حلقات التحفيظ وما لم يكن في الحسبان (2)
محمد جلال القصاص
سيصدم من يتأمل الواقع حين يعلم أن عامة المهتمين بالقرآن الكريم ليسوا من الصحوة الإسلامية بل من عامة الناس.
ثالثها: ضعف الأدوات المعرفية والمادية: فلا يوجد تخطيط لرؤية ممتدة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ ولا يوجد وعي بالظواهر الاجتماعية
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
في المقال السابق (الزوجة والأبناء وما لم يكن في الحسبان) رصدٌ لظاهرة دعوية مفادها توقف البيت عن آداء دوره التربوي والتعليمي، ومحاولةٌ للبحث عن بيئة دعوية مناسبة لإعداد الزوجة لتعليم الأبناء وتربيتهم إحياءً لدور البيت في تعليم الأبناء؛ وفي المقال السابق أننا نزلنا ساحة السلفيين ولم نجد فيها بغيتنا، فانتقلنا لرياض القرآن الكريم العطرة (حلقات التحفيظ). وعملًا بما أوصانا الله به في كتابه من النظر والتفكر فيما نمر به أو يمر بنا، كنت أسجل الملاحظات وأعيد النظر فيها مرة بعد مرة؛ وهذا نتاج تأملي في ظاهرة التحفيظ لقرابة عقد ونصف من الزمن:
حفظ القرآن الكريم وتحفيظه عمل تخصصي، بمعنى أنه فعل فئة من الناس، وليس كل الناس، ولم يكن كل الصحابة والتابعين حفاظًا ومحفظين للقرآن الكريم، ولن يكون كل الناس حفاظًا ومعلمين للقرآن الكريم، ولذا جعل الله التزكية على التلاوة لا على الحفظ، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164] وما يحدث عمليًا هو أن فئة معينة من الناس يمن الله عليها بتعلم القرآن وتعليمه، وغيرهم فريقان: فريق يأوي إليهم ويتعلم تعليمًا مجملًا.. يحسِّن تلاوته ويحفظ بعضًا من كتاب الله؛ وفريق ربما لا يسمع بهم أو لا يهتم بحالهم أو يسمع بهم ولا يهتم. وهكذا الناس في كل مجال: تجدهم ثلاثة: مختصون، ومثقفون في هذا المجال، وغافلون عنه.
وحين تنظر من زاوية الفرد لا الموضوع تجد ذات الشيء: تجد أن كل إنسانٍ يحسن شيئًا -أحبه أم لم يحبه-، ومثقف في شيئين أو ثلاثة ربما، وغافل عن أشياءكثيرة لايهتم بها إلا حين تطفوا على السطح أو يلجأ إليها مضطرًا.
وتحفيظ القرآن الكريم وتجويده عمل مستقل من أول يوم، فالقراء مميزون منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم. والآن وحين تحاول النظر لتحفيظ القرآن الكريم .. حين تنظر للحفظة ومن يحاول أن يحفظ تجد أنك أمام ظاهرة تحتضر، أو على الأقل لا تنمو بشكل جيد يتناسب مع الإمكانات والدوافع والحاجات. ويقف وراء بطئ نموها عدد من الأسباب:
أولها: إهمال الدولة للحفاظ، فكلية القرآن الكريم لا يلتحق بها المتفوقون، مع احترامي الشديد لكل من أقبل على كتاب الله. فمع صعوبة القراءات وصعوبة استيعاب القواعد النظرية والتطبيق العملي إلا أننا نجد الدولة توجه للحفظ والتحفيظ من لم يرزق اهتمامًا بطلب العلم. وهذا حالهم مع الظاهرة الدينية كلها. يوجهون إليها من لا يعرفون برغبة في طلب العلم ولا يظهرون تميزًا في معالجة مسائل العلم وقضاياه، ولذا تراجعت الظاهرة الدينية الرسمية وخف وزنها بين الناس. وفي ذات الوقت يدفع بالنابهين والجادين للمجالات الخدمية التي لا تحدث تطويرًا في المجتمع. بل تخرج تجارًا في الأعم الأغلب.
وفي السنوات الأخيرة ظهر تضيق رسمي آخر على الحفاظ وذلك بعدم إعطاء تراخيص لدور التحفيظ والتقليل من نشاط المعاهد المختصة بالقراءات.
ثانيها: فقدان التخصص، وأعني هنا عمق التخصص. والأدعياء كثر، والمختصون فعلًا قليلون جدًا. المتقنون للحفظ وللتجويد وللقراءات جمعًا وإفرادًا قليلون جدًا ولا يصلحون –لقلة عددهم- لتطوير الظاهرة؛ وهنا سؤال: أين الصحوة الإسلامية من تطوير ظاهرة الحفظ؟، أين هي والصحويون لا ينفكون يدعون الاهتمام بالمرأة وتربيتها؟، وهم يعلمون أن تحفيظ القرآن للأبناء أساسه البيت والأم بالتحديد؟
الواقع أن العلمانية خيمت على الجميع، وليس ثمة من يفكر في المرأة ككيان مستقل له ما يناسبه (كما سبق في المقال السابق.. ذات الملاحظة تتكرر).
وأدعو من يعترض على هذه الملاحظة أن ينظر حواليه ويسأل: هل ثمة حافظات .. متقنات للتجويد نظريًا وعمليًا فضلًا عن القراءات؟، ثم يسأل نفسه ثانية: هل هن من أبناء الصحوة أم من العوام؟
وأنا أحسِبها هكذا: أقول: كم نمتلك ساعة يوميًا؟، وكم ننفق منها فيما ينفع؟
والإجابة: الهدر كثير!!..
كأننا نلعب!!
سيصدم من يتأمل الواقع حين يعلم أن عامة المهتمين بالقرآن الكريم ليسوا من الصحوة الإسلامية بل من عامة الناس.
ثالثها: ضعف الأدوات المعرفية والمادية: فلا يوجد تخطيط لرؤية ممتدة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ ولا يوجد وعي بالظواهر الاجتماعية: نشأتها وتفاعلها وتطورها. والنقص في الأدوات المادية حاد جدًا. يُنفق على الفقراء والمساكين ممن يكرهون الصحوة وأهلها ويعينون عليهم ولا ينفق على القرآن وأهله، مع أن انتاج فرد قرآني وتوطين القرآن في المجتمع من أسباب البركة والسعة، فالله سبحان وتعالى وصف القرآن في ثلاثة مواضع من كتابه بأنه مبارك؛ فإن كان ولا بد فلتكن النفقة لقاء التعلم، وهو كلام الله لا متونًا حزبية. والمطلوب وقف وليس نفقة تتيسر اليوم وتنقطع غدًا، والمطلوب أبنية ومؤسسات لا دور صغيرة يتحكم فيه متعصب متشنج أو قليل الفهم يثير الأحقاد بين المعلمين والمتعلمين وينحدر بالعمل ولا يصعد.
رابعها: أن الناس يتحركون في الغالب تبعًا للرائج المشهور، لا لسد الثغور وإكمال ما قد نقص. والرائج في هذه الأيام لما يسمى بالنشاط الدعوي والحركي، أو بالأحرى يتابعون الأحداث!!.. سكر معلوماتي يمارس على الأكثرية بأدوات السوشيال ميديا والهواتف ... يجلس وتجلس على الفيس وأخواته بالساعات الطوال وحولهم أبناءهم لا يقرءون ولا يكتبون..!!
دعنا نكمل المسير ..
رحلة الأبناء القصيرة:
أتم الله لولدي البكر (جلال) حفظ القرآن الكريم وتجويده.. أتقن الحفظ وأتقن التجويد وهو لم يتجاوز السادسة.. قبل دخوله العام الدراسي الأول، وكُرِّم في مسابقة جادة (فاز بالمركز الثاني بفارق 0.5% عن الأول)، وتكريمه منشور فيديو على الشبكة، وله حلقة تلفزيونية بعد ذلك؛ ثم جاءت سارة بعده بعام وأتم الله لها الحفظ والتجويد وهي في الصف الأول الابتدائي، ثم جاءت مريم وأتم الله لها الحفظ والتجويد وهي لم تتجاوز السابعة، وعائشة على إثرهم إن شاء الله. ثم جاء سؤال: ماذا بعد؟، ماذا علي البيت أن يفعل بعد تحفيظهم القرآن وتعليمهم الآداب العامة؟، ماذا على الأم أن تفعل بعد أن فرغت فيهم ما تعلمته لهم؟، ماذا على الأب والأم وقد بدأ الأبناء يخرجون للشارع بما فيه؟!
ما لم يكن في الحسبان.. وظهر الجاني الحقيقي!!
توقف دور البيت أو لم يعد البيت وحده هو المؤثر. لم يعد باستطاعة البيت أن يفعل أكثر من مراجعة الحفظ، ومراقبة السلوك، وتلقين الآداب العامة؛ ومناقشة ما يطرح من أسئلة، وهذه من مهام الأب في الغالب.
اضطررنا لتسليم أبنائنا لمنظومة التعليم التي يعلم الجميع أنها فاشلة: لا تتقن التعليم ولا التربية. اضطررنا لدخول أتون العلمانية. أخذت أبناءنا رغمًا عنا. تضيع أموالنا وأوقات أبنائنا دون ثمرة حقيقية!!
وبدأ التفكير في محاولة للتغلب على هذه العقبة، ورحت أفتش في نواحيها عن بديل، أو عن وسيلة للتغلب على هذه العقبة!!
والبدائل المطروحة في الساحة تتمثل في: المدارس الخاصة، وخاصة "الإسلامي منها"، والتعليم من المنزل.
وفي المقال القادم أناقش هذه البدائل إن شاء الله.
محمد جلال القصاص
20 نوفمبر 2017