نعم المصلى (16) فضل الصلاة والتعبد فيه
لحكمة ربانية اختص الله سبحانه وتعالى واصطفى أماكن على غيرها، فاختارها للعبادة وتحقيق التوحيد وأعظم أجرها وأعلى قدرها ورفع مكانتها، من أعظمها المساجد الثلاثة الشقيقة المتلازمة المرتبطة تاريخيا وعقديا وإيمانيا ووجدانيا مع بعضها البعض؛ المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س15/ ما هو أجر الصلاة في المسجد الأقصى؟
لحكمة ربانية اختص الله سبحانه وتعالى واصطفى أماكن على غيرها، فاختارها للعبادة وتحقيق التوحيد وأعظم أجرها وأعلى قدرها ورفع مكانتها، من أعظمها المساجد الثلاثة الشقيقة المتلازمة المرتبطة تاريخيا وعقديا وإيمانيا ووجدانيا مع بعضها البعض؛ المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.
من حيث العموم والإجمال، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى».[1]
في الحديث حث عام على السفر وشد الرحال، للتعبد والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في هذه البقاع الشريفة، لما لها من خصوصية ومكانة وتكريم من الله سبحانه وتعالى، فلا فضيلة لشد الرحال لأجل التعبد لغيرها.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ[2] لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا - أَوْ قَالَ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .[3]
قال الألباني عن هذا الحديث: أصح ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، ولما كانت الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه، فتكون الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهذا فضل عظيم وأجر كبير أن تضاعف الركعة والصلاة فيه إلى مائتين وخمسين ضعفا، يشمل الفرائض والنوافل، وحتى لا يظن ظان أن التفاضل في أجر الصلاة من حيث العدد بين المساجد الثلاثة يقلل من شأن المسجد الأقصى، قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: " ولنعم المصلى"، لبيان مكانته ومنزلته في الشرع الإسلامي.
إن أفضلية المسجد مستقاة من أفضلية المكان، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي معنا: "ولنعم المصلى" فيه مدح وثناء وإظهار أهمية الصلاة فيه والعبادة، وأن النفوس المؤمنة الحية تبقى مشتاقة لذلك المكان مهما تغيرت الأحوال وتقلبت الظروف.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمَّا فرغَ سُلَيْمانُ بنُ داودَ من بناءِ بيتِ المقدِسِ سألَ اللَّهَ ثلاثًا: حُكْمًا يصادفُ حُكْمَهُ وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدِهِ، وألَّا يأتيَ هذا المسجدَ أحدٌ لا يريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيهِ، إلَّا خرجَ من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّهُ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أمَّا اثنتانِ فقد أُعْطيَهُما، وأرجو أن يَكونَ قد أُعْطيَ الثَّالثةَ».[4]
هذا حديث عظيم يبين الفضل الكبير والأجر الجزيل للتعبد والصلاة في المسجد الأقصى، وأن يأتي هذا الدعاء من النبي الملك سليمان مستجاب الدعوة، تكون ميزة إضافية ومزيد تكريم وتشريف لها المكان.
في الحديث إشارة إلى حقبة زمانية مهمة في تاريخ هذا المسجد العريق، لما قام سليمان عليه السلام بتجديد بناءه وترميمه، كما هو معروف ومعمول به من القدم إلى يومنا هذا، فلا زال الملوك والأمراء يعتنون بعمارة وتجديد وترميم الأماكن المقدسة المهمة كالمسجد الحرام والنبوي والأقصى، لتهيئة الأجواء وتأمينها وظهور هذه الأماكن بأبهى حلة وأجمل منظر، لتحقيق أجواء إيمانية يبتغى فيها الأجر والمثوبة من الله.
قال ابن تيمية: ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه يأتي إليه فيصلي فيه ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان لقوله " لا يريد إلا الصلاة فيه " فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة.[5]
و عـن حـذيفة بن اليـمـان رضي الله عنه قال: إنّ رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَاْ اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ بَيْتِ المقْدِسِ».[6]
والاعتكاف هو الوقوف والاحتباس والمواظبة والإقامة، وهذا يضيف فضيلة جديدة ومزية أخرى، للفضائل السابقة من الصلاة فيه والصلاة إليه قبل نسخ القبلة، وزيارته والمكث فيه تقربا إلى الله، وكل هذا التنوع فيه مزيد فضل وشرف هذا المكان، وحض على عمارته بالطاعة وتحقيق العبودية لله عز وجل.
قال ابن عثيمين: وإن صح هذا الحديث فالمراد به لا اعتكاف تام، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل، من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى.[7]
يكفي لهذا المسجد فضلا وقداسة ومكانة؛ أنه متعبد الأنبياء ومحراب الأتقياء ومقصد الأصفياء وفيه كرامات الأولياء؛ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.[8]
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: