ملح الحياة - الله يسمعني، الله يراني
عندما يتعلم الطفل القراءةَ في سنواته الأولى، ستكون لديه رغبةٌ في قراءة كلِّ لوحة أو لافتة يراها، فعلى الوالدين أن يُحفِّزا هذه الرغبةَ عنده، وفي أثناء التنقل نُحاول أن نجعله يقرأ اللافتات، وهذا فقط مجرد مدخل لإثارته، ثم أبدأ معه بقراءة عناوين الكتبِ الموجودة بالبيت - سواء دراسية أو غيرها - ومع نمو رغبته في اكتشاف كلِّ حرف مكتوب
بعدما تحدَّثنا عن معجم الطفل وخيالِه فيما سبق، سنتحدث عن التعلُّم في المرحلة الابتدائية وما قبلها، ففي هذه المرحلة يكون الذهنُ والقلب صافيينِ، وأنت مَن تخُطُّ بيمينك أُسسَ الحياة في نفس صغيرك؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ؛ لذلك فإن هذه المرحلة مهمة جدًّا في موروث الطفل القِيَمي، ولأن الطفل في هذه المرحلة ربما لا يستوعب المصطلحاتِ العقَديةَ والحياتية بوعيٍ ودقّة، فسيكون التركيز على التصوُّر البصريِّ لديه، ثم الحوار.
عندما يتعلم القراءةَ في سنواته الأولى، ستكون لديه رغبةٌ في قراءة كلِّ لوحة أو لافتة يراها، فعلى الوالدين أن يُحفِّزا هذه الرغبةَ عنده، وفي أثناء التنقل نُحاول أن نجعله يقرأ اللافتات، وهذا فقط مجرد مدخل لإثارته، ثم أبدأ معه بقراءة عناوين الكتبِ الموجودة بالبيت - سواء دراسية أو غيرها - ومع نمو رغبته في اكتشاف كلِّ حرف مكتوب، أبدأ أنا كأُمٍّ بعمل بطاقات متعددة بخطٍّ كبير واضح، ويا حبَّذا الملوَّنة، ولو لُوِّنَ كلُّ حرفٍ بلونٍ مختلف، لكان أنفع؛ لأنه سيَجذب انتباه الطفل، ثم أختار مكانًا بارزًا في البيت، وأَلصَق هذه البطاقة، ويجب أن تكون بحجمٍ مناسب، ولا أضع أكثر من بطاقة، ولا أَلفِتُ نظر الطفل إليها، فقط أتحقَّق أنه رآها ويَمر عليها، فهذه البطاقات ستَحِلُّ مَحَلَّ القَصص التي كنا نَقُصُّها قبل تعلُّم القراءة والكتابة، وبعد مرور أسبوع مثلًا على وضع البطاقة، نطلب من الطفل أن يساعدَنا في تغييرها، ومن هنا سيَنتبه الطفل للبطاقة الأولى، وسيَسأل عن معناها، وسيحاول قراءتها، وإذ ذاك تكون الأم مستعدةً لهذه اللحظة، وبمجرد قراءتها تُظهر الأم انبهارَها بفعله، وتَحنو عليه، وتُكافِئه بشيءٍ يحبه، ثم تسأله: هل فهمتَ معناها؟ ثم تَشرح له معناها، وتُبدي فرحةً بتفاعُل ابنها معها، ويأخذ الحوارُ مع الطفل حول البطاقة ومعناها ثُلُث ساعة، أو نصف ساعة على الأكثر، ثم تضع البطاقة الجديدة، وهكذا.
ومع كل جلسة حول مفهوم البطاقة، تكون الأم قد أعدَّتْ مادة للنقاش، تستمدُّها من سلوك الطفل نفسِه وأخطائه وتجاوزاته خلال الفترة التي تَفصِل بين الجلستين، ولا تُوجِّهه توجيهًا مباشرًا، بل تصنع خيوطًا لعقله من خلال حديثها؛ ليَربط هو بين سلوكه وبين الحوار.
نأتي إلى السؤال المهم: ماذا سنكتُبُ في هذه البطاقات؟
بداءةً ستكون المادة المكتوبة متعلقةً بالبدهيات الواجبِ على الطفل معرفتُها في الدين والحياة، ثم بعد ذلك تكون مُستمَدَّةً من سلوك الطفل نفسه، أتذكَّر أول بطاقة وضعتُها لأولادي، كانت: (الله يسمعني، الله يراني)، وبالطبع طرَحوا عليَّ أسئلةً كثيرة بعد فَهْم معناها، بل بدأ بعضهم يدخل غرفة ويُغلق على نفسه، ثم يخرج ويسأل: هل كان الله جل وعلا يراه وهو بالغرفة؟ وبدأ الحوار الذي لم يَنته لمدة أشهر طويلة، حتى وصل إلى مفهومه أنه ولو كان في حفرة تحت الأرض مُظلمةٍ، فإن الله يراه، وأظنُّ أن هذا السؤال أول دروس العقيدة المهمة.
مما يَحضُرني حول هذه البطاقة تحديدًا أن صغيري ذهب إلى المسجد يوم الجمعة، وعاد وحده وجلس صامتًا يتأمَّل على غير عادته، فسألته: هل أساء لك أحد؟ فقال: لا، إذًا ما الأمر؟ قال: وجدت مِسمارًا على الأرض، فأمسكتُ به، وذهبت إلى بيت أحد الجيران؛ لأُفرغ هواءَ إطار سيارته، التَفَتُّ فلم أجد أحدًا حولي - ذلك أن درجة الحرارة تصل إلى الخمسين أحيانًا - ذهبتُ إلى زاوية خلفية؛ حتى لا يراني أحد، ثم تذكَّرت أن الله يراني، فتركتُ السيارة وعدتُ إلى البيت.
من هذا الموقف أخذتُ فكرةَ أكثر من بطاقة قادمة عن الصدق والظلم والعتاب؛ حيث إن رغبته في إفراغ هواء إطار السيارة، كانت ناتجة عن ظلم ابن ذلك الجار له في موقفٍ ما!
والأفضل أن تكون غالب البطاقات مُستمَدَّةً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بالضرورة أن أضع النص كاملًا، بل مَغزاه يكفي في كلمتين أو ثلاثة، لا يزيد.
وكلما وجدتِ في مناهجه ما يَصلُح أن يكون مضمونَ بطاقةٍ، بيِّني له أن هذه العبارة مكتملة المعنى، إنها تَحمل معنًى جميلًا، أو تُعلِّمنا قِيَمًا نافعة، وسارعي بكتابتها في بطاقة، ثم بعد ذلك اطْلُبي من الطفل نفسِه انتقاءَ العبارات التي يراها مُعبِّرةً جميلة مما يَدرُس، عندئذٍ سيتدرَّب جيدًا على التذوُّق والقراءة بوعي؛ ليَلتقط عبارةً مناسبة، فإن وُفِّق لذلك، فاكتُبي العبارة وذيِّلِيها باسمه؛ فذلك من أهم دوافع الانتقاء لديه، واحتراف الاجتزاء المناسب، ومع تقدُّم وسائل الاتصال، يُمكن أن يَنشرها هو أو أنتِ، مُشيرةً إلى أن هذا من انتقائه، ثم من تعبيره، وهكذا.
ربما يتحوَّل الأمر عنده من اكتساب قيمة وسلوك إلى مجرَّد احتراف، ففي هذه الحالة يكون عتابك له مُقترنًا بمضمون البطاقة، فمثلًا: إن اقترَف الكذب، ذكِّريه ببطاقة: (الصدق منجاة)، وإن وقَع في السرقة أو الإتلاف، ذكِّريه ببطاقة: (الله يسمعني، الله يراني)، وإن وقع في تأخير الصلاة، ذكِّريه ببطاقة: (إلا المُصلين).
فقط انتبهي ألا تُحوِّلي هذه البطاقات إلى سُور يُحاصره، بل كوني حنونًا أثناء توجيهك، فإن اللينَ يَصنع في النفوس ما لا تَصنعه السيوف، واعلمي أن نجاح شخصية طفلك يتناسب طرديًّا مع نسبة الحب والحرية التي تَمنحينها له، فاجعلي قُوتَهم الحنان، يفوزوا وتفوزي، وكما أقول دومًا: بين حاء وحاء تنمو العبقرية - (الحب والحرية) - ثم كوني في حياته المحورَ الذي يدور حوله، يَجتهد منتظرًا تشجيعك، يتقدَّم لأنه يريد فرحَك، يُنجز وعينُه عليك تَرقُب رضاك، وتَمنحيه الأمان بحِضنك ورضاك، هنا فقط كوني قريرةَ العين!
بُورك لكم في أولادكم، وجعلهم مَوردَ بِرٍّ لكم في حياتكم، وصدقةً جارية لكم بعد مَماتكم بصلاحهم.
بقلم: أ. منى مصطفى عبد الهادي