الشهيد فى قيوده لكلمة حق الإمام البويطي
مات البويطي نحتسبه شهيدا في محبسه وقيوده وأغلاله، وكانت وصيته أن يدفن في قيوده لا تفك عنه، ليخاصم أعداءه أمام الله تعالى يوم القيامة، مات البويطي فى السجن ولكنه مات عزيزا منتصرا لله ولدينه وللحق، وعاش خصومه فى ذل وغضب من الله.
عالم الشافعية الأول، وصاحب الشافعى الشهيد فى قيوده لكلمة حق الإمام البويطى.
تاريخ أمة الإسلام زاخر بالمواقف العظيمة عبر عصور هذه الأمة، والتي تظهر لنا حقيقة العلماء الربانيين الذين يعلمون يقينا الدور المنوط بهم، من تبيان للحق وحكم الله وثبات وعدم مجاملة أو نفاق أو الترخص وتحمل عبء أمانة العلم.
وأقدم اليوم واحداً منهم في زمن غلب فيه المنافقون والمترخصون ممن يحملون العلم الشرعي واحد ولكنه كالجبل الراسي من صعيد مصر إنه الإمام البويطي صاحب الإمام الشافعي ومن حمل فقهه وعلمه إنه أبو يعقوب يوسف بن يحيي القرشي البويطي، خليفة الإمام الشافعي في درسه.
تلقى العلم صغيرا على يد شيوخ قريته الصغيرة؛ بويط، ثم انتقل لمجلس شيخ المالكية وكبيرهم؛ الإمام ابن وهب، وحمل عنه علما كثيرا، فلما دخل الشافعي - رحمه الله - مصر سنة 198هـ، في رحلته العلمية الشهيرة، جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه، فلزم مجلسه ولم يفارقه، وكان البويطي ذكيا وسريع البديهة، فصار أكبر وأنجب تلاميذ الشافعي، وأكثرهم علما وأحاطة لدقائق مذهبه ومسائله.
كان الشافعي معجبًا بذكاء تلميذه وحرصه على العلم ونبوغه، قال الربيع: كان أبو يعقوب من الشافعي بمكان مكين، وربما يسأله أحد عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب فإذا أجاب أخبره، فيقول: هو كما قال، وكأنه إعداد من الامام الشافعي ليكون البويطي خليفة له في حلقة العلم فقد قال الإمام الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وحين مرض الشافعي بمصر كان في حلقته من كبار تلامذته البويطي، ومحمد بن عبد الحكم والمزني، فاختلفوا في الحلقة أيهم يقعد فيها، وتنازعوا الرياسة فبلغ محمد بن إدريس الشافعي، فقال الحلقة ليوسف بن يحيى البويطي من شاء يقعد فيها ومن شاء قام، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.
ورزق الله البويطي فصاحة وحجة فى البيان وكان جريئًا في الحق، وقد روى عن الإمام الشافعي أنه قال: أبو يعقوب لساني، وكان الشافعي يوجه البويطي للذهاب مع صاحب الشرطة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يؤكد ثقة الشافعي في علمه وفهمه وقوته في الحق، قال النووي: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي، رغم أن الشافعي قال في الربيع: إنه أحفظ أصحابي، وقال الشافعي في المزني: المزني ناصر مذهبي. مما يؤكد تفوق البويطي عنهما رغم مكانتهما.
ومن أشهر مؤلفات البويطي كتاب "المختصر" المشهور، والذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، وقد قال الإمام الذهبي عن البويطي في ترجمته في السير: " كان إماما في العلم، وقدوة في العمل، زاهدا، ربانيا، متهجدا، دائم الذكر ".
وصفه الإمام السبكي بأنه: " متنوع في صنائع المعروف كثير التلاوة لا يمر يوم وليلة حتى يختم،وقد قال أبو الوليد بن أبي الجارود، وكان جاره وصاحبه: كان البويطي جاري فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي، وأما في خارج بيته فلم يكن ذكر الله ليغيب عنه لحظة.
يقول الربيع بن سليمان: كان البويطي أبداً يحرك شفتيه بذكر الله تعالى، وما رأيت أحداً أنزع بحجة من كتاب الله من أبي يعقوب البويطي، وقد كان في تقواه شبيهًا بأستاذه الشافعي، ويبدو أنه لم يستفد من علمه فحسب بل تأثر بزهده وورعه وتقواه، فسار على نهجه في الذروة من العبادة والعلم والعمل.
