دراسة مستقبل العمل الدعوي
هانـي بن عبد الله الجبير
قد جاء الشرع بالتأكيد على الحاجة للتعرف على الاحتمالات المستقبلية والاعتبار بالسنن الكونية، ومن أمثلة هذا الاعتبار: ما وقع في أول البعثة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجع لخديجة بعدما جاءه المَلَك يرجف فؤاده وأخبرها خبر ما حصل له فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَحِم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
- التصنيفات: التصنيف العام - الدعوة إلى الله - الدعاة ووسائل الدعوة -
لا نكاد في هذا العصر أن نختلف في وجود التطور السريع والتغير الواضح المتتابع في كثير من المعالم والقناعات فضلاً عن الصناعات والتقنيات، وهذا دعا كثيراً من المهتمين إلى تأكيد المبادرة إلى العناية بدراسة المستقبل دراسة مستفيضة، وهو الجانب الذي أغفلته - أو غفلت عنه - الأمة، مع اهتمام العالم به من حولها واستثماره له منذ وقت طويل جداً[1].
والدراسات المستقبلية دراسات تهدف للتعرف على الاحتمالات المستقبلية وشروط تحققها والمرجح منها والمحبب.
وقد جاء الشرع بالتأكيد على الحاجة للتعرف على الاحتمالات المستقبلية والاعتبار بالسنن الكونية، ومن أمثلة هذا الاعتبار: ما وقع في أول البعثة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجع لخديجة بعدما جاءه المَلَك يرجف فؤاده وأخبرها خبر ما حصل له فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَحِم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي[2].
فورقة قد استدل بالسنن الكونية التي لا تتبدل على إيذاء المبلغ لدين الله والناصح للناس.
ومثله ما ورد في قصة الغلام الذي انتدبه ملك ممن كان قبلنا ليعلمه الساحر السحر وكان على طريقه إذا سلك راهب، فلما قعد للراهب وسمع منه أعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك سَتُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ[3].
وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما استشرف الحاجة للعلم، أن أهل العلم سيفنون، وسيحتاج الناس لأبناء جيله، فبذل جهده في تحصيل العلم استعداداً لذلك الزمن.
يقول رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجلٍ من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟ قال: فتركت ذلك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني[4].
وهذا يفيدنا بتحديد الموقف المطلوب لمواجهة القدر المحتوم باختيار أحد الممكنات، فإن للواقع الواحد مستقبلات محتملة، ومثال هذا قصة يوسف عليه السلام، فإن رؤيا الملك للبقرات السمان والسنبلات الخضر أولها بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة[5].
مع أهمية دراسة المستقبل - وهو ما سبق أن تناولته في بحث مستقل[6]، إلا إن دراسة المستقبل اختصت بها في دوائر البحث ومعاهده دراسة أوضاع المجتمعات مالياً وسياسياً وعسكرياً في الغالب، وكان نصيب الجوانب الأخرى أقل عناية واهتماماً.
ومن هذه الجوانب التي لم تول اهتماماً - مع اختصاصها بالمسلمين - مستقبل العمل الدعوى، والشأن الديني والذائقة الدعوية، ومستقبل الفقه أو الأحكام الشرعية للمسائل التي يتوقع حصولها[7].
والواقع الدعوي يشهد البطء الشديد في الاستجابة للمتغيرات وربما يفوّت خيراً كثيراً لعدم المبادرة.
فإننا نلاحظ دون إشكال تغيراً في نطاق الاهتمامات الحياتية لدى الناس، وما يعنيهم معرفته والإلمام به، كما أن درجة ومستوى الوعي الشرعي تفاوتت واختلفت، زيادة على ما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة من زيادة الاطلاع على اختلاف المتقين وتعدد الاجتهادات وتفرع الآراء مع صدورها من جهات دينية محترمة.
أضف لذلك أن المستوى الإيماني تفاوت في الناس، وتغير مستوى التعلق بالله تعالى كما أن الذائقة الدعوية والأسلوب التخاطبي فيه اختلف، وهذا ما نشاهده من ارتياح المدعوين لمتحدث وانصرافهم عن متحدث آخر كان يلهب القلوب في زمن مضى، وذلك لما في أسلوب الأول من اتفاق مع الأوضاع والحاجات التي استجدت للناس.
ولا أظن أني بحاجة للتأكيد بزيادة الاستطراد في عرض الأمثلة إذ هو واضح ظاهر والتفاوت فيه صار سريعاً والتغير والتقلب يزداد وضوحاً.
ولما كان هذا هو الواقع الآن، صار على الداعية أن يكون نظره لما يحتاجه الواقع، وعليه مع ذلك - وهو الذي أقصده أصالة - أن يستشرف المستقبل ليكون طرحه موافقاً للزمن وحاجاته وذائقته لا تابعاً لما يرغبه المتلقي حتى يتمكن بعد ذلك من توجيه المتغيرات باستباقة لها. وحتى يتمكن من وضع الخطط الدعوية، والإستراتيجيات، المناسبة للزمن الذي يأتيه.
وقد كنت أشرت لهذا الأمر سابقاً[8] إلا إنني وجدت في بعض الكتب الغربية عن دراسة المستقبل أن الكنائس البروتستانتية تقوم بمثل هذه الدراسات وتبذل جهداً كبيراً لتضفي على نفسها صفة المستقبلية[9].
فلما تولى «كيلمور مييرز» رئاسة الأساقفة في كاليفورنيا عام 1966م عمل على «ابتكار وسيلة قد ترشدها في تحديد موقف الكنيسة وهي تنتقل مع البشرية نحو خفايا القرن الحادي والعشرين فالدين هو الذي يضبط المجتمع ويبقيه متماسكاً وهو الملجأ الذي يلوذ به الإنسان وقت يأسه أو معاناته، ولكنه لم يعد كذلك، وأنه بدأ يفقد جاذبيته فلا بد لإعادته إلى قوته أن تصحب الكنيسة الإنسان ناهيك عن قيادته في دروب العصور المستقبلة».
