نعم المصلى (23) صور قرآنية مشرقة لأسر مقدسية
أيمن الشعبان
إن دور الأسرة كبير جدا في غرس محبة المسجد الأقصى في نفوس الأطفال، ولابد من تشويقهم وتحبيبهم بمقدساتنا وترغيبهم في التعلق الإيماني بها واستذكارها دائما، لا سيما تلك المغتصبة في فلسطين.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة - قضايا إسلامية -
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س23/ كيف نربي أبنائنا على حب الأقصى؟؟
هذا سؤال مهم للغاية، وقد مر بنا كيف أسس إبراهيم عليه السلام مع بنيه مجتمعا قائما على توحيد الله، في تلك الأرض المباركة وتوارثوا الوصية بتحقيق العبودية لله عز وجل على ثرى تلك البقعة المقدسة، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.[1]
وحتى نجيب على هذا السؤال ونصل إلى إجابة عملية حقيقية، تؤسس لجيل محب لهذا المسجد ومرتبط به ارتباط عقدي إيماني، سنذكر صورتين مشرقتين قرآنيتين لأسرتين كريمتين مقدسيتين بينهما مصاهرة.
الأسرة الأولى: أسرة عمران من الأسر الكريمة الشريفة الصالحة في المجتمع المقدسي، وامرأة عمران سألت الله عز وجل الولد بعد تقدم العمر بها، فاستجاب الله لها وبمجرد أن استشعرت بالحمل، تمنت أن يكون ذكرا للقيام بخدمة بيت المقدس فنذرته خالصا محررا، وكان ذلك سائدا عندهم.
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.[2]
كانت المفاجئة أن المولود الذي رزقته أنثى، وهي لا تصلح ولا تقوى لما نذرت، ولكن لما صدقت وأخلصت نيتها وتحملت المسؤولية تجاه البيت المقدس تقبلها الله، وكانت سيدة نساء العالمين، من العابدات القانتات المخبتات الصدِّيقات، هي مريم عليها السلام.
الأسرة الثانية: أسرة زكريا عليه السلام التي لها مصاهرة مع أسرة عمران، وبينما تقدم به العمر وكانت امرأته عاقرا اشتاق للذرية، لتبقى ديمومة رعاية بيت المقدس واستمرار الجيل المؤمن وتحقيق العبودية فيه، فلنتأمل كيف قص الله علينا تلك القصة الجميلة والمواقف العظيمة.
قال سبحانه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[3]، فأخلص لله الدعاء في طلب الذرية وتذلل وافتقر بين يدي الله، مع يقين كامل وإيمان صادق بالإجابة.
ثم يظهر عليه السلام ويفصح عن غايته وهدفه من طلب الذرية في تلك البقعة المباركة، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[4].
لديه نظرة مستقبلية من باب تحمل المسؤولية وحرصه على استمرار جيل الإيمان والصلاح والتقوى، لعمارة تلك الأرض والبيت المعظم على أتم وجه، وقيد صفات تلك الذرية بالولاية والصلاح ورسم له ملامح الطريق، بالسير على ما كان عليه أسلافه من آل يعقوب.
ثم تأتي البشارة من رب العزة على لسان الملائكة، في المكان الذي كان يتعبد به زكريا عليه السلام في المحراب، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}[5].
لما صدق وأحسن القصد والنية، رزقه الله غلاما وامتن عليه بالعديد من الخصال والصفات، {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }[6].
ومن مآثر يحيى عليه السلام كما ثبت في الحديث الصحيح، أنه قام خطيبا في بيت المقدس وجمع بني إسرائيل حتى امتلأ المسجد فقال: إنَّ اللهَ أمرني بخمسِ كلماتٍ أن أعملَ بهنَّ وآمُرَكم أن تعملوا بهنَّ وأولُهنَّ أن تعبدوا اللهَ لا تشركوا به شيئًا، وأمرهم بالصلاة والصيام والصدقة وذكر الله.
إن دور الأسرة كبير جدا في غرس محبة المسجد الأقصى في نفوس الأطفال، ولابد من تشويقهم وتحبيبهم بمقدساتنا وترغيبهم في التعلق الإيماني بها واستذكارها دائما، لا سيما تلك المغتصبة في فلسطين.
من الأهمية بمكان استثمار وسائل التواصل والتقنيات والتطور التكنولوجي، في غرس محبة الأقصى في قلوب الأطفال، لبناء جيل مرتبط بقضايا الأمة غير مفصول عنها.
ولا نكتفي بدور الوالدين والأسرة، بل للمسجد دور والمدرسة والمؤسسات التعليمية ومراكز التحفيظ، والمؤسسات الإعلامية سيما التي تستهدف فئات الأطفال والشباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (البقرة:131-133).
[2] (آل عمران:35-37).
[3] (مريم:2-4).
[4] (مريم:5-6).
[5] (آل عمران:38-39).
[6] (مريم:12-15).