العلم وراحة النفس
ربيع عبد الرؤوف الزواوي
تاريخ علماء المسلمين مملوء بحكايات بعدهم عن طلب الدنيا بالعلم أو الدين، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى عصور متأخرة، وذلك بصورة مشرفة وتدعو للفخر والإعجاب.
- التصنيفات: التصنيف العام - طلب العلم - الإسلام والعلم -
حرص العلماء على مر التاريخ أن يبتعدوا عن السلطان خوفا على علمهم، وصونا له من ضياع هيبته، مع أنهم أحيانا يكونون أحوج ما يكون للمال، بل ربما يكونون أحوج إليه من عامة الناس لكثرة ما يصلحون به بين الناس ويذللون به صعاب الحياة على العامة الذين يلتفون حولهم ويتعلقون بهم، أو على طلبة العلم المنقطعين للطلب.
وتاريخ علماء المسلمين مملوء بحكايات بعدهم عن طلب الدنيا بالعلم أو الدين، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى عصور متأخرة، وذلك بصورة مشرفة وتدعو للفخر والإعجاب.
وقد نقل لنا العلماء المتأخرين قبسا من ذلك ليدللوا على طلبهم لراحة النفس في هذه الدنيا، وصَونا لها عن دنيا الأمور، مع تحملهم لنكد الحياة، وشظف العيش؛ ونحن نختار نماذج من هؤلاء كأبي حيان التوحيدي الذي يقول عن نفسه في رسالته للقاضي أبي سهل: (إني جمعت الكتب أكثرها للناس، وطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله، ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضرة في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، إلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلبه الألم).
كما يحكي عن أبي بكر القومسي بقوله: (ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغت مني؛ إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلدا أملس…. فقلت له: لو قصدت ابن العميد وابن عبّاد عسى أن تكون من جملة من ينفقان عليهم، وتحظى لديهما. فأجابني بكلام منه: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس! والصبر على الوخم الوبيل أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل…. فقلت له: ما أعرف لك شريكا فيما أنت عليه وتتقلب فيه وتقاسيه سواي… لقد تمكن مني نكد الزمان!).
ويقول: (متى وجدت عالما وجدته خفيف المال، ومتى وجدت موسرا وجدته خفيف البصيرة)، ويقول: (سألني أحد الفلاسفة وقد سمعني أشكو الحال: يا هذا أنت قليل الملك كثير الرزق، وكم من كثير الملك قليل الرزق، فاحمد الله عز وجل)، ويقول: (إن جرعة الحرمان أمر من جرعة الثكل وضياع التأميل أمضى من الموت، وخدمة من لم يجعله الله لها أهلا أشد من الفقر، وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمة والتجاوز والصفح، والجود النائل، وصلة العيش، وبذل مادة الحياة، وما يصاب به روح الكفاية، وحرمان المؤمل من الرئيس ككفران النعمة من التابع)، ويقول على لسان أهل السلطان في لؤمهم وإذلالهم للمتقربين منهم: (… يا بني الرجاء ابعدوا عنا، ويا أصحاب الأمل اقطعوا أطماعكم عن خيرنا وميرنا، وأحمرنا وأصفرنا، ووفّروا علينا أموالنا، فلسنا، نرتاح لنثركم ولا نظمكم، ولا نعتد بملازمتكم لمجالسنا، وترددكم على أبوابنا ولا نهش لمدحكم وثنائكم، ومن فعل ما زجرناه عنه، ثم ندم فلا يلومن إلا نفسه، وإن منكم من طمع في مؤائدنا يجب أن يصبر على أوابدنا، ومن رغب في فوائدنا نشب في مكايدنا، فأما إذا استخدمونا في مجالسهم بوصف محاسنهم وستر مساويهم… فإن في توفية العمال أجورهم قوام الدنيا… فإن العطاء اولى من المنع والتنويل أولى من الحرمان).
ويقول عن تجربته الشخصية: (والعامة تقول: من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب… ولعمري لو انقلبت عن ابن عبّاد بعد قصدي له من مدينة السلام، وإناختي بفنائه مع شدة العدم والحاجة المزعجة عن الوطن، وصفر الكف عما يصان به الوجه، وبعد ترددي إلى بابه في غمار الطامعين الراجين، وطلبا للجدوى منه، والجاه عنده والضرع والتملق… ببعض ما فارقت من أجله الأعزة، وهجرت بسببه الإخوان، وطويت له المهام والبلاد… وعلى جزء مما كان الطمع يدندن حوله… لكنت لإحسانه من الشاكرين ولإساءته من الساترين… لكنني ابتليت به.. وابتلي بي.. حرمني فازدريته، وحقرني فأخزيته.. ولئن كان منعني ماله الذي لم يبق له، فما حظر على عرضه الذي بقى بعده… ولئن كان ظن أن ما يصير إلي من ماله ضائع، إني لأتيقن الآن أن ما يصل بعرضه من قولي شائع، والشاعر يقول:
فإن تمنعوا ما بأيديكم فلن تمنعونا إذن أن نقولا
… وأجهل الناس في ارتفاع منزلته، من ظن أن عرضه في خفارة قدرته، وأن المقدم عليه متعرض لنكيره، وخير من هذا الظن أن يحتمل ألم مفارقة المال ببعض الميسور حتى لا يقرف بشيء لا غاسل له، ولا نافخ عنه…. ولهذا بكت العرب من وقع الهجاء كما تبكي الثكلى من النساء وذلك لشرف نفوسها ونزاهتها عن كل ما يتخون جمالها ويعيب فعالها).
ويقول في الإمتاع والمؤانسة: (لأن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان، ولأن حظ الإنسان من المال إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية، وحظه من العلم إنما هو من قبيل النفس العاقلة، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين… فيجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف في سنخه وعنصره، وأوله وآخره، وسفره وحضره، وشهادته ومغيبه من ذي المال؛ فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال الذي يجزىء منه اليسير، ولا يلهب نفسه على فوته حسرةً وأسفاً؛ فالعلم مدبر، والمال مدبر؛ والعلم نفسي، والمال جسدي، والعلم أكثر خصوصيةً بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرةٌ وسريعة، لأنك لا ترى عالماً سرق علمه وترك فقيراً منه؛ وقد رأيت جماعةً سرقت أموالهم ونهبت وأخذت، وبقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم؛ والعلم يزكو على الإنفاق ويصحب صاحبه على الإملاق؛ ويهدي إلى القناعة، ويسبل الستر على الفاقة؛ وما هكذا المال.).
ويحذر ابن المقفع من ابتلي بصحبة السلطان: (إن ابتليت بصحبة السلطان… لا يحدثن لك الاستئناس به غفلة، ولا تهاونا… فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة).
ويقول إخوان الصفا: (اعلم أن العلم قنية للنفس، كما أن المال قنية للجسد، لأن المال يراد لصلاح الجسد، والعلم يراد لصلاح أمر النفس). فسلم اللهم حتى نلقاك ونحن على الجادة.