ولذا أنشئ مجلس تخطيط الأمور المستقبلية الكنسي، والذي قام خلال عدة أشهر وباشتراك ١٢٠ عضواً من دراسة عدة مشكلات والبحث في السبل البديلة واقتراح سبل العمل الممكنة لمواجهة الأوضاع التي تنبأ بها في العصور المقبلة، ولا يزال مجلس التخطيط المستقبلي هذا يجتمع كل عام أو ثلاثة أيام لمعالجة الموضوعات.
إن هذا التوجه الذي وجد لدى الكنائس البروتستانتية لا أحسبه مفقوداً لدى غيرها، فإن مؤتمرات التبشير تطرح دائماً أبحاثاً ودراسات عما يجب أن يهتم به المبشرون.
ومن هنا فإن اجتماع المهتمين لبحث ودراسة مستقبل العمل الدعوى وما قد يعترضه والحلول المناسبة واختيار البدائل المناسبة والطرق التي ينبغي سلوكها عمل يجب القيام به للخروج بنظرة تعين الدعاة وتبصرهم بما يقدمون عليه.
ومثل هذا الاستعداد الدعوى له شاهد من السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أنه لا إله إلا الله»[10]، فبيان النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ طبيعة المدعوين طريقة ليهيئ نفسه لهم بما يصلح لهم، وترتيب الأولويات الدعوية المناسبة نوع من ذلك أيضاً.
إن دراسة مثل هذا المستقبل لا تعني تحقق حصول ما يعتقده الدارس بطبيعة الحال، إلا إنها تفيد الإنسان ولو لم يصب في ظنه وحسبه أنه عمل بغلبة ظنه الذي طلبه منه الشرع، فقد أمر الله تعالى بالاستعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
ودراسة المستقبل هدفها تقديم احتمالات مشروطة يستفيد منها الإنسان؛ لأنه بذلك يتمكن من دفع بعضها أو يتحرز منها كما يفعل الناس عند استعدادهم لدفع برد الشتاء ولأوقات الغلاء ونحو ذلك مع أنهم يعلمون أنه لا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم أو عليهم.
وقد جاء الشرع بعدة أخبار عن المستقبل وما يجب فيه وهذا تنبيه على استشرافه والاستعداد له مثل ما جاء عن الدجال مدة مكثه واختلاف طول الأيام وكيفية الصلاة إذا أدرك المرء ذلك الأوان، عن جبير بن نفير، عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره[11].
وإنما جاءت هذه الأخبار ليستعد لها المؤمن بما يجب عليه حينها.
تناول «مالكولم غلادويل» في كتابه «نقطة التحول»[12] كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييراً كبيراً، وأن الشخص المريض بوباء معين مثلاً يستطيع أن ينشر هذا الوباء؛ فكذلك يستطيع أن يحدث شعبية لمنتج معين مثلاً، وكان من ضمن ما درسه في كتابه أن بعض الشركات وظفت مختصاً بأبحاث السوق قام بالاتفاق مع شبكة من الشباب في أنحاء العالم لزيارتهم عدة مرات في السنة وسؤالهم عن ملابسهم وطموحاتهم... إلخ؛ لمعرفة التيارات الجديدة وتعقب الأفكار ثم تقوم باستغلالها في صياغة منتجها، وتطبيقها في الإعلانات التي تبتكرها ثم انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة أخرى صارت فيها تزرع أفكاراً معينة في كل مكان لتقوم بنشر الفكرة واستغلالها.
إن الرغبة في الكسب المالي وزيادة التوزيع للسلعة حدا بهذه الشركات إلى هذه الدراسة المكلفة والتي حققت بها الشركة ما تريد، ومثلها في ذلك دوائر وجهات عدة أشار لها في كتابه، كل ذلك لمقصد يتبناه القائم على الفكرة أو المشروع.
وإننا نحمل دين رب العالمين، الذي ائتمننا الله عليه وأمرنا بإبلاغه للناس ووعد الدعاة له بحسن الثواب أفلا يستحق منا مثل هذه الدراسة، ومثل هذا التفكير؟ أحسب أن الجواب لا نختلف فيه، لكن.. من يعلق الجرس؟
[1] في عام 1967م (1387هـ) كان عدد المعاهد والمؤسسات المتخصصة في دراسة المستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية ستة معاهد، وفي مكتبة الكونجرس أكثر من ١٥ ألف دراسة مستقبلية. المستقبلية، إدوارد كورنيش، المقدمة.
[2] صحيح البخاري ( 3 )، صحيح مسلم ( 161 ).
[3] صحيح مسلم (3005).
[4] الطبقات لابن سعد (2/368).
[5] تفسير البيضاوي (1/486).
[6] دراسة المستقبل.. رؤى شرعية، ضمن التقرير الإستراتيجي الصادر عن مجلة البيان الإصدار الرابع (1428هـ) (ص41-77)، وكتاب: معالم المنهجية الإسلامية للدراسات المستقبلية.
[7] كتاب: الفقه الارتيادي، نظرات في الفقه المستشرف للمستقبل، مركز نماء.
[8] المرجع السابق.
[9] المستقبلية، إدوارد كورنيتس (ص389) فما بعدها.
[10] متفق عليه، صحيح البخاري (1496)، صحيح مسلم (19/29).
[11] صحيح مسلم 8/196 (7483).
[12] نقطة التحول (ص180).