الفتوى: آدابها، خطورة التجرؤ عليها
الذي يعرِّض نفسه للفتوى لا بد أن يعلم يقينًا أنه سيحاسب عن كلِّ ما يتكلم به، فإذا أفتى بغير علم، أو أفتى بخلاف ما هو صواب، لهوًى، أو لغرَضٍ، أو لتحقيق دنيا عاجلة - إنما يُقحِم نفسه في الويل والهلاك.
الفتوى هي الإبانة والتوضيح لِما هو مُبْهَم وغير واضح، وهي الإجابة عن التساؤل، وهي تُبَيِّن المشكل من الأحكام، والمفتي هو الذي يجيب الناس على أسئلتهم، ويبين لهم أحكام الله تعالى فيما يسألونه، والمستفتي هو طالبُ الفتوى مِن أهلها.
ولقد وردت كلمة الفتوى في كتاب الله تعالى في آيات، منها: قوله سبحانه وتعالى: {فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۢ} [الصافات: 11]، يعني: فاسأَلْهم سؤال تقرير، وقال جل جلاله: {يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ} [النساء: 176]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ} [النساء: 127]؛ أي: يسألونك سؤال تعلُّـم.
والمستفتي يسأل عن المسألة ليبرئ ساحةَ ذمته من المساءلة أمام الله تعالى فيما يريد الإقدامَ على فعله، حتى تطمئنَّ إليه نفسه، وما لم تطمئن إليه النفس من فتوى فلا ينبغي للمسلم أن يأخُذَ به، حتى يستشير ويستفتي ثانية،وقد يتهاون البعضُ في أمر الفتوى، فيتصدى لها مِن غير أن يكون على درايةٍ وعلم بما يفتي فيه، فيكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ؛ فالفتوى في الدين لا بد أن تكونَ صادرة من أهل العلم والاختصاص، الذين أمَرنا الله تعالى أن نرجع إليهم عند تعسُّر الوصول إلى المعرفة؛ قال الله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 43]، والمفتي موقِّع عن الله رب العالمين؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "... فطاعةُ اللهِ ورسوله، وتحليل ما أحله الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله - واجبٌ على الثَّقَلين الإنسِ والجن"، واجب على كل حال؛ سرًّا وعلانية، لكن لمَّا كان مِن الأحكام ما لا يعرفه كثيرٌ من الناس، رجع الناس في ذلك إلى من يعلِّمهم؛ لأنه أعلم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعلم بمراده، فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائلُ وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول، يبلِّغونهم ما قاله، ويفهِّمونهم مرادَه بحسَب اجتهادهم واستطاعتِهم.
خطر الفتوى:
علَّم الله تعالى نبيه أن يقول: {قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وورَد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن العلماءَ ورثةُ الأنبياء»، هذا الفضل وتلك المنزلة لم تأتِ مِن فراغ، ولكن لِما يتحمله العلماء من أمانة التبليغ عن الله ورسوله، والفتوى ركنٌ ركين من هذا البلاغ؛ ورَد في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أيها الناس، مَن سُئِلَ عن علم يعلَمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن مِن العلم أن يقول لِما لا يعلم: الله أعلم"، وقال الإمام محمد بن المنكدررحمه الله: "إن العالم بين الله تعالى وبين خَلْقه؛ فلينظُرْ كيف يدخل بينهم"، روى الدراميُّ في سننه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال في خطبته: "مَن علِم علمًا فليعلِّمْه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به، فيمرُقَ مِن الدِّين، ويكون من المتكلفين"، من هنا تكمن خطورة الفتوى؛ لذلك هاب الفتوى أكابرُ العلماء، على الرغم من علمهم الوفير، وعملهم بهذا العلم، ولم تدفعهم شهرتهم الواسعة إلى التجرؤ على الفتوى، فلا يتحرج أحدهم من قول: لا أدري إن كانت المسألة معضِلة، أو يؤخر الجواب إلى حين البحث عنها، روى الإمام ابن المبارك في الزهد بسند صحيح عن عبدالرحمن بن أبي ليلي قال: "أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أراه قال: في هذا المسجد- فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"، ورَوى بسند صحيح أن ابن عمرَ رضي الله عنهما سُئل عن شيء، فقال: "لا أدري"، ثم أتبعها، فقال: "أتريدون أن تجعَلوا ظهورنا لكم جسورًا في جهنَّم، أن تقولوا: أفتانا ابنُ عمرَ بهذا"، وهذا شأنُ أهل العلم والفضل المشهودِ لهم بالإمامة في العلم والدين، قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه: "ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون أنِّي أهل لذلك".
فالذي يعرِّض نفسه للفتوى لا بد أن يعلم يقينًا أنه سيحاسب عن كلِّ ما يتكلم به، فإذا أفتى بغير علم، أو أفتى بخلاف ما هو صواب، لهوًى، أو لغرَضٍ، أو لتحقيق دنيا عاجلة - إنما يُقحِم نفسه في الويل والهلاك.
فالإفتاء بغير علمٍ حرامٌ ومن الكبائر؛ لأنه يتضمنُّ الكذبَ على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناسِ؛ قال تعالى: {قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فقرَن سبحانه وتعالى القولَ على الله بغير علم بالفواحش والبغيِ والشِّرك.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبِضُ العلم انتزاعًا ينتزعه مِن العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناسُ رؤوسًا جهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا»، وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أُفتِيَ بغير علم، كان إثمُه على مَن أفتاه»، وقال ابن القيم رحمه الله: "مَن أفتى الناسَ وليس بأهلٍ للفتوى فهو آثِمٌ عاصٍ، ومَن أقرَّه مِن ولاة الأمور على ذلك فهو آثِمٌ أيضًا".
قال ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: "... ويلزمُ وليَّ الأمر منعُهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة مَن يدل الرَّكْب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القِبلة، وبمنزلة مَن لا معرفة له بالطب وهو يطُبُّ الناس، بل هو أسوأ حالًا مِن هؤلاء كلهم! وإذا تعين على وليِّ الأمر منعُ مَن لم يُحسِن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسُّنَّة ولم يتفقه في الدين؟"، وإنك لتعجَب كل العجب ممَّن يبحث عن الطبيب الحاذق ليعالجه، والمهندس الماهر ليرسم له ويخطط، والمحامي حاضر الذهن ليدافع عنه، أما إذا تعلق الأمر بالدين فالتساهل يكون سائدًا، وتتبُّع الرُّخَص يكون هو الغالبَ.
أ.د جعفر عبد السلام
الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية
- التصنيف: