وقفة مع المطالبين بالثورة المسلحة
إن المطالبين بثورة مسلحة لتصحيح المسار في مصر لا يقدمون حلًا، ولا يقدمون كشفًا لأسباب الانكسار الحقيقية.
(1)
يحتشد عدد من الأفكار حول الثورة المسلحة، بعضها يطل على المشهد في ثوبٍ نقيٍ عطرٍ هادئًا يحدثك بأن لا بد من القتال لتغيير المشهد، وينثر على الحضور بعضًا من آيات الذكر الحكيم تدعو لقتال الظالمين ونصرة الله للمقاتلين.
ويصعب النظر للقول دون قائله، ويصعب النظر للقول وقائله دون السياق الذي يقال فيه؛ فثلاثةٌ لا بد أن يحضروا سويًا: القول والقائل والسياق.
وفي هذا المقام (الدعوة للثورة المسلحة) لا أحسب أن أحدًا يعترض على أصل الفكرة، وهي قتال الظالمين فكل أمة تقاتل وتجادل، كل أمة تدعو إلى ما تعتقده وتحاول إزالة من يقف في وجهها بالقوة، قال الله تعالى ذكره: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]؛ ولكن الخلاف في التطبيق، وفي توصيف المناط واستدعاء ما يناسبه من أحكام.
(2)
في المشهد الثوري العربي لم يبتدئ الإسلاميون الثورة على الاستبداد؛ قد كانوا بين سلفيين منعزلين أو جهاديين تراجعوا عن المواجهة المسلحة وإخوان مسلمين يتحركون ضمن المتاح؛ فقط التحقوا بالثورة وأشعلوها، فلولا كثرتهم العددية وإقدامهم ومظلوميتهم وانتشارهم الجغرافي والطبقي ما استطاع أحد الحشد والتحرك ضد الاستبداد، بمعنى أن الإسلاميين يستدعون للمشهد، تأتي بهم الأزمات، ويكونون ضمن إستراتيجية أخرى تستهدف تنفيذ سياسات لا يفهمها الإسلاميون إلا بعد أن تنتهي وتفرض واقعًا؛ وتكرر هذا الأمر في موجات الصحوة الخمسة في مصر: موجة الأفغاني وعبده، وموجة طنطاوي جوهري ورشيد رضا والبنا، وموجة سيد قطب، وموجة شباب السبعينيات، وموجة يناير 2011. وفي كل مرة: تكون أزمة اجتماعية أو سياسية ويؤتى بالإسلاميين كحل للمشهد. يظنون أنهم يقدمون حلًا ثم تنكشف الأيام ويتضح أن غيرهم حلَّ أزمته هو بهم.
فنحن أمام إرادة واعية هي -للأسف- إرادة الآخر، وإرادة أخرى طيبة تريد الخير ولكنها منغمسة في التفاصيل ولا تحيط نخبتها علمًا بالمشهد الصراعي ككل (والكلام على المجموع لا على الجميع)، في هذا الإطار تأتي الدعوة للثورة المسلحة. يتم الدعوة للثورة المسلحة، مع أن التجارب المجاورة أوضحت أن الثورة المسلحة كالثورة السلمية تدخل في سياق آخر يفيد منه الآخر. وأن الحرب الداخلية يتحكم فيها من يمولها، وأنهم يستطيعون لملمة المشهد وفرض خيارهم السياسي في أيامٍ معدودة. والواقع يشهد، وتجربة أفغانستان تشهد، وتجربة البوسنة والهرسك تشهد، فضلًا عن التجارب الحالية في سوريا وليبيا والعراق واليمن، وتجارب القتال داخل المجتمعات الإسلامية والتي أعلنت كلها -أو جلها- المراجعة والتراجع!!
(3)
لماذا يطالبون إذًا بالثورة المسلحة؟
يتضح الأمر أكثر حين ننظر لحال المطالبين بالثورة المسلحة، ومن خلال بعض المعالم في أشخاص هؤلاء الأفاضل نستطيع أن نقف على سبب المطالبة بالثورة المسلحة، ونضع أيدينا على تحولات غير محسوبة يصنعها هؤلاء الأفاضل من حيث لا يشعرون.
المعلم الأول: أن هؤلاء بالخارج، وليس فقط بالخارج. بل من أول من خرج من المشهد المصري بعد الانقلاب. حين تغير الحال بادروا للخروج من مصر سريعًا مع أن إقصاء الإسلاميين أخذ وقتًا!!
المعلم الثاني، وهو الأهم: أنهم قبلُ لم يكونوا من المقاتلين ولا من المؤيدين لمن قاتل. بل كانوا ممن أقبل على العمل السياسي كليةً.
ومعلم ثالث: أن جلهم تعرض للاضطهاد والتعذيب فيما قبل ثورة يناير 2011وحين قامت الثورة لم يتجه للقصاص ممن عذبه وعذب إخوانه، بل اندفع للسياسة وهو لا يعلم قواعد العمل السياسي جيدًا ولا مآلاته، ولم يجتهد في أن يتعلم أو يستنطق من تعلم؛ بل راح يمارس السياسة على القواعد التي وضعها العسكر (المجلس العسكري). اندفع للعمل السياسي تمامًا كما يندفع الآن للمطالبة بالثورة المسلحة وقد ثبت توظيفها والإفادة منها.
لماذا يطالب هؤلاء غيرهم وهم بالخارج، وهم ليسوا مقاتلين، ولا يستعدون للقتال؟
الإجابة –كما تبدو لي- لا تعدو أن تكون تخلص من حالة لا يصبرون عليها، كالذين طالبوا بفرض القتال في مكة ثم حين فرض في المدينة لم يتحمسوا له {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]. لم يتحملوا الصبر على الأذى وآلام القهر والاستضعاف وأرادوا دفع ذلك ولو بالقتال، ثم حين فرض عليهم القتال بعد أن ذهب الاستضعاف والقهر تقاعسوا.
(4)
المحزن في الأمر أن هذه النداءات تنطلق في ثوب تصحيح للمسار، حيث أن هؤلاء يشخصون الفشل في إدارة المشهد بعد يناير من قبل الإسلاميين في عدم تبني الخيار المسلح، يقولون حالة من الضعف في أخذ القرار، يقولون: حالة من الضعف في المواقف. وتظهر كتاباتهم في هيئة تسفيه للقيادات الدعوية؛ ولأن الكلام يرتدي ثوب الحماسة ويبدو شجاعًا –وليس شجاعًا لأنه ينطلق من الخارج- وينثر على معرفات وهمية لذا يلقى قبولًا وتجاوبًا.
هكذا بكل بساطة وسطحية يشخص الخلل في ضعف شخصية القيادات مع أن هذه القيادات قدمت في تاريخها من الصمود والتحدي أكثر مما قدم عامة من ينتقدهم، ولا يمكن لمنصف أن يصفهم بضعف الشخصية، وإنما الخلل في أمور:
أولها: الوعي المنقوص عند من فشل وعند من يطالب بالثورة المسلحة كوسيلة لتصحيح المسار. أو بتعبير أدق: فقدان التخصصية.. فقدان الفرد الوظيفي، فنحن نمتلك أفرادًا يتحركون في التخصصات كلها، حينًا يعظون، وحين يفتون، وحينًا ساسة، وحينًا مصلحون اجتماعيون... الفرد الصحوي بلا تخصصية، ولذا يتحرك حسب المطلوب ويُحاط به ثم يُساق حيث لا يريد.
ثانيها: إهمال التحديات الخارجية والداخلية، وهذه التحديات الخارجية هي التي تجهض موجات الصحوة وتفيد منها في كل مرة. ويتضح حجم وشراسة الخارج من الدراسة التفصيلية المتعمقة للنظام الدولي وما فيه من فواعل وقضايا وهياكل، والنظم الداخلية بمؤسساتها ونخبتها ومخالبها المختلفة. وما يطرح عبارة عن عموميات لا ترقى لمستوى فهم ما يفعل بنا فضلًا عن اتقائه والتغلب عليه. وخاصة أن هذه التحديات الدولية تتطور يومًا بعد يوم، وتفرغت لنا وأعلنت الحرب علينا فيما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب، وتقال في جميع الميادين تحت ما يسمى بحروب الجيل الرابع.
والسبب في إهمال التحديات الخارجية هو الانطلاق من مسلمة مفادها أن الإيمان وحده يكفي لنزول النصر، وأن وجود فئة مؤمنة ولو قليلة يكفي لغلبة الكفر وإن ملأ الأرض كلها، وإهمال أن ما يدعو إليه هؤلاء قد جرب مرات وانكسر.
ثالثها: الاتجاه لتخطيئ الأشخاص لا إعادة النظر في أدوات الفعل، كالجماعة والقتال المسلح والعمل السياسي على قواعد الديمقراطية، ومن ثم السعي للتعديل أو الابتكار.
إن المطالبين بثورة مسلحة لتصحيح المسار في مصر لا يقدمون حلًا، ولا يقدمون كشفًا لأسباب الانكسار الحقيقية. وإن الخلل يبدأ من إيجاد فرد متخصص.. إيجاد نخبة متخصصة في جميع المجالات تسند إليها المهام. إن الحل في التخلص من تنقل الفرد الواحد غير المتخصص في أكثر من مجال، ولا نحتاج لأكثر من أعوامٍ قليلة حتى ننتج نخبة متخصصة تفهم الواقع وتعالجه.
- التصنيف: