(15) المنافق ذو قلب أجرد
محمد علي يوسف
شتان بين هؤلاء الصادقين بنياتهم مشفوعة بهمهم العالية، وإقدامهم المبكر الأمين، وحزنهم العميق علي فوات أسباب العمل الصالح عليهم، وبين أولئك المعذرين بتباطئهم وتكاسلهم الذي انبثق عن صريح نفاقهم، والذى ربما أسعدهم سعادة عارضة منقوصة لا يلبث أن أن يعقبها ندم العمر وخسران الدهر.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية -
والمنافق ذو قلب أجرب! قلب يريحه ما يؤذي الشخص السليم ويتلذذ بما طبعه أن يؤلم ويضر في حالات الجرب الحاد يقوم المريض بحك جلده بشدة وقد لا يرتاح حتى يُدمي هذا الجلد ويقرحه، ولو صح جلده لآلمته تلك الحكة العنيفة الدامية لكنه المرض، وما أقبح المرض إن كان فى القلب!
ببساطة قلب المنافق = قلب أجرب قلب يريحه تمزيقه بالفجور ويسعده إدماؤه بالعصيان المنافق لديه مشكلة حقيقية في فهمه وهذه المشكلة متصلة بشكل وثيق بمشكلة الطمس على قلبه وانتكاس فطرته من أهم أعراض تلك المشكلة = انقلاب موازينه واختلال معاييره مرض حقيقي يغير من طبيعته، ومن طبيعة الأشياء في نظره مرض أسميه جرب القلب، وهذا المرض معدٍ جدا بل إن المنافق يحرص على نقله لغيره قاصدا.
يحرص على أن يكون انقلاب المعايير الذي لديه = عاما يشمل مجتمعه كله وبداية انهيار أي تجمع بشري تكون بتصدع القيم وانقلاب الموازين واختلال المعايير، والأمر لا يحدث بغتة ولا تنقلب تلك المعايير بين عشية وضحاها.
قد يستغرق ذلك وقتا كبيرا والانهيار يسبقه تصدعات وتشققات في جدر تلك القيم والمبادىء ثم تتسع تلك الشقوق تدريجيا حتى تصير النفوس القابعة خلفها عرضة لكل عوامل الإضرار بها والتأثير عليها ثم ينكس الجدار، وبعد حين ينقلب بناء القيم رأسا على عقب.
إن الطريق من كون الخطأ خطئا إلى كونه أمرا طبيعيا أو عاديا بل ومستحسنا مستحبا ليس طريقا قصيرا أو سريعا لكنه يمر بدروب التوارث ومسالك التطبيع التدريجي مع ذلك الخطأ، ولقد ظهر ذلك جليا في آية من سورة الأعراف حيث سبق وصف القوم للفاحشة بأنها أمر من الله قولهم {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} .
لقد حدث التطبيع التدريجي مع الخطأ وتمت شرعنته وتسويغه بل وتزيينه ربما تطلب الأمر عقودا طويلة وأجيالا تلو أجيال حتى صار الخطأ في النهاية دينا يتدين به هؤلاء لدرجة أن قالوا عن الفاحشة بلا استحياء: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} .
هنا كان لابد من البيان القاطع { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} إن التطبيع والتصالح مع الخطأ وتوارثه الأعمى قد يؤدي في النهاية لتلك المصيبة أن تتحول الفاحشة إلى شيء جميل مستحسن ثم إلى طاعة وأصل وأن تنطمس حقيقة كونها في النهاية فاحشة.
يصير المبدأ بعد حين بصورة أو بأخرى هو أخرجوهم من قريتكم لماذا؟
ماذا فعلوا؟... ما الجرم الذي اقترفوه؟!... ما الخطيئة التي تلبسوا بها؟!...
{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} هكذا فقط؟!... يتطهرون!!
تلك هي مشكلتهم وهذه هي جريمتهم وذاك وحسب هو ما يُنقم عليهم ذلك هو المناط وتلك هي الحقيقة الواقعية المؤلمة حقيقة أن انقلاب المعايير وتحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق لابد أن يؤدي لهذه النتيجة في النهاية لا بد أن يؤدي إلى إخراج آل لوط من القرية، ومن كل قرية يُخَوَّن فيها الأمين ويُؤتَمَن فيها الخائن ويُكَذَّب فيها الصادق ويُصَدَّق فيها الكاذب وينطق الرويبضة.
والبداية تكمن في ذلك الخلل الذي تنقلب به الأمور رأسا على عقب خلل الفهم، وخلل المشاعر حتى الحزن والفرح يرتبطان بذلك الفهم في الحديث «المؤمن من سرَّته حسنته وساءته سيئته» ذلكم المؤمن أما المنافق فله شأن آخر تماما تسعده الموبقات، وتفرحه الخطايا والسقطات وتتحفه الذنوب والسيئات "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ".
بهذا فرح المنافقون، ولهذا ضحكوا ولم يبكوا! تخلفهم عن التضحية... تقاعسهم عن البذل ... قعودهم عن الطاعة.
لكن هل هذه حقا أسباب فرح؟! أو هكذا يتفاوت ميزان الفرح والحزن وتتباين معايير الضحك و البكاء هي كذلك لدى المنافق الذي انقلبت لديه الأصول واختلت المعايير لكن الأجدر بهم والأولى كان العكس تماما كان الأولى بهم البكاء على فوات الطاعة والحزن على التقصير هكذا قال ربنا: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
ضد ذلك هو ما فعلوه تأمل حالتهم المعكوسة في مقابل المؤمنين الطبيعيين المؤمنين الصادقين أولئك الذين أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم مشفقين وجلين وقد سمعوا أنه لن يخرج إلا من كان له دابة يركبها وظهر يسافر عليه هذا السفر الرهيب.
دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم خائفين أن يردهم عن أسمى أمانيهم التي يتوقون إليها ها هم يطلبون منه الظهر الذي يسافرون عليه مجاهدين في سبيل الله، لكن الجواب جاء علي غير ما يرغبون لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة التي لم يكن لأعينهم وقلوبهم الصافية طاقة بها، { لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} نزلت الكلمة على قلوبهم شديدة، وقد تزلزل كيان قد بلغ به الصدق مبلغه، كان قد تجهز لإحدى الحسنيين، فلما فوجئ أنه لن يتمكن اليوم من نيل هذا الشرف؛ تجمع كل سيل هذا الصدق والإخلاص والشوق، وصعد فياضًا إلى المآقى، ليتفجر أنهارًا من دموع الأسف؛ حارة، تخالط حرارتها نكهة الصدق وطعم الإيمان.
لقد رجع الصادقون المشتاقون، وأعينهم تفيض من الدمع، حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون. شتان شتان بين سلوكهم، وبين سلوك من سبقهم من المعذرين هؤلاء حزانى على حرمان الطاعة وأولئك يطربون ويفرحون للخلاص منها، هؤلاء صادقون نالوا أجر كل مسير يسار، وكل واد يقطع، بصدقهم وإخلاصهم، وأولئك أعقبوا نفاقًا في قلوبهم، بكذبهم وإخلافهم وعدهم مع ربهم.
والأدهى من كل ذلك؛ والأغرب من مجرد تفويتهم طاعة ربهم = فرحهم بذلك البوار والحرمان العظيم!
فمن ضحك لتخاذل وانبطاح، إلى بكاء لفوات بذل وتضحية وعطاء، وما بين هذا وذاك تتباين قلوب الناس.
ترى.. بأى شىء تفرح قلوبنا، و على أى شىء تتتحسر؟
من أى شىء تضحك، و على أى شىء تبكى؟
أيبكيها ما يُبكى الصادقين، أم يضحكها ما يضحك المسرفين؟!
هنا المحك ومربط الفرس... هنا المعيار والمسبار والمجس {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين}
شتان بين هؤلاء الصادقين بنياتهم مشفوعة بهمهم العالية، وإقدامهم المبكر الأمين، وحزنهم العميق علي فوات أسباب العمل الصالح عليهم، وبين أولئك المعذرين بتباطئهم وتكاسلهم الذي انبثق عن صريح نفاقهم، والذى ربما أسعدهم سعادة عارضة منقوصة لا يلبث أن أن يعقبها ندم العمر وخسران الدهر.
لكنه الجرب... جرب القلب... قلب المنافق