من معالم التربية النبوية (4)
العبد إذا قام في الصلاة، غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه»
4- تنويع السور والأذكار والأدعية في الصلاة
وهذا كفيل بأن يذهب الملل الحاصل من آلية التكرار، ولا يجعل الصلاة عملا روتينيا يكرر بدون فهم ولا تدبر، ويجدد المعاني في قلب المصلي، وهو أكمل للخشوع، والسنة النبوية المطهرة حافلة بالعديد من الأذكار والأدعية المتنوعة التي تعين على ذلك.
5- غلق مداخل الشيطان وصد وسوسته
يقول في ذلك العلامة ابن القيم: "فالعبد إذا قام في الصلاة، غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها" (58)
وهناك العديد من التوجيهات النبوية التي تدحض كيد الشيطان ووسوسته لمن وفقه الله تعالى وعمل بها فعن أبي العاص -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا» قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. (59)
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن أحدكم إذا قام يصلي، جاء الشيطان فلبس عليه [أي خلط عليه صلاته وشككه فيها] حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس» (60)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يخيل إليه في صلاته أنه أحدث ولم يحدث؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرفن حتى يسمع صوت ذلك بأذنه، أو يجد ريح ذلك بأنفه» (61)
وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا
لأن من استغنى بالله لم يخف العدم.. يقول ابن القيم في تقرير قاعدة أن التعلق بغير الله من أعظم مفسدات القلب:
"فليس عليه أضر من ذلك ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله، وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصودة من الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81-82] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [يس:74- 75] فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت، وبالجملة فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، ولصاحبه الذم والخذلان". (62)
وقال أبو حاتم: أشرف المنى، ترك الطمع إلى الناس، إذ لا غنى لذي طمع، وتارك الطمع يجمع به غاية الشرف، فطوبى لمن كان شعار قلبه الورع، ولم يعم بصره الطمع، ومن أحب أن يكون حرا فلا يهوى ما ليس له، لأن الطمع فقر، كما أن اليأس غنى، ومن طمع ذل وخضع، كما أن من قنع عف واستغنى. (63)
وإياك وما يعتذر منه
فهذا أصل عظيم في حفظ المروءة، وأصل المروءة فعولة من لفظ (المرء) كالفتوة من الفتى، والإنسانية من الإنسان، ولهذا كانت حقيقتها: اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم والشيطان الرجيم.
فالمروءة هي: مراعاة الأحوال أن تكون على أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق.
وقيل فيها أيضا: هي استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح. (64)
والمروءة سجية جبلت عليها النفوس الزكية، وشيمة طبعت عليها الهمم العلية، وضعفت عنها الطباع الدنية، فلم تطق حمل أشراطها السنية، وقد قيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطت من القرآن كل شيء فأين المروءة فيه؟ فقال في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ففيه المروءة وحسن الأدب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرفق بالمؤمنين وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله تعالى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والفعال الرشيدة.
وقال جعفر بن محمد: لا دين لمن لا مروءة له.
وقال رجل للأحنف بن قيس: دلني على المروءة؟ فقال: عليك بالخلق الفسيح، والكف عن القبيح.(65)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(59) رواه مسلم برقم 2203
(60) رواه البخاري كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع
(61) رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 11556 (ج11ص222) وقال في مجمع الزوائد (1/242): رجاله رجال الصحيح
(62) مدارج السالكين ج1 ص 492 / طبعة دار الحديث / القاهرة
(63) المصدر السابق ص252 ج3
(64) مدارج السالكين / ابن القيم / دار الحديث – القاهرة ج2 ص 366
(65) صلاح الأمة في علو الهمة، د/ سيد العفاني / مؤسسة الرسالة ج5 ص308
- التصنيف: