(17) الصدقة
محمود العشري
اعلم أخي أنَّ الصدقة في رمضان لها مَنْزلة خاصَّة، وهي من دواعي قبول الأعمال والعبادات، وأنت بحاجةٍ ماسَّة شديدة إلى نَفْعِها وأجرِها وظلِّها يوم القيامة، قال -تعالى-: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
الوسيلة الثالثة: الصَّدَقة:
أخي يا بن الإسلام، إن المال - لِمَن استعان به على طاعة الله، وأنفقه في سبيل الخيرات المقرِّبة إلى الله - سببٌ موصِّل له إلى الله تعالى، وهو - لِمَن أنفقه في المعاصي، واستعان به على أغراضه المحرَّمة، أو اشتغل به عن طاعة الله - سبب قاطعٌ له عن الله - عزَّ وجلَّ.
وقد امتدح الله المتصدِّقين المنفقين، فقال - سبحانه -: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وبشَّر الله -تعالى- المؤمنين بأنَّه سيُضاعِف لهم الحسنات، ويرفع لهم الدَّرجات، فقال -تعالى-: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح البخاري": «ما من يومٍ يُصبح العباد فيه إلاَّ ملَكان يَنْزِلان، فيقول أحدهما: اللَّهم أعط منفِقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسِكًا تلَفًا».
فيا بْنَ الإسلام، المال فتنة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني: «لكلِّ أمة فتنة، وفتنة أمَّتي المال»، ونحن في زمن الماديات، وصراع النَّاس على الكماليات، وهموم الناس الدَّنيئة التي خرَّبَت قلوبهم وعلاقتهم بربِّهم، في زمن التَّعاسة، قال -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري: «تعس عبد الدرهم والدينار».
في هذا الزَّمان الحرج يحتاج الإنسان إلى التخلُّص من ربقة المادِّية الطاغية، وذلك ببذل المال، قال -تعالى-: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال -تعالى- في الحديث القدسيِّ المتَّفِق عليه: «أنفق يا بن آدم يُنفَق عليك»، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في "الصحيحين": «اتَّقوا النار ولو بشِقِّ تمرة» وفي رواية: «مَن استطاع منكم أن يستَتِر من النار ولو بشقِّ تمرة، فليفعل»، وعند أحمد، وصححه الألباني في "صحيح ابن خزيمة" عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتَّى يُفصَل بين الناس»، أو قال: «يحكَم بين الناس»، وفي "صحيح مسلم" أيضًا: «الصَّدقة برهان»؛ أيْ: دليلٌ على حبِّ صاحبها لله.
فيا أخي يا بن الإسلام، ربِّ نفسك على الزُّهد في الدنيا؛ ألاَّ يكون للدنيا أيُّ قيمة في قلبك، فهي لا تُساوي عند الله جناحَ بعوضة، فلا تفرح بإقبالها، ولا تحزن على إدبارها، ولتستَوِ عندك الحالتان؛ لأنَّك عبدٌ للمعطي المانع، قال -تعالى-: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]، قيل للإمام أحمد: الرَّجلُ يملك ألف دينار ويكون زاهدًا؟ قال: نعم، قيل: كيف؟! قال: إذا لم يفرح إذا زادَتْ، ولَم يحزن إذا نقصَت.
واعلم أخي أنَّ الصدقة في رمضان لها مَنْزلة خاصَّة، وهي من دواعي قبول الأعمال والعبادات، وأنت بحاجةٍ ماسَّة شديدة إلى نَفْعِها وأجرِها وظلِّها يوم القيامة، قال -تعالى-: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقال -تعالى-: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وقال -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي وصححه الألباني: «ما نقَص مالُ عبدٍ مِن صدقة».
وفي "الصحيحين": «من تصدَّق بعِدْل تمرة مِن كَسْبٍ طيِّب - ولا يقبل الله إلا الطيِّب - فإنَّ الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل»، وروى الترمذي وحسَّنه عن أنس مرفوعًا: «إن الصدقة لَتُطفئ غضب الربِّ، وتدفع ميتة السُّوء»، وكما أنها تطفئ غضب الرب فهي تطفئ الذُّنوب والخطايا كما يطفئ الماء النَّار، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد: «إن ظلَّ المؤمن يوم القيامة صدقته».
فإذا كانت الصدقة من دواعي قبول الأعمال والعبادات، وأنت بحاجة ماسَّة شديدة إلى نَفْعِها وأجرها وظلِّها يوم القيامة، فلِمَ لا تجعل لله مقدارًا من الصدقة؟! ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولا بأس أن تنوِّعها؛ تارةً مالاً، وتارة طعامًا، وتارة لباسًا، وغير ذلك.
واعلم كذلك أن صدقة السرِّ أفضلُ من صدقة العلانية، قال -تعالى-: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
لذلك أنصحك - أخي يا بن الإسلام - ألاَّ يعلم عن صدَقتِك أحدٌ غيرك؛ فإنَّك بحاجةٍ إلى عمل السِّر بينك وبين الله؛ فكم من الأجر العظيم ينالك بهذا الفعل! فهذا العمل ينجي صاحبه على يُسْرِه؛ لما فيه من الإخلاص لله -تعالى- من أهوال وكُرَب يوم القيامة، فيُظِلُّ الله به صاحبه في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، ففي "الصحيحين": «سبعة يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله... ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها، حتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، فهل تفعل ذلك وتحرص على هذه العبادة العظيمة في السرِّ بينك وبين الله؟!
"كان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان، حين يلقاه جبريلُ فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الرِّيح المرسَلة"؛ كما في "الصحيحين"، ولأن الصدقة في رمضان إعانة على أداء فريضة الصَّوم، والصدقة في أوقات الحاجات أفضَلُ منها في غيرها.
فالعاقل مَن يُسابق في ميزان الخيرات، بما يقدِّمه من الصِّلة والإحسان لإخوانه الفقراء، الذين أناخ الفقرُ ببابهم، وعضَّهم البؤسُ بِنابِه، وأوجعهم بكِلابه، فلا مورد له، ولو رأيتهم لظننتَهم من الأغنياء وأهل الثَّروة والمال، والله أعلم بما يقاسون من الدُّيون؛ لِما تحت أيديهم من الصِّغار والكبار، وما يقاسون من آلام الجوع والفقر، والشدَّة والعسر، ولكن يمنعهم الحياء وعزَّة النفس أن يمدُّوا أيديهم للسؤال، وأن يطلبوا الرِّزق إلا من الله الرزَّاق الكبير المتعالي، فهؤلاء هم الذين ينبغي الاعتناء بهم، والبحث عن أحوالهم؛ وذلك عن طريق جيرانهم وأقربائهم، حتَّى تقع الصدقة في موقعها.
واعلم أن الأولويَّة في الصدقة للأقرباء، والجار، وطُلاَّب العلم؛ فالصدقة على ذي الرَّحِم أفضل منها على غيره؛ ولا سيَّما مع العداوة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحِم ثِنْتان؛ صدقة وصِلَة» وقال: «أفضل الصَّدقة على ذي الرَّحِم الكاشح»؛ رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
ثم الصَّدقة على الجار أفضل؛ لقوله -تعالى-: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، ولِحَديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُحْسِنْ إلى جاره» وحديث: «والله لا يؤمن»، قالوا: مَن يا سول الله؟ قال: « مَن بات شبعان وجارُه جائع وهو يعلم»، ويُستحَبُّ أن يخصَّ بالصدقة من اشتدَّت حاجته؛ لقوله -تعالى-: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15].
واعلم أيضًا أنَّ الصدقة على طالب العلم أفضل؛ لأنَّ في إعطائه إعانة على العلم ونَشْر الدِّين؛ وذلك لتقوية الشريعة، وكون الصَّدقة على صاحب دين أفضل، وكذا على ذي عائلة أفضل عمَّن ليس كذلك، فاحرص أخي أن تكفل طالبَ علم ينفعك الله به دنيا وأخرى.
آداب الصَّدقة:
اعلم - أخي يا بن الإسلام - أنَّ الصدقة - التي يُرجى ثوابُها والنَّجاة بها يوم القيامة - لها شروطٌ وآداب، منها:
1 - أن يُراد بها وجْهُ الله -تعالى- فلا تُعطى مكافأةً على معروف، أو يُرجَى بها المكافأة بمعروف، ولا يُبتغَى بها ثناءُ الناس ومدحهم، أو شكر المتصدَّق عليه وامتنانُه، ولذا كانت صدَقةُ السرِّ أفضلَ من صدقة العلانية.
قال -تعالى-: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21].
يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة في قوله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9]، ومَن طلب من الفقراء الدُّعاءَ أو الثناء، خرج من هذه الآية؛ ففي الحديث الذي في "سنن أبي داود": «من أسدى إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتَّى تعلموا أنكم قد كافأتموه».
ولهذا كانت عائشة - رضي الله عنها - إذا أرسلَتْ إلى قومٍ بهديَّة تقول للرسول: "اسْمَع ما دعَوْا به حتى ندعُوَ لهم بمِثْل ما دعَوا، ويبقى أجْرُنا على الله"، وقال بعض السَّلف: "إذا أعطيتَ المسكين فقال: باركَ الله عليك، فقل: بارك الله عليك"، أراد أنه إذا أثابك بالدُّعاء، فادْعُ له بمثل ذلك الدُّعاء؛ حتَّى لا تكون اعتَضْتَ منه شيئًا".
2 - ألاَّ تُبْطِلها بالمنِّ على من تصدَّقتَ عليه بها، وإيذائه بذلك، قال -تعالى-: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]، والمنُّ: أن تَذْكرها وتتحدَّث عنها، أو تستخدمه بعطائك، أو تتكبَّر عليه لأجل إعطائه، والأذى أن تُظْهِرها، أو تعيِّره بالفقر، أو تَنْهره، أو توبِّخه، كان بعض السلف يَبْسط كفَّه ليأخذ الفقير من كفِّه، وتكون يدُ الفقير هي العليا.
وفي حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - المرفوعِ الذي رواه مسلمٌ وأحمد وأصحاب السُّنن: «ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم الله يوم القيامة، ولا يَنظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم: المُسْبِل إزارَه، والمَنَّان الذي لا يُعطي شيئًا إلاَّ منَّهُ، والمُنَفِّق سلعتَه بالحلف الكاذب».
3 - أن تكون الصَّدقة من كَسْبٍ حلال طيِّب، لا حُرْمة فيه؛ فإنَّ الله -تعالى- طيِّب لا يقبل إلاَّ طيبًا، فعلى المتصدِّق أن ينتقي من ماله أفضلَه وأجوده؛ قال -تعالى-: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وروى مسلمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله طيِّب لا يَقْبل إلاَّ طيبًا»، قال ابن رجب: "والطيِّب هنا معناه الطَّاهر"، وفي "الصحيحين" عن أبي هُرَيرة مرفوعًا: «ما تصدَّق عبدٌ بصدقة من مالٍ طيِّب، ولا يقبل الله إلاَّ الطيب، إلاَّ أخذها الله بيمينه» الحديث، قال ابنُ رجَب: "وأما الصَّدقة بالمال الحرام، فغير مَقْبولة".
سُئل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عمَّن كان على عملٍ فكان يَظْلم ويأخذ الحرام، ثم تاب فهو يحجُّ ويعتق، ويتصدَّق منه؟ فقال: "إنَّ الخبيث لا يُكفِّر الخبيث"، وكذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الخبيث لا يكفِّر الخبيث، ولكن الطيِّب يكفِّر الخبيث"، وقال الحسَنُ: "أيُّها المتصدِّق على المسكين ترحمه: ارحم مَن قد ظلَمْت".
ومن كان تحت يده مالٌ من حرامٍ، فعليه إعادتُه لصاحبه أو لورثتِه إن مات، فإنْ تصدَّق بهذا المال الحرام يريد بذلك الصَّدقةَ عن نفسه به، فإنَّ هذه الصدقة منه غيرُ مقبولة، ولا يحصل لِمَن أُخِذ منه هذا المال بذلك أَجْرٌ؛ لعدم قصده ونيَّتِه.
أمَّا إن تصدَّق بالمال الحرام عن صاحب المال إذا عجز عن ردِّه إليه، أو إلى ورثته بعد مماته، فهذا جائزٌ عند أكثر العلماء؛ منهم: مالِك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم، كالتصدُّق باللُّقَطة بعد التعريف بها، وانقطاع صاحبها، وليس لهذا المتصدِّق بهذا المال الحرامِ عليه أجرٌ، ولكن يتخلَّص بذلك من عهدته، إنَّما هي صدَقةٌ عن مالكِه؛ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذَّر عليه الانتفاع به في الدُّنيا، وإن كنت أرى أن له أجرًا عظيمًا على سعيه في التخلُّص من الحرام؛ ابتغاءَ وجه الله -تعالى- فهذا عمَلٌ من الأعمال الجليلة، والله أعلم.
واحذر أن تقصد الخبيثَ فتتصدَّق به؛ لقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
4 - أن تَستصغِر العطيَّة؛ فإنَّك إن استعظمتَها أُعجِبت بها، والعُجْب من المُهلِكات، وهو محبِطٌ للأعمال، ويُقال: إنَّ الطاعة كلما استُصغِرَت عَظُمَت عند الله -تعالى- والمعصية كلَّما استُعظمت صَغُرت عند الله - تعالى.
5 - الإخلاص؛ فإن لم تكن مُخلِصًا تبتغي وجه الله -تعالى- فلا ثواب لك عنده؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": «إنَّ أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعَمه، فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنفَق فيها إلاَّ أَنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ لِيُقال: هو جوَاد، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار».
6 - أن تطلب بصدقتك مَن تَزْكو به الصَّدَقة من الأتقياء، أو أهل العلم، أو لِمَن كان مستتِرًا مُخفيًا حاجته لا يُكْثِر البثَّ والشكوى، أو يكون من الأقارب وذَوِي الأرحام، فتكون صدقةً وصلة رَحِم.
7 - إخفاء الصَّدقة - كلَّما أمكن - أفضلُ من إظهارها؛ قال -تعالى-: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة: 271].
8 - الإكثار من الصَّدَقة والمُداومة عليها؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": «والصَّدَقة برهان».
9 - تَخيَّرِ الأطيبَ والأفضل، وأحَبَّ ما تملِكُ، وتصدَّقْ به؛ فقد قال -تعالى-: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
10 - اجتناب الخبيث؛ تأدُّبًا مع الله -تعالى- وقد قال - سبحانه -: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].
11 - الاهتمام بالقبول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، فلْتتصدَّق، ولتكثر من الدُّعاء سائلاً الله -تعالى- القبول، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].
وأختم الكلام عن الصَّدقة بفِقْرة من كلام ابن الجوزيِّ - رحمه الله - وهي تستحقُّ - واللهِ - أن تُكتب بماء الذَّهب، قال ابن الجوزيِّ - رحمه الله -: "يَنبغي للإنسان أن يعرف شرفَ زمانِه، وقَدْرَ وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدِّم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيَّتُه في الخير قائمةً من غير فتور، فإذا علم الإنسانُ - وإن بالغ في الجدِّ - بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته؛ فإذا كان له شيءٌ في الدُّنيا وقَف وقفًا، وغرس غرسًا، وأجرى نهرًا، ويسعى في تحصيل ذُرِّية تَذْكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يصنِّف كتابًا في العلم؛ فإنَّ تصنيف العالِم ولَدُه المخلَّد، وأن يكون عاملاً بالخير عالِمًا فيه، فينتقل من فعله ما يقتدي به الغير، فذلك الذي لم يمت، والله أعلم".
الكاتب: محمود العشري.