العبادة ..!
يجب تصحيح مفهوم العبادة عند المسلم المعاصر، بأن العبادة هي وظيفتنا في الحياة الدنيا، وأنها يجب أن تشمل كل مناحي الحياة، وأن الإحسان هو مطلوب في كل شيء، في الشعائر، وفي تحصيل العلم المادي، واستخدامه لتطور المسلمين ورفعتهم بالعمل الصالح بمفهومه الصحيح الشامل، وفي الدعوة العملية إلى الإسلام.
يخطئ معظم مسلمي اليوم بالخلط بين العبادة بمفهومها العام وبين الشعائر التعبدية أو (العبادات)، فالعبادة هي وظيفة الإنسان التي يريدها الله له في هذا الكون، ولهذا فقد قال جل شأنه {وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ} [الذاريات: ٥٦].
وقال في موضع آخر: {قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ * لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ} [الأنعام: ١٦٢-١٦٣].
فالعبادة هي مرادف لحياة المسلم الحق، كل حياته، وهي مرادف لخلافته في الأرض، ولتلبية استعمار الله له هذا الكون.
الشعائر التعبدية:
أما الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج...، هذه الشعائر هي وقفات يقف فيها الإنسان ليتحول بكامل إرادته من مُخيَّر إلى مُسيَّر لإرادة الله، امتثالا وحبا، ورغبة ورهبة. ففيها يكون كل شيء توقيفي، نفعل مثلما أمرنا الله تماما، وذلك حتى نقول لله بلسان حالنا: ها نحن نشكرك يا ربنا على منحك إيانا حرية الإرادة، فنعود طواعية في مواطن معينة (وهي الشعائر) كالكون الجامد والملائكة: {وَلِلَّهِ يَسجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ مِن دابَّةٍ وَالمَلائِكَةُ وَهُم لا يَستَكبِرونَ * يَخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ} [النحل: ٤٩-٥٠].
نعود طواعية مسيرين كالكون الجامد والملائكة حتى ننطلق بعدها عابدين لك بحرية إرادتنا بإعمارنا الأرض وتحقيق استخلافك إيانا فيها.
وفي أثناء هذه الشعائر نستمد الطاقة، طاقة "تقوى الله": {يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ} [البقرة: ٢١].
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ} [البقرة: ١٨٣].
" تقوى الله" التي نغذي بها أرواحنا فتتحول بعد هضم قلوبنا وعقولنا لها إلى "ذكر الله" في كل شئون حياتنا، فنحيا في سياج من ذكرٍ لله بقلوبنا وعقولنا في أمور حياتنا كلها، سياج ينهانا عن كل ما لا يرضي الرب أثناء رحلة خلافتنا في الأرض وتلبيتنا لاستعمار الله لنا فيها.
{اتلُ ما أوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَ} [العنكبوت: ٤٥].
فذِكر الله هو النتيجة الطبيعية لتقوى الله التي نشحن بها أرواحنا في الشعائر التعبدية، وذلك حتى يصاحبنا ونصاحبه في كل حركة وسكنة في حيواتنا في هذا الكون.
فالغرض الأساسي إذًا من الشعائر ليس هو ذات الشعائر، بل هو ذكر الله المتولد تلقائيا عن تقوى الله، فمن غير المتصور أن تكون وظيفتنا في الكون هي القيام بالشعائر وحسب، بل وظيفتنا هي الخلافة في الأرض وإعمارها في ظل تقوى الله وذكره، ولهذا شُرعَت الشعائر التعبدية.
{وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً... } [البقرة: ٣٠].
{... هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها فَاستَغفِروهُ ثُمَّ توبوا إِلَيهِ إِنَّ رَبّي قَريبٌ مُجيبٌ} [هود: ٦١].
مغالطة خطيرة
وهي مغالطة التوهم بأن اتخاذ النية الصالحة في "العادات المباحات" هو أمر اختياري يحولها من عادات - لا إثم فيها ولا ثواب - إلى عبادة، وأن اتخاذ هذه النية هو أمر إضافي لا حرج من تركه!