قال ابن خلكان: "البويطي صاحب الشافعي - رحمه الله -، كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحا متنسكا، عابدا، زاهدا ".
الدرس العظيم في المحنة والثبات
كبرت مكانة البويطي في مصر قبولا وهيبة وأتباعا، فقد كانت حلقته في المسجد أعظم الحلقات، وكان تلاميذه بعشرات الآلاف في مصر وخارجها.
في هذه الفترة ظهرت بدعة القول بخلق القرآن بعاصمة الخلافة بغداد، على يد المعتزلة الذين وجدوا من الخليفة المأمون العباسي رعاية وتبني لبدعتهم؛ وذلك بسبب أنه كان انشغاله في الفلسفة والكلام والمنطق، دون بصيرة علم وفقه وقد اقتنع المامون ببدعتهم في القول بخلق القرآن، وعمل على دعوة الناس للقول بها.
ولكن لم يكن الأمر سهلا فالصالحون المخلصون من العلماء والفقهاء والمحدثين رفضوا هذه البدعة، مما دفع المأمون سنة 218 هـ الى حمل الناس على القول بها ولكن. لم يطل العمر بالمأمون كثيرا فمات من عامه ذلك 218 هـ، وتولى الخلافة بعده المعتصم وكان مشغولا بالغزو والفتوحات، ولكنه عمل بوصية المأمون وهي إجبار الناس على القول بخلق القرآن، ومعه حدثت محنة الإمام أحمد المشهورة، وتوفى المعتصم سنة 227 هـ.
وخلفه أبنه الواثق وكان أشد الخلفاء اعتناقا بالبدعة، ورغبة في نشرها، بسبب إستيلاء راعي البدعة القاضي " أحمد بن أبي دؤاد الإيادي " عليه وأطلق الواثق يد أحمد بن أبى داؤد في فرض البدعة كما يشاء فكانت محنة المسلمين عظيمة.
أستغل أحمد بن أبي دؤاد علاقته بالواثق فعمل على نشر هذه البدعة بين المسلمين بكل الطرق،حتى أنه لا يتم تعيين أي عامل للدولة إلا بعد اختباره بهذه البدعة، ومطاردة كل من يقول بخلافها، وسجنه وحتى قتله.
نتيجة لهذه السياسة تم تولية القاضي المعتزلي أبي بكر الأصم في منصب قاضي مصر، فلما جاء مصر أستوقفه مكانة الإمام البويطي والجموع الغفيرة التي تتبعه، وعلم الأصم أن الإمام البويطي يعارض تلك البدعة بل يناهضها ويدعو إلى إلتزام الحق أن القرآن كلام الله فأسرع بإبلاغ بن أبي دؤاد، فكتب بن أبي دؤاد إلى والي مصر وأمره بامتحان البويطي على خلق القرآن فإن أجاب وإلا وضعه في السجن.
وجاءت الرسالة للوالي الذي كان محبا للبويطي، معظما لعلمه وورعه، ويكره أن يكون سببا في سجنه، فأرسل اليه ولما مثل البويطي بين يديه، أمر الوالي بإخلاء المكان من المتواجدين تماما ثم قال للإمام البويطي سرا بالأمر، وقال له: "يا أبا يعقوب أبق على نفسك، وقل بالأمر سرا بيني وبينك، فأنا لا أملك مخالفة ابن أبي دؤاد، وأنت تعلم مكانه من الواثق "
ولكن الأمام البويطي ليس الذي يترخص أو يستخدم التقية فهو يعلم دوره ومكانته والتكليف الشرعي له بتبيان الحق فقال للوالي بصوت مسموع هادىء: " إنه يقتدي بي مائة ألف أو يزيدون، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضا ".
فاحتار الوالي المحب للبويطي، ولكن الخبر وصل لطاغية بدعة خلق القران ابن ابى داؤد فأمر على وجه السرعة بحمله إلى بغداد في الحديد الثقيل وذلك سنة 233 هـ، وسجنه عند وصوله، وهنا يصف لنا الربيع بن سليمان مشهد العالم البويطي في أغلاله وقيوده ولكن المشهد رغم قسوته فيه صورة صلابة المؤمن الربانية والثبات وعظيم الايمان والعلم عندما يكون عمل لاقول فقط.
يقول الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل، في عنقه غل وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله - سبحانه - الخلق بِكُنْ، فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله لأموتن في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه يعني الواثق.
تخيلوا الإمام العالم الجليل صاحب الشافعي الأول يحمل من الفسطاط إلى بغداد على بغل والقيود والأغلال في يده في رحلة تمتد أسابيع ولا يهتز ولا يخضع ولا يسترخص رغم طول المسافة، وشدة العذاب إنه تبليغ رسالة محمد صل الله عليه وسلم .
والعجيب أنه مع كل ذلك كان طوال الرحلة آمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، معلما مربيا واعظا، لكل من مر عليه من المسلمين، فلما بلغ ابن أبي دؤاد ثباته وإصراره وما فعله وقاله حتى وصوله لبغداد وأنه لم يتراجع بحرف واحد أشتد غضبه فلم يمتحنه بسؤال بدعة خلق القران مثلما فعل مع غيره، ولم يدخله على الخليفة كما حدث مع غيره من كبار العلماء خشية من قوته فى الحق وثباته أن يقنع الواثق بالحق، فقد كان البويطي في هذا الوقت معلوما للناس من أعلم أهل الأرض وأكثرهم فقها. فأمر ابن أبي دؤاد بإلقائه في غياهب السجون مباشرة.
ظل البويطي في ظلمة السجون لشهور عديدة، ولكنه لم يلن ولم يداهن ولم يترخص بل كان مثالا للعالم الرباني، الصابر الصامد الثابت على الحق فشغل أيام سجنه بالصلاة والذكر والعبادة والقراءة والتضرع، وتعليم للمساجين، وكان اللافت في السجن أنهم كانوا يرسلون إليه من يناظره ليرجع عن الحق فكانوا يستسلمون أمامه فاشتد غضب ابن أبى داؤد عليه، ويروى أن البويطي وهو في السجن إذا سمع المؤذن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب الحبس فيقول له السجان: أين تريد؟
فيقول: حيث داعي الله.
فيقول السجان: ارجع عافاك الله.
فيقول أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.
الله أكبر ما شاء الله لاقوة إلا بالله ثبات وإيمان عجيب مما زاد في غضب ابن أبي دؤاد، وحقده وغله على البويطي، فأمر بتشديد الأغلال والقيود عليه، فلفوه كله بالحديد، حتى لم يعد قادرا على الحركة إلا بصعوبة كبيرة.
أثر ذلك التشديد في نفسية الإمام تأثيرا كبيرا بسبب أنه منعه من الأنس وحلاوة تذوق الإيمان بالصلاة وقيام الليل والعبادات، ولكنه لم يتراجع ويخذل الحق فكان الإمام يعاني من صعوبة بالغة في الحركة ودخول الخلاء والتطهر للصلاة.
وقد كتب رسال مؤثرة أرسلها من محبسه إلى الإمام الذهلي وهو من كبار علماء الحديث في خراسان واصفا حاله، فكتب له يقول: " يا أبا يحيي قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله تعالى أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى أني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم ". فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على المجلس بكى وبكوا جميعا وضجوا له بالدعاء.
ظل البويطي ثابتا مؤمنا راضيا بقضاء الله يدعو الله أن يخلصه من هذا الكرب العظيم بعد أن عجز عن الحركة ودخول الخلاء والصلاة من القيود والأغلال، وسرعان ما جاء الفرج، من عند رب السموات والارض، وأخرجه الله - عز وجل - من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى فيها من أهلها الظلم أخرجه الله سبحانه الى الراحة الأبدية، إلى جنات عرضها السموات والأرض - فيما نحتسبه عند الله ولا نزكي على الله أحد -.
ومات البويطي نحتسبه شهيدا في محبسه وقيوده وأغلاله، وكانت وصيته أن يدفن في قيوده لا تفك عنه، ليخاصم أعداءه أمام الله تعالى يوم القيامة، مات البويطي فى السجن ولكنه مات عزيزا منتصرا لله ولدينه وللحق، وعاش خصومه فى ذل وغضب من الله.
وهكذا العلم ليس كتابا فقط يقرأ إنما عمل يعمل به العلماء الربانيون ليكونوا منارة لعباد الله فى ظلمات الجهل والقهر والنفاق فينيروا لهم الطريق بالثبات على الحق غير مبالين بضغوط ولا إغراءات.
ليس مذلة أن تموت فى السجن بل كل العزة فى ثباتك على الحق فى السجن أو مطاردا أو مهاجرا طالما على الحق، وكل المذلة والخزى أن تموت وأنت تخون دينك وأمتك والحق وأن تكون عونا للظالمين.
اللهم ثبتنا... فما عند الله عز وجل خير، وأبقى.
- التصنيف: