أسامة بن لادن.. الطلقة الأخيرة
أمير سعيد
لقد فقد التنظيم شخصية كاريزمية لها حضورها بين أنصارها، ولها بريقها
لدى عاشقي القتال وفقاً لتلك الأيديولوجية الحاكمة لفكر القاعدة، ولها
رمزيتها عند المتعلقين بنموذج الثري الزاهد في متاع الدنيا، الذي هجر
القصور وسكن الكهوف والأحراش...
- التصنيفات: فقه الجهاد -
عندما ضيّق الخناق على زعيم القاعدة أسامة بن لادن قبل عشر سنين،
تمكن الرجل من الإفلات من الوقوع في قبضة الأمريكيين، لكن حينما كادت
الأخبار أن تنساه، فاجأ الرئيس الأمريكي العالم بالإعلان عن
مقتله.
وطول الفارق الزمني بين بدء الحملة الأمريكية لاعتقال أو اغتيال بن
لادن، والنجاح في تحقيق ذلك، هو ذاته الطول ما بين فرق ردة الفعل
الكبيرة التي كانت متوقعة آنذاك، وتلك التي ستكشف عنها الأيام والشهور
القادمة؛ إذ لاشك أن مقتل بن لادن لو كان قد حصل مع بداية الحملة
الأمريكية ضد "الإرهاب" والتي استباح بذريعتها احتلال أكثر من بلد
إسلامي كانت ردة فعل عظيمة ستنجم عنه، لاسيما عندما كانت أفكار بن
لادن لها بريقها لدى قطاعات من الشباب المندفع باتجاه رفض هيمنة الغرب
على الحوض الإسلامي وكان يرفدها اتجاه التنظيم أكثر إلى القوى الغربية
قبل انكفائه إلى الداخل الإسلامي وتسليطه أدواته القتالية والتفجيرية
داخل البلدان الإسلامي، ما خصم من رصيده الشعبي كثيراً لاسيما في
الخليج العربي واليمن، بخلافها الآن، حيث قد لا يتصور قدرة عالية
للتنظيم على تنفيذ عمليات ثأرية على نحو يمكنه أن يمثل ضغطاً أمنياً
واستراتيجياً هائلاً على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
لكن من دون استباق الأحداث؛ فإن ما يفرض نفسه الآن على النقاش هو
مستقبل هذا التنظيم، وقدرته على بناء ذاته بعد غياب الرمز الأكبر له،
وعن مدى قدرة خليفة بن لادن الذي يتوقع كثيرون أن يكون هو أيمن
الظواهري الزعيم الثاني للقاعدة والأكثر راديكالية من سلفه على ملء
الفراغ الناجم عن غيابه، والذي يعتقد أنه سيعمل على ترك انطباع لدى
مؤيديه أن القاعدة ستظل باقية ولن يقصمها مقتل زعيم ولو كان بكاريزما
بن لادن عند أتباعه.
والذي يسبق أي افتراضات حول مستقبل هذا التنظيم، هو الحديث عن ماضيه
القريب، والإجابة عن تساؤل يتعلق بمصير بن لادن وما إذا كانت الولايات
المتحدة قد عثرت للتو على بن لادن أو أنها على علم مسبق بوجود زعيم
القاعدة داخل باكستان وبالقرب من عاصمتها الحصينة "استخبارياً"، وأنها
اختارت التوقيت الذي تصفي فيه الرجل بناء على معطيات استخبارية ليست
جديدة قدمتها إسلام آباد إليها.
والحق أن المتنازعين في رسم صورة لزعيم القاعدة سينقسمون بالتبعية
عند تناول مسألة اغتياله؛ فالذين يعتبرونه بطلهم الأول سيرون أن مقتله
كان تتويجاً لجهاده، وسيحاكون تعلق أتباع الزرقاوي أو جيفارا اليساري
والاسلامبولي في الماضي بهم بعد موتهم، وأنه حصل حالما تمكنت واشنطن
من معرفة مكانه، وأن تعاوناً استخبارياً باكستانياً قد أفضى إلى كشف
مخبئه.
والذين يتصورون أن الرجل كان من حيث لا يدري ينفذ سياسة تريد
الولايات المتحدة تحقيقها، ويجسد عدواً تتغذى على وجوده مطامع
الولايات المتحدة في أكثر من موقع استراتيجي حول العالم، سيسوقون
لنظرية انتهاء دوره، وضرورة تصفيته في النهاية بعد أن حاولت تبرير
واشنطن تدخلها في شؤون الدول الإسلامية عبر استراتيجية المحافظين
الجدد تحت طائلة مكافحة الإرهاب الذي يمثله بن لادن، وسيفترضون معرفة
الولايات المتحدة وباكستان بمكان وجود بن لادن منذ وقت ليس بالقصير،
ولربما افترضوا أن بن لادن كان بالفعل في قبضة الباكستانيين منذ فترة،
وأنه قد جرى استجوابه من قبل، وسيحاجون خصومهم بالتساؤل عن تفضيل قتل
بن لادن بدلاً من اعتقاله بالنظر إلى قلة عدد الكوماندوز الذي نفذ
مهمة تصفيته، والتغاضي عن تخديره واعتقاله.
غير أن كليهما ربما سيتفق على ضعف التنظيم في الوقت الحالي إلى الحد
الذي يطمئن الولايات المتحدة الأمريكية إلى صعوبة استرداد التنظيم
لزخمه الإعلامي، وقوته القتالية، واندفاعه الأيديولوجي، لاسيما بعد أن
وضعت الثورات العربية في نسختها السلمية فصلاً متأخراً إن لم يكن
أخيراً لتنظيم القاعدة.
لقد فقد التنظيم شخصية كاريزمية لها حضورها بين أنصارها، ولها بريقها
لدى عاشقي القتال وفقاً لتلك الأيديولوجية الحاكمة لفكر القاعدة، ولها
رمزيتها عند المتعلقين بنموذج الثري الزاهد في متاع الدنيا، الذي هجر
القصور وسكن الكهوف والأحراش، وله حضوره وجماهيريته بين القطاعات
القبلية سواء في اليمن أو الصومال أو الأردن أو الجزائر وحتى شعبيته
التالية في بلدان خليجية برغم تآكلها خلال السنوات القليلة الماضية..
ومن العسير على خليفته، لا بل ربما خلفائه التاليين، على ملء فراغ
غيابه، لاسيما إذا ما تولوا القيادة في أحلك ظرف تمر به
القاعدة.
وفي حال سارت الأمور بهذا الاتجاه، فنحن إذن على أعتاب مرحلة جديدة
فيما يخص مستقبل الصراع في أفغانستان، وتزايد احتمالات إنضاج تسوية ما
داخلها، وانسحاب متوقع من أفغانستان التي تورطت فيها الولايات المتحدة
بعملها العسكري الطائش وباهظ الثمن في هذا البلد العنيد، واستراتيجية
أمريكية جديدة قد تكون تشكلت قبل مقتل بن لادن، وشروع في سياسة انكفاء
وتراجع عسكري أمريكي خارجي، يبرر له غياب بن لادن الذي تذرعت واشنطن
بحياته لتعيث في العالم فساداً، وستتذرع بغيابه لسحب جيشها من
أفغانستان "مرفوع الرأس"، بدلاً من أن تلاحقه خيبة الهزيمة الفادحة
على أيدي حلفاء بن لادن/طالبان، فكانت تصفية الرجل شرطاً لمباشرة
تراجع عسكري لإنقاذ ما تبقى من اقتصاد أمريكا..
29/5/1432 هـ