وهذا يعارض النصوص القرآنية المحكمة مثل: {قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ * لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ} [الأنعام: ١٦٢-١٦٣]، وانتبه لـ "وبذلك أُمِرت".
وقوله تعالى: {اتلُ ما أوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَ} [العنكبوت: ٤٥].
فإن ذكر الله المستمر من الصلاة للصلاة ليس أمرا اختياريا، فالمسلم الحق هو من خلصت حياته لله ولم يفعل فعلا إلا إن كان المقصود به رضا الله. وإلا فإن كان ذكر الله قلبا وعقلا أمرا اختياريا لم يتحقق قوله تعالى "ولذكر الله أكبر" وكنا من الغافلين المقصرين التاركين لما هو "أكبر"، وكان أمرنا كالذي يشحن هاتفه المحمول خمس مرات يوميا ثم يغلقه ولا يستخدمه بين المرة والأخرى! فالغرض من شحن الهاتف هو استخدامه، وليس هو ذات الشحن!
ما ينبني على هذه المغالطة
وما ينبني على هذه المغالطة في فهم وظيفة الإنسان في هذه الكون وموقع الشعائر من هذه الوظيفة هو تركيز المسلم على الشعائر التعبدية وعدم الاكتراث الكافي - إلا على سبيل الزيادة والفضل اللذين لا يضر غيابهما - بالحياة ذاتها، عدم الاكتراث الكافي بصلب الخلافة في الأرض، بصلب العبادة التي هي الحياة بأسرها. وبناءً على هذا الخلل الخطير يكون المسلم قد أسقط الركن الثاني في الفلاح وهو "العمل الصالح"، والذي يقترن دائما بالركن الأول وهو الإيمان (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، أو على أقصى تقدير حصره في الشعائر التعبدية وفي الصدقات، وقصره عليهما، وفرَّغ مضمون الحياة نفسها من "العمل الصالح" الذي هو إتقان (إحسان) كل شيء في هذه الحياة من أجل تحقيق مهمة الخلافة في الأرض وإعمارها.
ففي الحديث «إن الله كتب الإحسان على كل شيء...».. الحديث، وفي الحديث «... أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك»، والعبادة بهذا المفهوم هي مراقبة الله في كل أحوال الحياة لإتقانها وإحسانها، وليس فقط في الشعائر.
وقصر مفهوم الإحسان على الشعائر هو كالمخدر الذي يتعاطاه مسلمو اليوم كي يعذرون أنفسهم في الخيبة في الميدان المادي، وهذا أعده سببا طبيعيا جدا لكل ما يعانيه المجتمع المسلم من ضعف مهين وقوة خائرة، فلا هو قد ربح الدنيا ولا هو قد ربح الآخرة.
الخلاصة:
يجب تصحيح مفهوم العبادة عند المسلم المعاصر، بأن العبادة هي وظيفتنا في الحياة الدنيا، وأنها يجب أن تشمل كل مناحي الحياة، وأن الإحسان هو مطلوب في كل شيء، في الشعائر، وفي تحصيل العلم المادي، واستخدامه لتطور المسلمين ورفعتهم بالعمل الصالح بمفهومه الصحيح الشامل، وفي الدعوة العملية إلى الإسلام.
ويجب التركيز على أن كلا من النية الصالحة والوجهة الصالحة والكيفية الصالحة في كل أعمال الحياة ليسوا أمورا اختياريا بل هم صلب العبادة ومضمونها الأصيل.
وأخيرا أذكر بالقانون العمري الخالد "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
و"غيره" ليس كما يفهم الكثير هو ترك الإسلام فقط، بل هو أيضا فهم الإسلام ومفهايمه الجوهرية فهما مغلوطا أو منقوصا أو كليهما.
- التصنيف: