شريعة الإسلام)، وذهب فيه إلى تفسير صلاحية شريعة الإسلام لكل زمان بمعنى (أن تكون أحكامها كلياتٍ ومعاني مشتملةً على حِكَم ومصالح، صالحةً لأن تتفرع منها أحكام مختلفةُ الصور متحدةُ المقاصد) (ص105).

وفي كتاب (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) الذي صنفه الشيخ قبل هذا، وجعل هذا الكتابَ مُعاضدًا له، ومُقاربًا له في الغاية العامة؛ يقول: (غرضي أن أبحث عن روح الإسلام وحقيقته من جهة مقدار تأثيرها في تأسيس المدنية الصالحة، ومقدار ما ينتزع المسلمُ بها من مُرشِدات يهتدي بها إلى مناهج الخير والسعادة..)[4].

2- موضوع الكتاب وموضعه بين مؤلفات الشيخ:

ففي سبيل تحقيق تينك الغايتين، رأى الشيخ إملاء مجموعة من المباحث عنون لها بعنوان (مقاصد الشريعة الإسلامية)، وهي مباحث دونها وألقاها على طلابه في جامع الزيتونة.

معلوم أن الشريعة الإسلامية متعلقة بجميع ما يتصل بأفعال العباد الظاهرة والباطنة وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، لكن قد يُغير أيضًا لفظُ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسمٌ لحُكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فَرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعةٌ لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا.

والشريعة إنما هي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلفُ الأُمَّة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات)[5].

أما الشيخ ابن عاشور فإنه يحصر مفهوم (الشريعة) في المعاملات والآداب، ولذلك فهو في مباحثه هذه التي أملاها إنما يبحث في مقاصد الشريعة في هذه الأبواب حصرًا، أما مقاصد الشريعة في العبادات والتي يسميها (الديانة) فقد صنف في النظر في أسرارها قبل هذا الكتاب كتابًا سماه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام).

ولذا نجد الشيخ في القسم الثالث من الكتاب يبحث في مقاصد أبواب المعاملات بابًا بابًا، فيعقد بحثًا لمقاصد أحكام العائلة، وبحثًا لمقاصد التصرفات المالية، وبحثًا لمقاصد المعاملات المنقعدة على عمل الأبدان، وبحثًا لمقاصد أحكام التبرعات، وبحثًا لمقاصد أحكام القضاء والشهادة، وبحثًا لمقاصد العقوبات.

ومما يشار إليه أن الشيخ لدى بحثه في مقاصد الشريعة في القضاء والشهادة صدّر ذلك بالحديث عن قصد الشريعة لنصب الولاة الذين يقيمونها، لكنّه لم يفصل في هذا البحث الاستدلال لوجوب نصبهم، لأنه (من علائق أصول الدين والسياسة الشرعية)، وقد أحال في هذا المطلوب إلى كتابه (نقد علمي) الذي رد فيه على الكتاب الذي اشتهر في ذلك الوقت في الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة وهو كتاب (الإسلام وأصول الحكم).

3- موضع الكتاب بين المصنفات التُّراثيَّة في موضوعه:

إن الغاية التي من أجلها صُنِّف هذا الكتاب وهي تلبية حاجات المسلمين الفقهية تنوَّعت طُرُق الوصول إليها على أرض الواقع عبر عصور الإسلام، إلا أننا نعلم أن علم أصول الفقه في غايته ومباحثه كان علمًا أساسيًّا في تحقيق تلك الغاية.

يفتتح الشيخ كتابه بما يشير به إلى الحاجة إلى علم مُتمِّم لعلم أصول الفقه لتحقيق تلك الغاية، وهو علم مقاصد الشريعة.

ويذكر الشيخ من علماء المسلمين من يراه أن قد جاشت نفوسهم بمحاولة التدوين في هذا العلم، وهم الإمامان العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، والإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (الفروق). ثم يذكر إفراد الإمام أبي إسحاق الشاطبي لبحث موضوع المقاصد في كتاب (الموافقات) ويصفه بأنه (الرجل الفذّ الذي أفرد هذا الفنّ بالتدوين). (ص7).

وفي ضمن كتابه؛ يشير الشيخ أحيانًا إلى ما يراه قصورًا من المتقدمين في بحث بعض المسائل، مثل بحث التفريق بين ما هو من الأحكام من باب الوسائل، وما هو من باب المقاصد، فيقول: (وهو مبحث مُهمٌّ لم يفِ المتقدّمون بما يستحقه من التفصيل والتدقيق، واقتصروا منه على ما يرادف المسألة الملقبة بسدّ الذرائع). (ص161). ويقول بعد إيراد كلام للقرافي والعز: (فغرضنا نحن أوسع، والفقيه إليه أحوج) (ص162).

وللعلماء مصنفات في محاسن الشريعة راموا فيها إلى البحث في أسرارها ومقاصدها، سواء في أبواب العبادات أو المعاملات، كتصنيف الإمام القفال الشاشي (محاسن الشريعة) وما ذكره الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة)، وقد أحسن ابن عاشور عندما قال: (وربما يجد المطّلع على كتب الفقه العالية مَن ذكر في مقاصد الشريعة كثيرًا من مهمّات القواعد).

ومما ينبغي أن يوضح هنا في إيضاح صلة الشيخ رحمه الله تعالى بالتراث: هو أن الشيخ ذو اطلاع وتمكن من علوم شتى، من الفقه المالكي، والتفسير، واللغة، وغيرها، وأنه مُجلّ لعلماء الإسلام، معظم لكلام وتصانيفهم، فلا يصح بحال أن يُعدّ تصنيفه انقطاعًا عنهم، أو قطيعةً مع تراثهم، وما يظن أنه دليل على ذلك؛ وهو قول الشيخ بعدم وفاء علم الأصول بالمقصود، ومناقشته للقول بقطعية أصول الفقه في مقدمة الكتاب= لا يصح دليلًا لوجهين:

الأول: أنه يعود فينقل كلامهم في مبحث تقسيم المقاصد إلى قطعية وظنية ويقول: (وإنما قصدت منه التنور بأضواء أفهامهم) (ص44)، أي أنه مع مخالفته للقول بقطعية أصول الفقه، يستفيد من كلام العلماء في ذلك المبحث في ما رامه من تقسيم المصالح إلى قطعية وظنية.

الثاني: أنه في بحثه يصدر من التراث نفسه ويرجع إليه، ويرى أن الوفاء ببعض المطلوب يوجد في كتب الفقه وإن لم يوجد في كتب الأصول: (وربما يجد المطّلع على كتب الفقه العالية مَن ذكر في مقاصد الشريعة كثيرًا من مهمّات القواعد، ولا يجد فيها شيئاً من علم الأصول). (ص4). ونجده في كتابه كثير الرجوع للمدونات الفقهية، سيما مدونات الفقه المالكي.

غير أن الشيخ على أية حال يرى ضرورة التتميم والبناء على ما شيده المتقدمون، وهذا منهج عام للشيخ في تصانيفه أوضحه بقوله في مقدمة تفسيره: (ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما أشاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهنالِك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمَدَ إلى ما شاده الأقدمون فنهذِّبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالمًا بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل)[6].

وعلى هذا؛ فإن التعامل الحداثي مع باب المقاصد يتغافل عن مثل هذا، كما يقع التغافل منهم على ما هو أجلى منه، أعني ما يدعونه من قطيعة الإمام الشاطبي مع التراث الفقهي[7].

4- عرض إجمالي لمباحث الكتاب وطريقة الشيخ ابن عاشور فيه:

لما كان تصنيف الشيخ كتابًا أملاه على طلبة الزيتونة، فإن طريقته فيه كانت طريقة مدرسية، حيث شحن الكتاب بما هو من شأن الكتب المدرسية من التقعيد، والتقسيم، والتمثيل.

قسَّم الشيخ ابن عاشور كتابه إلى ثلاثة أقسام: القسمان الأولان بثَّ فيهما الكثير من القواعد والتقريرات المتعلقة بموضوع الكتاب.

ففي القسم الأول: قرر أولًا مجيء الشريعة بمقاصد، وأكد ذلك بتطبيقات ستة اختراها من عهد السلف تثبت رجوعهم للمقاصد.

وقرَّرَ حاجة الفقيه إلى علم المقاصد، وهذا المطلب مُتَّسق مع غاية الكتاب المتقدّمة، وقرر فيه تخصصية هذا العلم، وعدم حاجة العوام له، يقول في ذلك: (وليس كل مُكلَّف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم، فحقّ العامي أن يتلقّى الشريعة بدون معرفة المقصد، لأنه لا يُحسن ضبطه ولا تنزيلَه، ثم يتوسع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يُلقَّنون من المقاصد في غير مواضعه، فيعودَ بعكس المراد). (ص18).

ثم عقد مطلبًا بين فيه طرق إثبات المقاصد الشرعية، وهو مطلب متسق مع الرغبة في الإضافة التي رامها الشيخ، إذ أتى فيه بما فيه بزيادة بحث على ما ذكره الشاطبي في هذا المطلب.

ثم عقد مطلبًا في بيان أن (أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية) وهو بحث في أهمية السياقات التي تحف كلام الشارع في إصابة فهمه.

ثم عقد مطلبًا في التفريق بين أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله، وذكر أن القرافي أول من اهتدى إلى هذا التمييز والتعيين في كتابه الفروق[8]، إلا أن الشيخ زاد تقسيمًا من عنده، فقسم تلك الأحوال إلى اثني عشر حالًا، ومثّل لها، ولم يخرج الشيخ في بحثه هذا عما قرره العلماء في هذه المسألة، وهو أنه (يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرًا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلافِ ذلك) (ص41).

ثم عقد مطلبًا في تقسيم المقاصد إلى قطعية وظنية.

ثم عقد مطلبًا بين فيه انقسام الأحكام إلى تعبدية وتعللية ومواقف الفقهاء في توسعة دائرة أحد القسمين أو تضييقها، مع الإشارة إلى خطورة نفي الحكمة والتعليل الذي سلكه أهل الظاهر، قال: (على أن أهل الظاهر يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يُروَ فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان. وهو موقف خطير يُخشى على المُتردّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحَها لجميع العصور والأقطار) (ص49).

أما القسم الثاني فقد عنون له بمقاصد التشريع العامة، وعنى بها (المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصّ ملاحظتُها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة) (ص55). وحدد الصفة الضابطة للمصلحة الشرعية أن تكون ثابتة، ظاهرة، منضبطة، مطردة، وبين مقصوده بكل من ذلك.

ثم عقد مطلبًا في تقرير ابتناء مقاصد الشريعة على الفطرة، وأعجب فيه بكلام لابن سينا الفيلسوف في شرح الفطرة، وهو يكرره في كتبه، إذ ذكره أيضًا في (التحرير والتنوير) وفي (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)[9]. ومعلوم أن هذا البحث يبنى في تقريرات أئمة أهل السنة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، كما قرره العلامة ابن القيّم بقوله: (كلُّ من تكلَّم في علل الشَّرع ومحاسنِه وما تضمَّنَهُ من المصالح ودرءِ المفاسد فلا يمكنُهُ ذلك إلا بتقريرِ الحُسنِ والقُبح العقلييَّن، إذ لَو كان حُسنُه وقبحُه بمُجرَّدِ الأمرِ والنهي لم يُتعرض في إثبات ذلك لغيرِ الأمرِ والنَّهي فقَط، وعلى تصحيحِ ذلك؛ فالكلامُ في القياس وتعليقُ الأحكامِ بالأوصافِ المناسبة المقتضيةِ لها دونَ الأوصافِ الطرديَّةِ التي لا مُناسبَةَ فيها، فيجعلُ الأوَّلَ ضابطاً للحُكم دونَ الثاني؛ لا يمكنُ إلا على إثباتِ هذا الأصلِ، فلو تساوتِ الأوصافُ في نفسها لانسدَّ بابُ القياسِ والمناسبات والتعليلِ بالحكَمِ والمصالِح ومراعاة الأوصافِ المؤثِّرَةِ دون الأوصافِ التي لا تأثيرَ لَها) [10].

ولا يخفى أن مبحث الفطرة له ارتباط بمبحث التحسين والتقبيح.

ثم عقد مطلبًا قرر فيه أن السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها ودلل لهذا بأدلة من الكتاب والسنة، وبين أن سماحتها نابعة من كون الإسلام دين الفطرة، إذ اليسر من الفطرة، وبين أن أثر تلك السماحة هو انتشار الشريعة وطول دوامها.

ثم عقد مطلبًا قرر فيه المقصد العام من التشريع ولأهمية هذا المبحث في فهم نظرية الشيخ ابن عاشور في المقاصد، سيأتي عرضه وتحليله مفردًا.

ثم عقد مطلبًا بين فيه معنى المصلحة والمفسدة، وبين فيه انقسام المصلحة إلى عامة وخاصة، وحدد الضوابط التي يحكم فيه على الوصف بأنه مصلحة بخمسة ضوابط، وهو بحث مما صرح بأنه جديد على ما كتبه المتقدمون، إذ يقول عن القرافي والعزّ: (وقد حام ذانك الإمامان حول تحقيق الضابط الذي به نعتبر الوصف مصلحة أو مفسدة، لكنهما لم يقعا عليه وقد حام ذانك الإمامان حول تحقيق الضابط الذي به نعتبر الوصف مصلحة أو مفسدة، لكنهما لم يقعا عليه، وأنا أقول تبعاً لذلك: إن ضابط تحقُّق ذلك الحد أحدُ خمسةِ أمور...) (ص74).

ثم ذكر مطلبًا في انقسام المصالح إلى ظاهرة وخفية، قال: (أحدهما: ما يكون فيه حظٌّ ظاهر للناس في الجبلة يقتضي ميل نفوسهم إلى تحصيله، لأن في تحصيله ملاءمةً لهم. والثاني: ما ليس فيه حظٌّ ظاهر لهم) (ص81). قال: (فالقسم الأول: ليس من شأن الشارع أن يتعرض له بالطلب، لأن داعي الجِبلة يكفي الشريعة مؤونة توجيه اهتمامها لتحصيله[11].. والقسم الثاني: يتعرّض له التشريع بالتأكيد، ويرتّب العقوبة على تركه والاعتداءِ عليه). (ص81-82).

وقرر الشيخ هنا قاعدة وهي أن عارض الاستخفاف متى ما عرض للعباد أو لبعضهم في نظرهم للمصلحة الشرعية - وقد يعرض لبعضهم في القسم الأول الظاهر - فإن الشريعة تنتهج أساليب في استحثاث العباد على طلب تلك المصلحة، من الزجر أو من الترغيب.

ثم عقد الشيخ مطلبًا نقل فيه تقسيم الإمام الشاطبي المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية [12]، ونقل تقسيم الغزالي - ومن تبعه - الضروريَّ إلى حفظ الدين والنفوس والعقول والأموال والأنساب، وهي التي تسمى الكليات الخمس، وزاد القرافي: حفظ الأعراض.

ومع أن الشيخ أبدى ملاحظات على ما قرره من تقدمه من العلماء في هذ الصدد، مثل شرحه المقصود بحفظ النسل الذي يرى أن العلماء لم يبينوه، ورأى أن عده في الضروريات غير واضح، وقال في مقصد حفظ العرض إن عده في الضروري ليس بصحيح، والصواب أنه من قبيل الحاجي. (ص90-91). إلا أنه بين أن غرضه من بيان هذا التفصيل (أن نعرف كثيراً من صور المصالح المختلفة الأنواع المعروف قصدُ الشريعة إياها، حتى يحصل لنا من تلك المعرفة يقين بصور كلية من أنواع هاته المصالح، فمتى حلَّت الحوادث التي لم يسبق حلولها في زمن الشارع، ولا لها نظائر ذات أحكام متلقاة منه، عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصور الكلية، فنثبت لها من الأحكام أمثال ما ثبت لكلياتها، ونطمئن بأننا في ذلك مثبتون أحكامًا شرعية إسلامية). (ص93). وهذا الغرض متسق ما مضت الإشارة إليه في الغاية من تصنيف الشيخ للكتاب. ومن هنا فإن كثرة التشقيق والتفريع فيما يتعلق بالحاجي والضروري والتحسيني لم يكن من وكد الشيخ ولا من هدفه.

ثم أشار الشيخ إلى بحث أصولي وهو حجية المصالح المرسلة، وتعجب من تردد إمام الحرمين في الاحتجاج بها[13]، وبين أن العمل بالمصالح هو مستند إجماعات انعقدت في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، كإجماعهم على جمع المصحف.

ثم قسم الشيخ المصالح باعتبار آخر إلى كلية وجزئية، وهو نفس التقسيم الذي ذكره للمصلحة إلى خاصة وعامة مع زيادة شرح. ثم قسمها إلى قطعية وظنية ووهمية باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها، أو دفع الفساد أن يحيق بها.

ثم عقد الشيخ مطالب أشبه بالقواعد وشروحها، فذكر قاعدة في عموم شريعة الإسلام، وقاعدة في المساواة، وقاعدة في أن الشريعة ليست بنكاية، وقاعدة في أن مقصد التشريع تغيير وتقرير، وقاعدة في أن نوط الأحكام الشرعية بالمعاني والأوصاف لا بالأسماء والأشكال، وقاعدة في أن أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية، وقاعدة في الحيل، وقاعدة في سد الذرائع، وكلا هاتين القاعدتين مبحوثتان في علم الأصول، وقاعدة في أن التشريع منوط بالضبط والتحديد، وقاعدة في وجوب نفوذ الشريعة، بمسلك الحزم أو بمسلك التيسير، وقاعدة في الرخصة، ثم رجع إلى قاعدة متصلة بنفوذ الشريعة وهي مراتب الوازع الذي يزع النفوس عن التهاون بحدودها، وقسمها إلى جبلية ودينية وسلطانية، وقاعدة في الحرية فرعها على قاعدة المساواة، وبحث الحرية كان الشيخ قد تكلم فيه في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، وقاعدة في أن الشريعة تجتنب التفريع في مقصد التشريع، وعنى بذلك أن تفريع الشريعة أكثره في أحكام العبادات، أما المعاملات فنجدها مسوقة غالبة في القرآن بصفة كلية، ثم ذكر قاعدة أن مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال، وقاعدة في وجوب الاجتهاد.

فهذا مجموع القواعد التي ذكرها الشيخ ورأى اندراجها في المقاصد العامة للتشريع.

ونجد الشيخ في نهاية هذا القسم من كتابه، الذي أنهاه بقاعدة وجوب الاجتهاد، يقدم اقتراحًا متسقًا مع غاية تأليف الكتاب التي تقدمت الإشارة إليها، وهي تلبية احتياجات المسلمين الفقهية، وهو تفعيل ما يسمى بالاجتهاد الجماعي، فقال: (وإن أقلّ ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي هو أن يسعَوا إلى جمع مجمع علمي يَحْضُرُهُ من أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاقٍ فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعلموا أقطار الإِسلام بمقرراتهم؛ فلا أحسب أحدًا ينصرف عن اتباعهم، ويعيّنوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد أو قاربوا.

وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعَهم علمًا وأصدَقهم نظرًا في فهم الشريعة، فيشهدوا لهم بالتأهّل للاجتهاد في الشريعة، ويتعيّن أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاة، ولا تتطرّق إليهم الريبة في النصح للأمة). (ص157-158).

أما القسم الثالث من الكتاب، وهو القسم الأخير، فموضوعه مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس، وعرفها بأنها (الكيفيات المقصود للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو حفظ مصالحهم العامّة في تصرفاتهم الخاصة) (ص163).

وقبل أن يصير الشيخ إلى تفصيلها، افتتح القسم بالتفريق بين الوسائل والمقاصد، وهو تفريق في أصله مذكور في كتب الأصول، ثم ذكر تقسيمًا بديعًا جديدًا لأنواع الحقوق، فقسمها إلى تسع مراتب، بعد أن ذكر قاعدة مُهمَّة وهي أن (تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس وأثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض) (ص167).

وما ذكره الشيخ في هذا الفصل من مقاصد أبواب المعاملات المتنوعة ظهرت فيه ملكة الشيخ المقاصدية، وهو في نظري أجل أقسام الكتاب، وأكثرها ثراء، وأولاها بالدراسة.

على أن تفاصيل ترجيحات الشيخ الفقهية في هذا الكتاب، سيما في هذا الفصل، جديرة بالدراسة، سيما أنها تمتحن اقتدار المنهج الذي رسمه في الوفاء بمقصوده، إذ إنه قصد أن يجعله وسيلة لترجيح أقوال الفقهاء بعضها على بعض، ومن ذلك جعله قول من قال من الفقهاء بانعقاد التبرع ولزومه بمجرد القول = قولًا مرجوحًا، لما يترتب عليه من تعطيل للمصلحة، قال: (وأما الذين قالوا بانعقاد التبرع ولزومه بمجرد القول، وفيهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود الظاهري، وينسب إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد عاملوه معاملةَ بقية العقود، وأغضَوْا عما في ذلك من المعروف الذي لا ينبغي أن يكون مضيَّقاً فيه على أهله خشيةَ إجفال الناس عنه، فإن في ذلك تعطيلَ مصالح جمة). (ص215).

5- التفسير الاجتماعي للشريعة ومقاصدها عند ابن عاشور:

ثمة أمران أساسيان أبداهما ابن عاشور في هذا التصنيف:

الأول: أن هذا الكتاب لبحث مقاصد الشريعة في باب المعاملات، وأنه يقصر مفهوم الشريعة على هذا الباب، أما باب العبادات فقد صنف له كتاب (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام). وقد تقدمت الإشارة لهذا.

قال: (وإذا لم يكن غرضنا في هذا الكتاب الكلام عن الإصلاح العام في الإسلام فلنلْوِ عنان القلم عن الخوض في صلاح الاعتقاد وفي صلاح الأنفس وفي صلاح عمل العبادات، ولنثن ذلك العنان إلى خصوص البحث في صلاح أحوال المسلمين في نظام المعاملات المدنية، وهي ما يعبر عنه بجلب المصلحة ودرء المفسدة). (ص71).

الثاني: أنه قرر المقصد العام للتشريع، (وهو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان) (ص69)، وقال: (ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوّه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما قد يتوهم، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية) (ص69-70).

وهذه النظرة نجدها في ما كتبه الشيخ رشيد رضا في مقالاته في (الحياة الزوجية)، وإن كان خاصًّا بموضوع الزواج، وقد كان الشيخ رشيد رضا معاصرًا لابن عاشور، وقد أرسل له ابن عاشور رسالة يعزيه فيها بوفاة والده سنة 1905م يخاطبه فيها بـ( الأستاذ النحرير العلامة سيدي محمد رشيد رضا).

والإشكالية في هذا النوع من النظر الذي قدمه ابن عاشور: أنه يغفل النظر في المصالح القلبية المقصودة شرعًا في أبواب المعاملات، وهي الأعمال القلبية التي يتكلم عنها أئمة السلوك، ويحصر النظر في المقاصد الاجتماعية.

ومع أن ابن عاشور تحدث في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) عن المحبة والخوف بوصفهما وازعًا نفسانيًا عندما تكلم عن الإصلاح الفردي، إلا أن الغلبة في نظراته في أسرار الشريعة وحكمها كان مرتبطًا بتفسي اجتماعيّ لشريعة الإسلام.

وقد نبه علماء الإسلام إلى ضرورة اعتبار المصالح القلبية لدى البحث في مقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة كما قال تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)، وقال تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم).

فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن. وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم؛ فإنهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة وما ضموا إليه مما ظنوه من الشريعة وهم في غاية ما ينتهون إليه دون اليهود والنصارى بكثير.

وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية: جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم؛ وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدين له والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود. وصلة الأرحام؛ وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه حفظا للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق. ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح. فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل؛ والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال يشبه هذا) [14].

6- تأثير الكتاب:

يعد كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) من أهم الكتب المعاصرة في بابه وذلك من جهة الشهرة، ومن جهة الأولية.

وُصِفَ الشيخ من جهة بعض الباحثين المعاصرين في مقاصد الشريعة بأنه (يعتبر بحقّ المجدد الثاني لعلم المقاصد بعد الشاطبي)[15]. وقيل في كتابه: (الكتاب مليء بالفوائد والمباحث المُبتكرة، وليس هو تلخيصًا للموافقات كما قد يظن بل له منهج متميز في عرض مسائل المقاصد)[16].

صدرت بعض الرسائل الجامعية حول جهود الشيخ في المقاصد، منها رسالة بعنوان (نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور) لإسماعيل الحسني[17]، وكتبت بحوث أيضًا في ذلك في عرض أو نقد ما قدمه الشيخ في باب المقاصد[18]، كما اشتملت بعض الرسائل الجامعية على انتقادات لبعض كلام الشيخ في المقاصد[19].


[1] الطبعة المعتمدة في العزو: طبعة دار سحنون بتونس ودار السلام بالقاهرة.

[2] (الاستقامة) (1 / 12).

[3] لا نزعم هنا أن هذه الحاجة خاصة بهذا العصر، وإنما المقصود التمهيد للظرف الذي صنف فيه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتابه هذا.

[4] (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) (ص20).

[5] (مجموع الفتاوى) (19 / 308).

[6] (التحرير والتنوير) (1/7).

[7] انظر ما كتبه الشيخ عبد الله العجيري في (ينبوع الغواية الفكرية) (ص373-396) في تأصيل الشاطبي للمحافظة الفقهية ردًا على التعامل الحداثي مع الشاطبي.

[8] يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: " من مَلَك التصرُّفَ القوليَّ بأسباب مختلفة، ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كل واحد من تلك الأسباب؛ فإنه يحمل على أغلبها. فمن هذا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفُتيا والحكم والإمامة العُظمى، فإنه إمام الأئمة، فإذا صدر منه تصرُّف حمل على أغلب تصرُّفاته وهو الفُتيا ما لم يدل دليل على خلافه " (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: " تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ترددت بين التشريع، والحكم الذي يتصرف به ولاة الأمور: هل يحمل على التشريع أو على الثاني؟ والأغلب: حمله على التشريع " «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد (2/307).

[9] (التحرير والتنوير) (21/90-91)، و(أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) (ص37).

[10] (مفتاح دار السعادة) (2/408).

[11] في (الأشباه والنظائر) للعلامة السبكي (1/398): (قاعدة: داعية الطبع تجزئ عن تكليف الشرع، وبعضهم يقول: الوازع الطبيعي مغن عن الإيجاب الشرعي، وعبر الشيخ الإمام رحمه الله عن القاعدة في كتاب النكاح بأن الإنسان يحال على طبعه ما لم يقم مانع).

[12] أصل هذا التقسيم موجود في كلام إمام الحرمين في البرهان.

[13] لإمام الحرمين في كتابه (مغيث الخلق) الذي كتبه لترجيح مذهب الإمام الشافعي على مذهبَيِ الإمامين مالك وأبي حنيفة؛ رحمهم الله تعالى، فيه حط شديد على مذهب الإمام مالك في المصالح المرسلة حتى قال عن مالك (ص78): (وجَوَّزَ سياسات وإيالات تضاهي أفعال الاكاسرة والقياصرة والجبابرة!! ).

وللشهاب القرافي في شرحه على محصول الرازي مناقشة لمن زعم أن المصالح المرسلة خاصة بمذهب مالك، وذكر في ضمن ذلك أن إمام الحرمين ضمَّن كتابه الغياثي (أمورًا من المصالح المرسلة التي لم نجد لها في الشرع أصلاً يشهد بخصوصها، بل بجنسها، وهذا هو المصلحة المرسلة). نفائس الأصول (9/4096). وضرب أمثلة على ذلك منها ما يتعلق بما يُصَار إليه عند تعذر توفر بعض شروط الإمامة في أحد، مثل تعذر شرط القرشية أو الاجتهاد أو العدالة، أو ما يصار إليه عند وجود قرشي غير كاف، وقرشي كاف، ثم قال: (ثم فرع في (الغياثي) على هذا الباب أشياء كثيرة جدًا، لم توجد للمالكية، ولو سئلوا عنها ما جسروا على كثير منها).

وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في محاضرته التي ألقاها في المصالح المرسلة دفاع عن بعض ما عاب به إمام الحرمين مذهب مالك في المصالح المرسلة، ومن ذلك ما نُسِب إليه من أنه يجيز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين، قال (ص10): (اعلم أولا أن بعض العلماء شَنَّع على مالك بن أنس رحمه الله في الأخذ بالمصالح المرسلة تشنيعًا شديدًا، كأبي المعالي الجويني..... أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيء من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البناني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمناً طويلاً وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة).

[14] (مجموع الفتاوى) (32/233-234).

[15] (تأصيل فقه الأولويات: دراسة مقاصدية تحليلية) د.محمد همام سعيد (ص64).

[16] (مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية) د.محمد سعد اليوبي (ص71).

[17] هي رسالة من كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالمغرب نشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1416هـ

[18] منها بحوث قدمت لمؤتمر (الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وقضايا الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر) الذي عقده المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

[19] انظر مثلا نقد تفسير الشيخ للفظ (العاجل) في تعريف المقاصد التي تراعيها الشريعة في كتاب (مقاصد الشريعة عند ابن تيمية) للدكتور يوسف البدوي.

وهناك محاضرة نقدية للكتاب من تقديم جلال الجهاني فيها تحامل على الشيخ ومحاولة تقديم رؤية أشعرية في باب المقاصد.

 

  • 8
  • 1
  • 31,455

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً