عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - (29) التفريج عن المسلم، والتيسير عليه، وستره وعونه
قضاء حوائج المسلمين؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «المسلم أخو المسلم؛ لا يَظْلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن سَتر مسلمًا، ستَره الله يوم القيامة».
الوسيلة التاسعة والأربعون: التفريج عن المسلم، والتيسير عليه، وستره وعونه: وكل واحدٍ من هذه عبادة مستقلة، وورَد في كلٍّ منها نصوصٌ خاصة تحثُّ عليه.
• ففي الستر مثلاً يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: «لا يَستر عبد عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره الله يوم القيامة»، والستر في الآخرة يكون - إن شاء الله - لأهل الجنة لا لأهل النار، وقد روى ابن ماجه وصحَّحه الألباني أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن ستَر عورة أخيه المسلم، ستَر الله عوْرته يوم القيامة، ومَن كشَف عورة أخيه المسلم، كشَف الله عوْرته؛ حتى يَفضَحه بها في بيته».
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من امرئ مسلم، يرى من أخيه عورة فيَسترها، إلاَّ أدخلَه الله بها الجنة»؛ رواه الطبراني في "الأوسط"، وضعَّفه الألباني بلفظ: «لا يرى مؤمنٌ من أخيه عوْرةً فيَسترها عليه، إلاَّ أدخَله الله بها الجنة».
وفي الحديث الذي حسَّنه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن؛ كسوتَ عوْرته، وأشبَعتَ جوْعته، أو قَضيتَ له حاجة».
وفي حديث عائشة الذي رواه أحمد وصحَّحه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث أحْلِف عليهنَّ: لا يجعل الله - عزَّ وجلَّ - مَن له سهمٌ في الإسلام كمَن لا سهمَ له، فأَسْهُم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة، ولا يتولَّى الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا فيُولِّيه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجلٌ قومًا إلاَّ جعَله الله - عزَّ وجلَّ - معهم، والرابعة لو حَلَفت عليها، رجوت ألاَّ آثَمَ: لا يَستر الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره يوم القيامة».
ولكني ذكَرت هذه العبادات هنا جُملة؛ لأكتفي فيها بحديث واحدٍ، ثم ابْحَثْ أنت عن المزيد إن أردتَ المزيد، قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستَر مسلمًا، ستَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن سلَك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا، سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمَع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلَت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحَفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده، ومَن بطَّأ به عمله، لَم يُسرع به نسبُه»، والحديث في صحيح مسلم.
• وأخصُّ بالذِّكر من كلِّ هذا: قضاء حوائج المسلمين؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «المسلم أخو المسلم؛ لا يَظْلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن سَتر مسلمًا، ستَره الله يوم القيامة».
فهلاَّ عَمِل كلُّ مسلم بتلك الوصيَّة النبوية الغالية المباركة، أم أنَّ أكثر الناس لا ينشغل إلاَّ بنفسه، ولسان حاله يقول: نفسي، نفسي.
أين الذين كانوا يمشون في حوائج إخوانهم رغبةً فيما عند الله؟! أين هذا الصِّنف الكريم العزيز الذين كان الله يَستعملهم لإدخال السرور والسعادة على المسلمين؟!
أسأل الله أن يُؤلِّف بين قلوب المسلمين، وأنْ يَجمع شَتاتهم، وأن يجعلَهم جميعًا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى.
• كما أخصُّ أيضًا إقالة عثرة المسلم؛ ففيها من التفريج عن المسلم ما فيها، ولا سيَّما لو دخَل الندم إلى هذا المسلم؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وصحَّحه الألباني: «مَن أقال مسلمًا، أقال الله تعالى عَثْرته»، وفي رواية عند أبي داود: «من أقال مسلمًا، أقاله اللهُ عَثْرتَه»، وزاد ابن ماجه - كما في فضائل الأعمال للمَقدسي -: «يوم القيامة».
فائدة:
الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة، ومِن ذلك قولهم: أقال الله عَثرته، إذا رفعَه من سقوطه، ومنه: الإقالة في البيع؛ لأنها رفْع العقد، وهي في اصطلاح الفقهاء: رفْع العقد وإلغاء حُكمه وآثاره بتراضي الطرَفين.
وتجري الإقالة في العقود الملزمة، وأكثر ما تقع في البيع، وتكون مندوبة إذا ندِم أحدُ الطرفين، وشعَر بحاجته الماسَّة إلى الرجوع في العقد.
وتكون الإقالة بالإيجاب والقَبول الدَّالَّيْن عليها، وتتوقَّف في قَبولها على رضا الطرَفين.
الوسيلة الخمسون: كَظْم الغيظ، وتجنُّب الغضب:
فهذا من حُسن الخُلق في المعاملات، وهو مما يُدخِل الجنة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن كظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يُخيِّره من الحُور العِين ما شاء».
ومعلوم أنَّ أيَّ غضب تَصْحبه رغبة في الانتصار للنفس، قلَّ هذا الغضب أم كَبِر، ويَنتاب صاحب الغضب غيظٌ يدفعه للانتقام أو التشفِّي، قلَّ الغضب أم كَبر؛ ولهذا كان تجنُّب الغضب سببًا لكَظْم الغيظ؛ كما روى الطبراني - وقال الألباني: صحيح لغيره - أنَّ رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَغضب ولكَ الجنة».
الوسيلة الحادية والخمسون: كفَّارة المجلس:
قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن جلَس في مجلس، فكَثُر عليه لَغَطُه، فقال قبل أن يقومَ من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمْدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوب إليك، إلاَّ غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك»، والحديث رواه الترمذي، والحاكم، وصحَّحه الألباني.
وكثير من الناس يُكثرون في مجالسهم من اللغو واللغط، وعلى الرغم من ذلك، فإنه إذا أرادَ أن ينصرف، فإنه ينسى هذه الكلمات التي يَجعلها الله سببًا لمغفرة ذنوبه في هذا المجلس، فيا ليتنا نحفظ لسانَنا في مجالسنا، ولا ننسى دعاءَ كفارة المجلس؛ حتى نلقَى الله تعالى بصفحة بيضاء، خالية من الذنوب والأوْزار.
الوسيلة الثانية والخمسون: السعي على الأرملة والمسكين:
قال -صلى الله عليه وسلم- في صحيح البخاري: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله»؛ قال الراوي: وأحسبُه قال: «كالقائم لا يَفْتُر، وكالصائم لا يُفْطِر».
الوسيلة الثالثة والخمسون: صلاة ركعتين بعد فعْل الذنوب:
إذا قدَّر الله وابتُليتَ بفعْل معصية غلبتْك نفسك عليها، فاهْرَع إلى الصلاة، وناجِ ربَّك، وتضرَّع إليه أن يغفرَ لك ويُعافيك؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود: «ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، فيُحسن الطُّهور، ثم يقوم فيُصلي ركعتين، ثم يَستغفر الله، إلاَّ غفر له».
الوسيلة الرابعة والخمسون: صيام النوافل:
أين مَن يَحرص على صيام النوافل من بعد رمضان؟! أين مَن يتَّبع هدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لَم يترك خيرًا إلاَّ دَلَّنا عليه، ولَم يترك شرًّا إلاَّ وحذَّرنا منه، ففي الصحيحين ومسند أحمد، وسُنن الترمذي قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صام يومًا في سبيل الله، بعَّد الله وجْهه عن النار سبعين خريفً»، فحافِظْ - أخي يا بن الإسلام - على صيام النوافل، وهي كثيرة، ومن أهمها:
• صيام الاثنين والخميس؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه النسائي، وصحَّحه الألباني: «تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم».
• ثلاثة الأيام البيض من كلِّ شهر مدرجة لخير الصيام؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري: «صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر صومُ الدَّهر كله»، وقال لابن عمرو - كما في الصحيحين -: «صُمْ من كلِّ شهر ثلاثة أيام؛ فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر».
ويُسْتَحبُّ أن تكون أيام: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذَرٍّ: ((يا أبا ذَر، إذا صُمْتَ من الشهر ثلاثة أيام، فصمْ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخَمس عشرة))، والحديث رواه الترمذي والنسائي، وصحَّحه الألباني، وقال - كما عند النسائي وأبي يَعْلى، وحسَّنه الألباني -: ((صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر صيام الدهر، وهي أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة)).
فاجتهدْ أن تصوم في بقيَّة عُمرك ولو ثلاثة أيام من كلِّ شهر؛ فإن لهم أجرًا عظيمًا عند الله -تعالى.
• يوم عرفة لغير الحاج؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما روى مسلم: ((صيام يوم عَرَفة يُكَفر السنة الماضية والباقية))، وعند الترمذي، وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني: ((صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله)).
• يوم عاشوراء ويوم قبله؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وأمَّا عن اليوم الذي قبله، فدليله ما قاله ابن عباس حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء، وأمَر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظِّمه اليهود والنصارى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صُمنا اليوم التاسع))، قال: فلمْ يأتِ العام المُقبل حتى توفِّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحديث في صحيح مسلم وسُنن أبي داود، وصحَّحه الألباني.
• ست من شوال؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((مَن صام رمضان، وأتْبَعه بستٍّ من شوال، كان كصوم الدهر))، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما عند أحمد والنسائي، وصحَّحه الألباني: ((صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين، فذلك صيام السنة)).
واعلم أنه يجوز صيام هذه الأيام السِّتة من شوال مُتتابعة أو متفرِّقة في أيِّ أيام الشهر، عدا اليوم الأوَّل وهو يوم عيد الفطر؛ فإنه يَحرُم صيامُه.
• صيام شعبان؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمَل صيام شهر قطُّ، إلاَّ شهر رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان".
• صيام أكثر المحرَّم؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم وغيره: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)).
ولعلَّه يُشكل على ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أكثر ما يصوم في شعبان، فلماذا لَم يَصُم في المحرَّم مثلما كان يصوم في شعبان؟!
أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة؛ منها: ما قاله النووي: لعلَّه لَم يَعلم فضْل المحرَّم إلا في آخر الحياة، قبل التمكُّن من صومه، أو لعلَّه كان يَعرِض فيه أعذارٌ تَمنع من إكثار الصوم فيه، كسفرٍ أو مرض، ومنها: ما ذهَب إليه ابن رجب من أن التطوُّعَ بالصوم نوعان:
الأول: التطوُّع المُطلق، فهذا أفضله المحرَّم، كما أنَّ أفضل التطوع المطلق في الصلاة قيام الليل، والثاني: ما كان صومه تَبَعًا لصيام رمضان قبله أو بعده، فهذا مُلتحق بصيام رمضان، وصيامه أفضل من التطوع مُطلقًا، كالسُّنن الرواتب، فهي أفضل من السُّنن المطلقة.
• صيام يوم وفطر يوم؛ ففي الصحيحين: ((أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا)).
• عشر ذي الحِجة؛ فعند أبي داود والنسائي عن هُنَيْدة بن خالد عن امْرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحِجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلِّ شهر، وأوَّل اثنين من الشهر والخميس"، والحديث صحَّحه الألباني.
وهنالك احْرص على السَّحُور متأخِّرًا وعجِّل الإفطار، واحْرِص على أن يصومَ معك أهل البيت، وشجِّعهم على ذلك، واجْتمِعوا على الإفطار والسحُور، واحْرِص كذلك على إفطار الصائم، ادْعُ غيرَك إلى الصيام، وفطِّر الصائمين.
تنبيه: فيما يتعلَّق بصوم رجب:
لَم يَثبت فضيلة الإفراد لصوم شهر رجب، ولا صيام أيَّام منه، بل صيامه كباقي الشهور؛ مَن كان له عادة بصيام، فهو على عادته، ومَن لَم يكن له عادة، فلا وجْه لتخصيص صومه، ولا صوم أوَّله، ولا ليلة السابع والعشرين منه بصومٍ، بل ثبَتَ عن عمر النهي عن ذلك؛ فعن خَرَشَة بن الحُرِّ، قال: "رأيتُ عمر يَضرِب أكفَّ الناس في رجب، حتى يضعوها في الجِفان، ويقول: كُلوا؛ فإنما هو شهر تعظِّمه الجاهليَّة"؛ رواه ابن أبي شَيبة، وصحَّحه الألباني، قال الألباني: "إن نَهْيَ عمر عن صوم رجب - المفهوم من ضرْبه للمترجِّبين - ليس نَهْيًا لذاته، بل لكيلا يلتزموا صيامه ويُتِمُّوه، كما يفعلون برمضان"، قال ابن قدامة: "ويُكْرَه إفرادُ رجب بالصوم".
وثَبَتت كَراهة صومه عن ابن عباس وأبي بَكْرة، وأنس وغيرهم، وأمَّا حديث: ((صُمْ من الحُرُم واترُك))، فهو حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وضعَّفه الشيخ الألباني، فلا يصحُّ الاحتجاج به، وإن صحَّ، فليس فيه دليلٌ على تخصيص رجب بصوم، وعلى هذا فيجوز الصيام في رجب إذا وافَق له عادة بصيامٍ، وأمَّا إن خَصَّه أو اعتقَد أنَّ لصيامه فضيلةً خاصة، فهذا لا دليلَ عليه، والله أعلى وأعلم.
الوسيلة الخامسة والخمسون: حفظ اللسان والفَرْج وغَض البصر:
وكذلك ستْر العورة، والحَذَر من الاختلاط، ومسِّ الأجنبيَّات، والحديث معهنَّ فيما لا حاجة فيه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]، وسأل عبدالله بن عمرو بن العاص النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، عَوراتنا ما نأتي منها وما نذَر؟ قال: ((احفَظ عورتك إلاَّ من زوجتك أو ما مَلَكت يمينُك))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إنِ استطَعت ألاَّ يَرَيَنَّها أحدٌ، فلا يَرَيَنَّهَا))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: ((الله أحقُّ أن يُستَحْيَى منه من الناس))؛ والحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وحسَّنه الألباني، وروى الطبراني في الكبير وصحَّحه الألباني: ((لأن يُطعَنَ أحدكم بِمِخْيَط من حديد، خيرٌ له من أن يَمسَّ امرأة لا تَحِلُّ له)).
وفي الصحيحين: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة، إلاَّ ومعها ذُو مَحْرم، ولا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي مَحْرم))، وفي الصحيحين: ((كُتِب على ابن آدمَ نصيبُه من الزنا، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحالة، فالعينان زناهما النظر، والأُذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البَطش، والرِّجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويُصدِّق ذلك الفرجُ أو يُكَذِّبه))، وفي رواية: ((واليد زناها اللمس)).
وهذا الباب من أعظم أبواب فساد القلوب؛ أعني: إطلاق البصر وعدم حِفظ الفرْج، فهو من أقصر طُرق إبليس لتحقيق غرضه في إفساد القلوب، وباب الشهوة الجنسيَّة من أسباب عمى القلب، نسأل الله العافية.
وحِفظ الفَرْج يكون عمَّا حرَّمه الله عليه؛ سواء من الزنا، أو اللواط، أو الاستمناء، أو الجِماع في الدُّبر، أو القُبُل في زمان الحيْض، أو غير ذلك؛ إذ كلُّ تفريغ للشهوة في غير الموضع الذي أحلَّه الله، وبغير الطريقة التي شرَعها، حرامٌ ينبغي حِفْظ الفرج عنه؛ للفوز بالثواب العظيم الذي ذكَره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله في الحديث المتفق عليه: ((مَن يَضْمن لي ما بين لِحييه وما بين رِجليه، أضمَنْ له الجنة)).
وحِفظ اللسان يكون من المحرَّمات التي يكون آلتَها؛ كأكل الحرام، والغيبة والنميمة، والقذف والسَّب واللعن، وكل ما حُرِّم من الكلام، فلا تتكلم إلاَّ بالخير، وإلاَّ فاصْمُت، واحْذَر من كَثرة الضَّحك والمُزاح، ومن آفات اللسان جميعها؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليَصْمُت))؛ والحديث في الصحيحين.
وهذه الوسيلة تجرُّنا إلى الكلام عن بعض آداب اللسان، فاللسان هو المترجم لِمَا حواه الجَنان، يزرع بقوله الحسنات والسيئات، اللسان هو وزير البَدن، والقلب هو الملك، وبصلاحهما يصلح البَدن، وبفسادهما يفسد البدن، بكلمة يدخل المرء دينَ الإسلام، وبكلمة يخرج منه، وبكلمة يَنال رضوان الله، وبكلمة يستحقُّ سَخطه.
فمن آداب اللسان:
1- حِفظ اللسان، واجتناب فضول الكلام؛ فأكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرُهم كلامًا في معصية الله تعالى.
2- عدم الخوض في الباطل؛ قال الربيع بن خُثَيْم - رحمه الله -: "لا خيْرَ في الكلام إلاَّ في تسع: تهليل وتكبير، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرِّ، وأمْرك بالمعروف ونَهْيك عن المنكر، وقراءتك للقرآن".
3- اجتناب الفُحش والبذاءة؛ فـ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- اجتناب اللعن، والتقعُّر في الكلام.
5- صِدق الأقوال والأفعال، فينبغي على المسلم أن يقول الصِّدق، ويتحرَّاه في كل أقواله وأفعاله، ويَجتنب الكذب؛ لأنه لا يَليق بالمؤمن أن يكون كذَّابًا.
6- ترْك السُّخرية والاستهزاء، وترك الغيبة - وهي ذِكر أخيك المسلم بما يَكره - وترْك النميمة - وهي نقْل الكلام بين المسلمين بقَصْد الضَّرر وإفساد ما بينهم، وقطْع الصِّلة - وإنْ أتاك النمَّام، فعليك بستة أمور:
• ألاَّ تُصَدِّقه؛ لأن النمَّام فاسقٌ، فيكون مَردود الشهادة.
• أنْ تَنهاه عن ذلك؛ لأنَّ النهي عن المنكر واجبٌ؛ قال الإمام الشافعي- رحمه الله -: "قَبول السعاية أضرُّ من السِّعاية؛ لأنَّ السعاية دَلالة، والقَبول إجازة، وليس مَن دلَّ على شيء كمَن قَبِل وأجَاز، والساعي ممقوت إذا كان صادقًا؛ لهَتْكه العوْرة، وإضاعته الحُرمة، ومعاقَب إن كان كاذبًا؛ لمُبارزته الله بقَبول البُهتان وشهادة الزور.
• أن تبغضه في الله تعالى؛ فإنه عاصٍ، وبُغض العاصي واجبٌ.
• ألاَّ تظنَّ بأخيك الغائب ظنَّ السوء؛ فإن إساءةَ الظنِّ بالمسلم حرامٌ.
• ألاَّ تتجسَّس عن أمْره؛ فإن الله تعالى نَهَى عن التجسُّس.
• ما لا ترضى من هذا النمَّام، فلا تفعله أنت، وهو ألاَّ تُخبر أحدًا بما أتاك به هذا النمَّام.
7- الذَّب عن أعراض المسلمين؛ ففي الحديث الحسن عند أبي داود: ((مَن حَمى مؤمنًا من منافق - أُرَاه قال: - بعَث الله ملَكًا يَحمي لَحمه يوم القيامة من نار جهنَّم، ومَن رمى مسلمًا بشيء يُريد شَيْنَه به، حَبَسه الله على جسْر جهنَّم، حتى يَخرج مما قال)).
8- شُكر المعروف باللسان.
9- التقليل من المُزاح؛ فإن مَن كَثُر كلامه وضَحِكُه ومُزاحه، قلَّت هيْبَته، ومَن أكْثر من شيء، عُرِف به.
10- استعمال اللسان في الإصلاح بين المتخاصمين.
11- قلة الكلام فيما لا يفيد، وتدبُّر الكلام قبل النُّطق به؛ قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - لرجل قد بعَثه في حاجة: "إيَّاك وكلَّ أمْر تريد أن تعتذرَ منه، وإذا أردْتَ أن تتكلَّم بكلامٍ، فانظُر فيه قبل أن تتكلَّم، فإن كان لك، فتكلَّم به، وإن كان عليك، فالصمُت عنه خيرٌ لك".
12- ترْك ما لا يَعنيه؛ فذلك من حُسن إسلام المرء؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
وغَضُّ البصر يكون عن النظر إلى الحرام عمومًا، وإلى النساء على وجْه الخصوص؛ فإن النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ورُبَّ سهمٍ يقتل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30 - 31]، وفي حديث: "حق الطريق" المُتفق عليه، لَمَّا سُئِل -صلى الله عليه وسلم-: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: ((غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
الوسيلة السادسة والخمسون: إماطة الأذى عن الطريق:
قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة؛ في شجرة قطَعها من ظهر الطريق كانتْ تؤذي الناس)).
يا ألله، والله ما أسهل الجنة! ومشهور حديث: ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة))، والأذى في الطريق عام في كلِّ ما يؤذي؛ من حَجَرٍ أو شجر، أو شوْك أو قشور، تؤذي المارَّة، أو أغانٍ أو متبرِّجات، أو غير ذلك، فيدخل في إماطة الأذى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعيَّة.
وهكذا يكون المسلم صاحب القلب الرحيم الذي يخشى على مَن حوْله أن يُصيبَهم أيُّ نوع من أنواع الأذى، بل ويُسارع إليهم بكلِّ معروف وإحسان، وهذه هي أخلاق المسلمين والإسلام.
وفي صحيح الجامع الصغير: ((مَن أخرَج من طريق المسلمين شيئًا يُؤذيهم، كتَب الله له به حسنةً، ومَن كتَب له عنده حسنة، أدْخَله بها الجنَّة)).
فأكْثِر أخي الحبيب من إماطة الأذى الذي مُلِئت به طُرق المسلمين، لتَكْثُر صدقاتُك، فلعلَّ الله يُدخلك الجنة بها، كالرجل الذي ذكَره -صلى الله عليه وسلم- في الحديث.
وهذه الوسيلة - يا بن الإسلام - أحد آداب الطريق، والطريق هو المكان الذي يسير الناس فيه، ويَلتقون فيه، ويَصِلون من خلال عبوره والسَّيْر فيه إلى بيوتهم، فيشمل السوق وغيره.
وقد اهتمَّ الإسلام الحنيف بالطريق، حتى جعَل إماطة الأذى عنه شُعبة من شُعَب هذا الدين القويم؛ كما في صحيح مسلم، لكن واأسفاه على شباب العصر، الذين أصبَحوا يتسكَّعون في الطُّرقات، أصبحنا نرى كثيرًا منهم يسير ليلاً ونهارًا في عَرْض الطرقات، يسيرون دون حياءٍ أو أدب أو أخلاقٍ، وكأنَّ ماء الفضيلة لَم يَجْرِ في عروقهم، أصبح لا يَحلو لهم إلاَّ أن يَجلسوا على قارعة الطريق، ويدَّعون بأنَّ هذه هي المدَنيَّة؛ نسأل الله أن يَهْدينا ويَهدي شباب المسلمين.
ومن الأدب في الطريق:
1- ألاَّ تخرج إلى الطريق إلاَّ لحاجة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- لِمَن سأله عن النجاة: ((أمْسِك عليك لسانك، وليَسَعْك بيتك، وابْكِ على خطيئتك))، والحديث في صحيح سُنن الترمذي.
2- إذا اضطُرِرتَ إلى الخروج من بيتك، فعليك بغَضِّ البصر وكَفِّ الأذى، ورَدِّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما في حديث "حق الطريق" الذي رواه البخاري، وهذه الآداب الأربعة أصول الدين الحنيف، وهي مُناسبة لذَوي الفِطَر السليمة والمناهج القويمة، ولعلَّ معظم مآسي الذنوب والمعاصي تقع نتيجة مُخالفة هذه الأوامر، ولو الْتَزَم الناس تلك الآداب الأربعة على الأقل، لبَقِيَت شوارعنا على أصل الطهارة.
3- مساعدة المحتاجين، وإرشاد الضالين.
4- عدم شَغْل الطريق، أو إيذاء الناس وتعطيل مصالحهم.
5- المحافظة على نظافة الطريق بعدم إلقاء النفايات والأوساخ والنجاسات في ممرَّات الناس ومَجالسهم، وتجنُّب إلقاء الفضلات أو القاذورات أو غيرها، فلا تَبصق في الأرض، ولا تُلْقِ بالمناديل المستعملة أو بقايا الطعام في الطرقات والأماكن العامَّة.
6- تجنُّب الطرق المزدحمة - مثل: الأسواق وغيرها - بقدْر الإمكان، والإسراع في اجتيازها عند الضرورة، والحِرص على الْتِزام ذِكْر الله تعالى أثناء ذلك؛ لأنَّ ذِكْر الله في أماكن الغفلة له فضيلة عظيمة.
7- أن يَمشي متواضعًا.
8- الالتزام بأدب المشي، مثل: عدم الالتفات الكثير، وأن يُسَلِّم على القاعد إذا مرَّ به، وتجنُّب المِشْيات المذمومة، وينبغي أن تَمشي المرأة إلى جانب الطريق، ولا تَضرب المرأة برِجلها، ولا تخرج عمومًا مُتزيِّنة أو متعطِّرة.
9- أن تَحلُم على الناس، ولا تَجهل عليهم وإن جَهِلوا عليك، وتَصبر على أذاهم.
10- تجنُّب رفْع الصوت؛ سواء كان ذلك في البيع والشراء، أو مرورًا بالسيارات، أو تشغيل مُكَبِّرات الصوت في الأفراح، وغير ذلك مما يؤذي المسلمين.
11- تجنُّب الأكل في الطُّرقات؛ لأنه مُخِلٌّ بالمُروءة، والمروءة: اجتناب الرجل ما يَشينه، واجتناؤه ما يَزينه، ولا مُروءة لِمَن لا أدبَ له، ولا أدبَ لِمَن لا عقْلَ له، ولا عقْلَ لِمَن ظنَّ أن في عقْله ما يُغنيه ويَكفيه عن غيره.
12- رفْع الأطعمة وفُتات الخُبز عن قارعة الطريق، وإبعاد الأوراق التي فيها أسماء كريمة أو كلمات قرآنية عن ممرَّات الناس، ولا مانعَ من حَرْقها؛ لصونها من العَبَث، وتعظيمًا لاسم الله تعالى وكلامه.
وعموم الأدب أنَّ المسلم لا يوجد خارج بيته قدْر ما أمكن؛ ليتفرَّغ لعبادة الله تعالى، وإنْ خرَج، كان مشغولاً بذِكر الله تعالى، حريصًا على طاعته - عزَّ وجلَّ - فالْزَم الأدبَ.
الوسيلة السابعة والخمسون: تربية البنات وإعالتهن:
أبشر يا من رُزِقت بالبنات، ورَضِيت برِزق الله لك، وحَمدته وشكَرته، وقُمت بما أوْجبه عليك من حُسن التربية لهنَّ، وإعدادهنَّ إعدادًا جيدًا؛ ليكونوا أُمَّهات المستقبل في بيوت الإيمان.
أبْشِر يا هذا بقول حبيبك -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد بسند جيِّد: ((مَن كُنَّ له ثلاث بنات يؤويهنَّ ويرحمهنَّ ويَكفلهنَّ، وَجَبت له الجنة)).
الوسيلة الثامنة والخمسون: الإحسان إلى الحيوان:
إن دين الإسلام يمتاز باهتمامه بالأخلاق الحسنة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بُعْثِت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق))، وقد كَتب الله الإحسان على كلِّ شيء، فأحْسِن يُحْسِنِ الله إليك.
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
ولا يَقتصر الإحسان على ذلك، بل يمتدُّ إلى كلِّ ما حوْلك، حتى الحيوان؛ فقد ذكَر -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ رجلاً رأى كلبًا يأكل الثَّرى من العطش، فأخَذ الرجل خُفَّه، فجعَل يَغرِف له به، حتى أرْواه، فشكَر الله له فأدْخَله الجنة"؛ كما في البخاري، قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم أجرًا؟ قال: ((في كل كبدٍ رَطْبة أجر)).
وفي الصحيحين: ((بينما كلْب يُطيف بِرَكِيَّةٍ كاد يَقتله العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنَزَعت مُوقَها فسقَتْه، فغُفِر لها به))، وفي المقابل: ((دخَلت امرأة النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها، ولا هي ترَكتْها تأكل من خَشاش الأرض))؛ كما في الصحيحين.
الحيوانات خَلْق من خَلْقِ الله تعالى، سخَّرها لخدمة الإنسان ولإعانته على طاعة الله تعالى، وأيضًا من عِلَّة تسخيرها له إعانته على عمارة الأرض، وتيسير قضاء الحوائج.
ومن الأدب في التعامل مع الحيوان:
1- إطعامها وسقيها إذا جاعَت وعَطِشت.
2- رحمتها والإشفاق عليها، وعدم إيذائها، فإن كان لكَ شوقٌ إلى الرحمة من الله تعالى، فكنْ رحيمًا لنفسك ولغيرك، ولا تستبدَّ بخيرك؛ فارْحَم الجاهل بعِلْمك، والذليل بجَاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشَفَقتك ورأْفتك، والعُصاة بدعوتك، والبَهائم بعَطفك ورفْع غضبك؛ فأقربُ الناس من رحمة الله تعالى أرحمُهم لخَلْقه.
3- ألاَّ يَحول بين الحيوان وبين ولَده إلاَّ لضرورة؛ فـ((مَن فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- إراحتها عند ذَبْحها أو قتْلها؛ كما في صحيح مسلم.
5- عدم إيذائها أو تعذيبها بأيِّ نوعٍ من أنواع العذاب.
6- عدم لَعْن الدواب.
7- عدم وَسْم الحيوان في وجْهه، أو ضَرْبه عليه؛ فالضرب على الوجْه مَنهيٌّ عنه في كلٍّ أحد - الإنسان والحيوان - لكنَّه في الآدمي أشدُّ؛ لأن الوجْه مَجمع المحاسن، ولأنه يَظهر فيه أثر الضَّرْب، ورُبما شَانَه، ورُبَّما آذى بعضَ الحواس.
8- عدم تعليق الأجراس في رقبتها؛ فـ((لا تَصْحب الملائكة رُفْقةً فيها كلْبٌ ولا جَرَس))؛ كما روى مسلم.
9- عدم الوقوف على الدابة؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في الحديث الصحيح في المسند.
10- يجوز ركوب أكثر من واحدٍ على الدابة، إن عُلِم قوة تحمُّلها لذلك؛ فقد رَكِب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرْدَف خلفه ابن عباس - رضي الله عنه.
11- جواز قتل المؤذي منها؛ مثل: الكلب العقور، والذئب، والحيَّة، والفأر، وغير ذلك.
12- معرفة حق الله تعالى فيها؛ بأداء زكاتها مما يُزكَّى.
13- عدم التشاغل بها عن طاعة الله تعالى، أو اللهو بها عن ذِكره - عزَّ وجلَّ.
14- ألاَّ يُحمِّل الدوابَّ فوق طاقتها.
فاجتهد أخي الحبيب - يا بن الإسلام - في تحرِّي الإحسان في معاملاتك كلِّها، وضْع نُصْب عينيك قولَ الله: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
الوسيلة التاسعة والخمسون: طاعة المرأة لزوجها وتواضعها له:
إذا كانت المرأة تُشارك الرجل في كلِّ الأحكام التي لَم يَرِد فيها نصٌّ بالتخصيص، فإنه قد جاءَت أحاديث تروي لها كثيرًا من الفضائل، ومن أجمل هذه الأحاديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حِبَّان، وابن ماجه، وصحَّحه الألباني: ((إذا صلَّت المرأة خَمْسها، وصامَت شهرها، وحصَّنت فرْجَها، وأطاعَت بَعْلها، دخَلَت من أي أبواب الجنة شاءَت)).
ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة: النبي في الجنة، والصدِّيق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه من ناحية المصر لا يزوره إلاَّ لله، ونساؤكم من أهل الجنة: الودود، الولود، العؤود على زوجها، التي إذا غَضِبت جاءَت حتى تضع يدَها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضًا حتى ترْضَى))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.
فهيَّا يا نساء المسلمين، هَلْمُمْنَ إلى جنة عَرْضها السموات والأرض، حتى ولو أغضَبكن أزواجكن، فلله ثم للجنة أَرْضِينهم، واحْذرن من إغضابهم؛ فأيُّما امرأة باتَت وزوجها غضبان عليها، باتَت تَلعنها الملائكة، وفي المقابل: ((أيُّما امرأة باتَت وزوجها عنها راضٍ، دخَلَت الجنة))؛ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ.
فاجْتَهِدْنَ يا نساء الإسلام في إرضاء الأزواج؛ فإنَّ حقَّهم عليكنَّ كبيرٌ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ، لأمرْتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
ولكن لا يكون ذلك على حساب دينك أُخيَّتي، وإلاَّ فمَن أرضى الناس بسَخَطِ الله، سَخِط الله عليه، وأسْخَط عليه الناس، فاسترضِ زوجَكِ كلَّ ليلة، فلعلَّها تكون آخرَ ليلة لكِ في الدنيا، فيَبيت راضيًا عنكِ، فتَدخُلين الجنة - إن شاء الله تعالى.
الوسيلة الستون: زيارة الإخوان في الله:
فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يَزوره إلاَّ لله، في الجنة))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.
وذكَر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرْصَد الله على مدرجته - طريقه - مَلَكًا، فلمَّا أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها - تقوم بها وتسعى في صلاحها -؟ قال: لا، غير أني أحببْتُه في الله، قال: فإني رسول الله إليكَ، بأنَّ الله قد أحبَّك لِمَا أحببْتَه فيه؛ والحديث رواه مسلم.
• معنى الزيارة في الله: أن تكون في طاعته - سبحانه - فيجعل برنامجًا للزيارة في مَرضاة الله تعالى من قراءة قرآن، ودراسة علْمٍ، وتناصُح، ونحو ذلك من طاعة الله - عزَّ وجلَّ.
الوسيلة الحادية والستون: النظر في خَلْق السموات والأرض:
مع التفكُّر والاهتمام بالعبادات القلبيَّة، كحب الله، أو الخوف منه، ورجاء رحمته، والشوق إليه، والتفكُّر في آثار أسمائه وصفاته، وحُسن التوكُّل عليه، والتضرُّع والتذلُّل والانكسار بين يديه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191]، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآيات: ((ويلٌ لِمَن قرَأها ولَم يتفكَّر فيها))؛ كما في صحيح ابن حِبَّان عن عائشة، وصحَّحه الألباني.
الوسيلة الثانية والستون: عليك بمصاحبة الصالحين وأهل الخير، وإيَّاك وصُحْبة الفُجَّار وأهل السوء:
قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في المُتفق عليه: ((إنَّ مَثَلَ الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المِسْك ونافخ الكِير؛ فحامل المسك؛ إمَّا أن يُحْذِيَكَ، وإمَّا أن تَبتاع منه، وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكِير؛ إمَّا أن يَحرِقَ ثيابك، وإمَّا أن تجد منه ريحًا مُنتنة))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المَرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخَالِل))، وقال: ((يُحْشر المرءُ مع مَن أحَبَّ))؛ فابْحث عن العلماء والصالحين والدُّعاة المؤمنين، والْتَفَّ حولهم؛ فإنَّ ذلك يُعينك ويُثبِّتك، فهم كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن ماجه، وابن أبي عاصم، وحسَّنه الألباني: ((إنَّ من الناس ناسًا مفاتيحَ للخير، مَغاليقَ للشرِّ))، فالْزَمْهم، وعِشْ في أكنافهم، وإيَّاك والوَحْدة، فتَتَخَطَّفك الشياطين؛ فـ: ((إنَّما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ)).
• الاعتزال عن الشر وقُرناء السوء، والخَلوة مع النفس بين حين وآخر؛ للتفكُّر فيما أنت مُقبل عليه؛ قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48].
الوسيلة الثالثة والستون: أكْثِر من الدعاء لنفسك ولإخوانك بخيرَي الدنيا والآخرة:
الدعاء سلاح المؤمن، وهو من أقوى الأسباب في دفْع المكروه وحصول المطلوب، والدعاء هو العبادة، والعبادة هي التذلُّل والخضوع.
الدعاء إظهار افتقار وحاجة، وتذلُّل من العبد الفقير الضعيف الذي لا يَملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلى الله تعالى القادر على جَلْب جميع المنافع، ودَفْع جميع المضارِّ، والذي إذا أعطى الأوَّلين والآخرين جميعَ مطالبهم، وحقَّق لهم جميع مآرِبهم، لا ينقص ما عنده، بل إنه - سبحانه -يَغضب من عبده إذا لَم يسأَلْه حاجته؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في صحيح سُنن الترمذي: ((مَن لَم يسألِ الله، يَغْضَبْ عليه)).
فليس للعبد مُعين على مصالح دينه ودنياه إلاَّ الله تعالى، فمَن أعانه فهو المُعان، ومَن خذَله فهو المخذول، واعْلَم - يا بن الإسلام - أنه لا واسطة بينك وبين مولاك؛ فإذا أردتَ أن تدعوه، فبابه مفتوح: يُجيب السائلين، ويُعطي المحرومين: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186].
يا بن الإسلام، يقول الله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظَهْر الغيب، إلاَّ قال الملك: ولك بمثله)).
يا ألله، ما أعظم هذا الحديث! الملك يدعو لك، فإذا ما أردتَ أخي يا بن الإسلام شيئًا، فادْعُ به لأخيك الذي أحببتَه في ربِّك، وصارَت شريعة الله هي حَبْلَ الوصال الأوَّل بينكما، ادْعُ له بالذي تريده؛ لتحصِّل دعاء الملك لك، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة، وعلى كلِّ النِّعم.
سبحان الله، أين القلوب التي اجتمَعت على الحب في الله؟! أين الأُخوَّة الصادقة؟! أين المحبَّة التي لا يَشوبها شيء من المصالح والمنافع الدنيويَّة؟!
أين أصحاب القلوب التقيَّة النقيَّة، الذين يحبون إخوانهم لله، ويُحبون لهم الخير كما يحبونه لأنفسهم، فيدعون لهم بظَهْر الغيب، فيُسخِّر الله لهم ملكًا كريمًا ليدعو لهم؛ ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن دعا لأخيه بظهْر الغيب، قال الملك الموكَّل به: آمين، ولك بمثله)).
ومن آداب الدعاء:
1- الإخلاص لله تعالى.
2- حضور القلب في الدعاء واليقين في الإجابة.
3- الدعاء في الرَّخاء والشِّدة؛ فـ: ((مَن سرَّه أن يَستجيبَ الله له عند الشدائد والكُرَب، فليُكثر الدعاء في الرَّخاء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- لا يسأل إلاَّ الله تعالى وَحْده.
5- عدم الدعاء على الأهل والمال والولد.
6- الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة وشُكْر الله عليها، والثناء بها قبل الدعاء.
7- الوضوء قبل الدعاء إن تيسَّر.
8- الحَذَر من الاعتداء في الدعاء.
9- أن يتوسَّل إلى الله تعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، أو بعمَلٍ صالحٍ قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حيٍّ حاضرٍ له.
10- أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال؛ لأن أكْل الحرام من موانع الإجابة ولو تحرَّى الداعي الأسباب الأخرى؛ كما في حديث "الأشعث الأغبر" في صحيح مسلم.
11- لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحمٍ.
12- أن يجعل الداعي كفَّ يده لأعلى.
13-أن يقدِّم الداعي عملاً صالحًا؛ ليكون ذلك وسيلة إلى الإجابة.
وسائل تحصيل ثمرة الدعاء:
الأول: أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشريفة، كيوم عرَفة من السنة، ورمضان من الأشهر، والجمعة من أيام الأسبوع، ووقت السَّحر من ساعات الليل؛ قال تعالى: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ينزل الله تعالى كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثُلُث الليل الأخير، فيقول - عزَّ وجلَّ -: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأُعْطيه، من يستغفرني فأغْفِر له))؛ والحديث مُتفق عليه.
وقيل: إن يعقوب -صلى الله عليه وسلم- إنما قال: ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98]؛ ليدعو في وقت السَّحر، فقيل: إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده يؤَمِّنون خلفه، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إني قد غَفَرت لهم، وجعلتُهم أنبياءَ.
الثاني: أن يَغتنم الأحوال الشريفة؛ قال أبو هريرة: "إنَّ أبواب السماء تُفتح عند زحْف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيْث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، فاغتنموا الدعاء فيها"، وقال مُجاهد: "إنَّ الصلاة جُعِلت في خير الساعات؛ فعليكم بالدعاء خلف الصفوف"، وروى أبو داود، والنسائي، والترمذي وحسَّنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ))، وروى الترمذي وحسَّنه: ((الصائم لا تُرَدُّ دعوته))، وفي الحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضًا؛ إذ وقت السَّحر وقتُ صفاء القلب وإخلاصه، وفراغه من المهوِّشات، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقتُ اجتماع الهم، وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله تعالى، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يُطَّلع فيها، وحالة السجود أيضًا أجدر بالإجابة؛ كما في صحيح مسلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربِّه - عزَّ وجلَّ - وهو ساجد، فأكْثِروا فيه من الدعاء))، وفيه أيضًا: ((إني نُهِيت أنْ أقرأَ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ فأمَّا الركوع، فعَظِّموا فيه الربَّ تعالى، وأمَّا السجود، فاجْتهدوا فيه بالدعاء؛ فإنه قَمِنٌ - جدير - أن يُستجاب لكم)).
ومن الأحوال الشريفة: وقت التنزُّل الإلهي، وأن يَبيت فيتعارَّ من الليل فيدعو، وآخر ساعة من نهار الجمعة، وأن يدعوَ الأخ لأخيه بظَهْر الغيب، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده، ودعاء رمضان.
الثالث: أن يدعو مستقبِل القِبلة، ويرفع يديه بحيث يُرى بياضُ إبطيه، أو يرفع يديه قُبالة وجهه، أو نحو ذلك، أو يرفع إصبعه السبَّابة؛ عن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتى الموقف بعَرَفة، واستقَبَل القِبلة، ولَم يَزَل يدعو حتى غرَبت الشمس"، والحديث رواه مسلم، وقال سلمان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريم، يستحيي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردَّها صفرًا))؛ رواه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وعن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كان يرفع يديه حتى بياض إبطيه في الدعاء"؛ رواه مسلم، وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على إنسان يدعو ويُشير بإصبعيه السبَّابتين، فقال: ((أحِّدْ، أحِّدْ))؛ رواه النسائي، وابن ماجه؛ أي: اقتصِرْ على الواحدة، وقال أبو الدَّرداء: "ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تُغَلَّ بالأغلال"، وقال ابن عباس: "كان -صلى الله عليه وسلم-: إذا دعا ضَمَّ وجعَل بطونهما مما يلي وجْهه"؛ أخرجه الطبراني بإسناد فيه ضَعْف.
فهذه هيْئَات اليد، ولا يرفع بصره إلى السماء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- عند مسلم: ((لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفْع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء، أو لتُخْطفَنَّ أبصارُهم)).
الرابع: خَفْض الصوت بين المخافتة والجَهر؛ لِمَا ورَد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قَدِمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلَمَّا دَنونا من المدينة، كَبَّر وكبَّر الناس ورفعوا أصواتهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أيها الناس، إنَّ الذي تدعون ليس بأصمَّ ولا غائب))، وقالت عائشة - رضي الله عنها - في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ [الإسراء: 110]؛ أي: بدعائك، وقد أثْنَى الله تعالى على نبيِّه زكريا - عليه السلام - فقال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3]، وقال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [الأعراف: 55].
الخامس: ألاَّ يتكلَّف السجع في الدعاء؛ فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حالَ متضرِّعٍ، والتكلُّف لا يُناسبه، وقد يَصِل ذلك السجع إلى الاعتداء في الدعاء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((سيكون قوم يَعْتَدون في الدعاء))؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، وقد قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55].
قيل: معناه التكلُّف للأسجاع، والأَوْلَى ألاَّ يتجاوز الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدَّى في دعائه فيسأل ما لا تَقتضيه مصلحته، فما كلُّ أحدٍ يُحسن الدعاء؛ ولذلك رُوِي عن معاذ - رضي الله عنه -: "إنَّ العلماء يُحتاج إليهم في الجنة؛ إذ يقال لأهل الجنة: تمنَّوا، فلا يَدرون كيف يتمنَّون؛ حتى يتعلَّموا من العلماء"، وفي الخبر: سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطُّهور، ومَرَّ بعض السلف بقاصٍّ يدعو بسجعٍ، فقال له: أعَلَى الله تُبالغ؟ أَشْهَد، لقد رأيت حبيبًا العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيِّدين، اللهم لا تَفضَحنا يوم القيامة، اللهم وفِّقنا للخير، والناس يدعون من كلِّ ناحية وراءَه، وكلٌّ يعرف بركة دُعائه، وقال بعضهم: ادعُ بلسان الذِّلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
ويُقال: إنَّ العلماء لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها، ويَشهد له آخر سورة البقرة، فإنَّ الله تعالى لَم يُخبر في موضع من أدْعية عباده أكثر من ذلك.
وانتبه - أخي يا بن الإسلام - إلى أنَّ السجع المذموم هنا هو المتكلف؛ فإنه لا يلائم الضَّراعة والذِّلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازنة، لكنَّها غير متكلفة؛ كما روى الترمذي وقال: غريب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أسألك الأمنَ يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقرَّبين الشهود، والرُّكع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم وَدُود، وإنَّك تفعل ما تريد))، وأمثال ذلك، فليقتصر على المأثور من الدعوات، أو ليلْتمس بلسان التضرُّع والخشوع من غير سجعٍ وتكلُّف؛ فالتضرُّع هو المحبوب عند الله.
السادس: التضرُّع والخشوع والرغبة والرهبة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [الأعراف: 55].
السابع: أن يَجزم الدعاء، ويُوقن الإجابة، ويَصدق رجاؤه فيه؛ في الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دعا أحدكم، فليَعزم في الدعاء، ولا يقل: اللهم إن شئتَ فأعطني؛ فإن الله لا مُستكرِه له))، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دعا أحدكم، فليُعظم الرغبة؛ فإنَّ الله لا يتعاظمُه شيء))؛ رواه ابن حِبَّان.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعْلموا أن الله - عزَّ وجلَّ - لا يَستجيب دعاءً من قلب غافل))؛ رواه الترمذي، وقال: غريب، قال سفيان بن عُيينة: لا يَمنعنَّ أحدَكم من الدعاء ما يعلم من نفسه؛ فإن الله تعالى أجابَ دعاءَ شرِّ الخَلْق إبليس - لعَنه الله - إذ قال: ﴿ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾[الحجر: 36 - 37].
الثامن: أن يُلِحَّ في الدعاء ويُكرِّره ثلاثًا؛ قال ابن مسعود: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل، سأل ثلاثًا"؛ رواه مسلم، ولكن ينبغي ألاَّ يَستبطئ الإجابة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((يُستجاب لأحدكم ما لَم يَعْجَل، فيقول: قد دعوتُ، فلم يُستجَب لي))، فإذا دعوت، فاسأل الله كثيرًا؛ فإنك تدعو كريمًا، وقال بعضهم: إني سألت الله - عزَّ وجلَّ - منذ عشرين سنة حاجة، وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألتُ الله أن يوفِّقني لترْك ما لا يَعنيني.
التاسع: أن يفتح الدعاء بذِكر الله تعالى والثناء عليه، ثم بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يبدأ بالسؤال؛ قال سَلَمة بن الأكْوَع: "ما سَمِعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَستفتح دعاءً، إلاَّ استفتَحَه بقوله: ((سبحان ربي العَلِيِّ الأعلى الوهَّاب))"؛ رواه أحمد والحاكم، وفيه ضَعْفٌ.
وأن يَختمَه كذلك؛ لحديث: ((كلُّ دعاءٍ محجوب حتى يُصَلي على النبي - صلى الله عليه وسلم))، وقد رواه البيهقي وحسَّنه الألباني، ولأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في صحيح سُنن أبي داود، قال أبو سليمان الداراني: "مَن أراد أن يسألَ الله حاجة، فليَبْدأ بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل حاجته، ثم يَختم بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يَقبل الصلاتين، وهو أكرمُ من أن يَدَعَ ما بينهما".
العاشر: وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة: التوبة، وترْك المعاصي، ورَدُّ المظالِم، والإقبال على الله تعالى بكُنه الهِمَّة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة.
يُروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناسَ قحطٌ شديد على عهد موسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرَج موسى ببني إسرائيل يستقي بهم، فلم يُسْقَوْا، حتى خرَج ثلاث مراتٍ ولَم يُسْقوا، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى موسى -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أستجيب لك ولِمَن معك وفيكم نَمَّام، فقال موسى: يا رب، ومَن هو حتى نُخرجه من بيننا؟ فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إليه: يا موسى، أنهاكم عن النميمة وأكون نَمَّامًا؟! فقال موسى لبني إسرائيل: توبوا إلى ربِّكم بأجمعكم عن النميمة، فتابوا فأرْسَل الله تعالى عليهم الغيْثَ.
وقال سفيان الثوري: بلغني أنَّ بني إسرائيل قُحِطوا سبع سنين؛ حتى أكلوا المَيتة من المزابل، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يَبكون ويتضرَّعون، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى أنبيائهم - عليهم السلام -: "لو مشيتُم بأقدامكم حتى تَحفى رُكبكُم، وتبلغ أيديكم عَنان السماء، وتكِلَّ ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أُجيب لكم داعيًا، ولا أرحم لكم باكيًا؛ حتى تردُّوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا، فمُطِروا من يومهم".
وقال مالك بن دينار: "أصاب الناس في بني إسرائيل قَحطٌ، فخرَجوا مرارًا، فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إلى نبيِّهم أنْ أخْبِرهم أنكم تخرجون إليّ بأبدان نَجِسة، وترفعون إليّ أكُفًّا قد سَفَكتم بها الدماء، وملأتُم بطونكم من الحرام، الآن قد اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تَزدادوا مني إلا بُعدًا".
وقال أبو الصديق الناجي: خرَج سليمان - عليه السلام - يستقي، فمرَّ بنملة مُلقاة على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خَلْق من خَلْقك، ولا غِنى بنا عن رزقك، فلا تُهلكنا بذنوب غيرنا، فقال سليمان - عليه السلام -: "ارجعوا؛ فقد سُقيتم بدعوة غيركم".
وقال الأوزاعي: "خرَج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: يا معشر مَن حضَر، ألستُم مُقِرِّين بالإساءة؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال: "اللهم إنا قد سَمِعناك تقول: ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [التوبة: 91]، وقد أقْرَرْنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلاَّ لِمثلنا؟ اللهم فاغْفِر لنا وارْحَمنا واسْقِنا، فرفَع يدَيه ورَفعوا أيديهم، فسُقوا". وقيل لمالك بن دينار: ادْعُ لنا، فقال: "إنَّكم تستبطئون المطر، وأنا أستبطِئ الحجارة".
ورُوي أن عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - خرَج يستسقي، فلمَّا ضَجِروا، قال لهم عيسى - عليه السلام -: مَن أصاب منكم ذنبًا، فليَرجع، فرجَعوا كلُّهم، ولَم يَبق معه في المفازة إلاَّ واحد، فقال له عيسى - عليه السلام -: أمَا لك من ذنبٍ؟ فقال: والله ما عَمِلت من شيء غير أني كنتُ ذات يوم أُصلي، فمرَّت بي امرأة، فنظرْتُ إليها بعيني هذه، فلمَّا جاوزتْني، أدْخَلت إصبعي في عيني، فانتزعْتُها وتبعتُ المرأة بها، فقال له عيسى - عليه السلام -: ادْعُ الله؛ حتى أؤمِّن على دُعائك، قال: فدعا، فتجلَّلت السماء سحابًا، ثم صبَّت، فسُقوا.
وقال يحيى الغَسَّاني: أصاب الناس قحطٌ على عهد داود -صلى الله عليه وسلم- فاختاروا ثلاثة من عُلمائهم، فخرَجوا حتى يَستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهم إنَّك أَنْزلت في توراتك أن نعفوَ عمَّن ظَلَمنا، اللهم إنا قد ظَلَمنا أنفسنا، فاعفُ عنَّا، وقال الثاني: اللهم إنَّك أنزلتَ في توراتك أن نعْتِق أرِقَّاءَنا، اللهم إنا أرِقَّاؤك فأعْتِقنا، وقال الثالث: اللهم إنَّك أنزلت في توراتك ألاَّ نردَّ المساكين إذا وَقفوا بأبوابنا، اللهم إنا مساكينك وقَفنا ببابك، فلا تردَّ دعاءَنا، فسُقوا.
وقال عطاء السُّلَمي: "مُنِعْنا الغيثَ، فخرَجنا نستسقي، فإذا نحن برجل بين المقابر، فنظَر إليّ فقال: يا عطاء، أهذا يوم النشور، أو بُعثِر ما في القبور؟ فقلت: لا، ولكنَّا مُنِعنا الغيث، فخرَجنا نستسقي، فقال: يا عطاء، بقلوب أرضِيَّة أم بقلوب سماويَّة؟ فقلت: بل بقلوبٍ سماويَّة، فقال: هَيْهات يا عطاء، قل للمُتبهرجين لا تتبهْرَجوا؛ فإن الناقد بصير، ثم رَمَق السماء بطرفٍ وقال: إلهي وسيدي ومولاي، لا تُهلك بلادَك بذنوب عبادك، ولك بالسرِّ المكنون من أسمائك إلاَّ ما سقيتَنا ماءً غدقًا فُراتًا؛ تُحيي العباد وتروي به البلاد، يا مَن هو على كلِّ شيء قدير، قال عطاء: فما استتمَّ الكلام، حتى أرعَدَت السماء وأبْرَقت، وجادَت بمطرٍ كأفواه القِرَب".
وقال ابن المبارك: "قَدِمت المدينة في عام شديد القَحط، فخرَج الناس يستسقون، فخرَجت معهم، إذ أقبل غلام أسود، عليه قطعتا خيشٍ، قد اتَّزَر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي، فسمعتُه يقول: إلهي، أخْلَقت الوجوه عندك كثرةُ الذنوب، ومساوي الأعمال، وقد حبَست عنا غيْثَ السماء؛ لتؤدِّب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناةٍ، يا مَن لا يعرف عبادُه منه إلاَّ الجميل أنْ تَسقيَهم الساعة الساعة، فلم يَزَل يقول: الساعة الساعة، حتى اكتسَت السماء بالغمام، وأقْبَل المطر من كلِّ جانب؛ قال ابن المبارك: فجِئْت إلى الفضيل، فقال: ما لي أراك كئيبًا؟ قلتُ: أمْرٌ سبَقنا إليه غيرُنا، فتَولاه دوننا، وقصَصتُ عليه القصة، فصاح الفُضيل، وخرَّ مَغشيًّا عليه".
ويُروى أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استَسقى بالعباس - رضي الله عنه - فلمَّا فرَغ عمر من دُعائه، قال العباس: اللهم إنه لَم ينزل بلاءٌ من السماء إلا بذنبٍ، ولَم يُكشَف إلاَّ بتوبة، وقد توجَّه بي القوم إليك؛ لمكاني من نبيِّك -صلى الله عليه وسلم- وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، وأنت الراعي لا تُمهل الضالة، ولا تَدع الكبير بدار مضيعةٍ، فقد ضرَعَ الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفَعَت الأصوات بالشكوى، وأنت تعلم السرَّ وأخْفَى، اللهم فأغْثِهم بغياثك، قبل أن يَقنطوا فيَهلِكوا؛ فإنه لا يَيْئَس من روح الله إلاَّ القوم الكافرون، قال: فما تَمَّ كلامَه، حتى ارتفَعَت السماء مثل الجبال، والله المستعان.
أخي يا بن الإسلام، الدعاء والمُناجاة والتضرُّع والافتقار بالأسحار، عبادة لها لذَّة، وفي رمضان لها طعْمٌ آخرُ، ومَذاق خاص، والسعيد السعيد مَن قام في السَّحر يناجي ربَّه ويتملَّقه؛ ليستنشقَ نَسيم الأُنس بالله، فوالله ثم تالله، لو شَمَمت نسيمَ الأسحار، لاستفاقَ منك قلبُك المخمور.
الوسيلة الرابعة والستون: أحْسِن الظنَّ بالمسلمين، وإياك وسوءَ الظنِّ بهم من غير ضرورة:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((إيَّاكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث)).
فإذا رأيتَ - أخي الحبيب - من أخيك الذي تعلم عقيدته ومَنهجه الصحيح واتِّباعه للنبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتَ منه شيئًا رابَك، أو سَمِعته، فأحْسِن الظنَّ؛ حتى يتبيَّن لك وجْه الحق، وإلاَّ فهذا باب خطير للتدابُر والشَّحناء، نسأل الله السلامة والعافيةَ.
الوسيلة الخامسة والستون: الاجتهاد في العشر الأواخر:
ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخَل العشر شدَّ مِئزره، وأحْيا ليله، وأيْقَظ أهله"، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "أحيا الليل، وأيْقَظ أهله، وجَدَّ وشَدَّ المِئزر"، وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"، وفي صحيح البخاري: ((لا تواصِلوا، فأيُّكم أرادَ أن يواصِلَ، فليواصِل إلى السَّحر))، قالوا: فإنَّك تواصِل يا رسول الله؟ قال: ((إني لستُ كهيئتكم؛ إني أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يَسقيني))، وأخرَج ابن أبي عاصم بإسناد قال عنه ابن رجب: إنه مُقارب، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان، قام ونام، فإذا دخَل العشر شدَّ المِئْزَر، واجتنَب النساء، واغتسَل بين الأذانين، وجعَل العشاء سحورًا"، وفي الصحيحين عنها أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى.
تُحَصِّل - أخي ابن الإسلام - من هذه الأحاديث بعضَ السُّنن المؤكدة التي يجب الاعتناء بها في العشر الأواخر، وهي من أهم وظائف هذا الشهر الكريم؛ لأنها فورة الوداع ومِسك الختام، وسأُلخص لك هذه السُّنن مع الكلام عن شيءٍ يسير من فِقهها وأسرارها، والله المستعان.
أولاً: إحياء الليل كله، ويدل عليه ظاهر قول عائشة: "أحيا الليل"، ويَشهد لهذا الأمر أيضًا قولُها: "جَدَّ"؛ أي: اجتَهَد وبالَغ في الطاعة والعمل، وهذه هي العزيمة اللازمة في أُخريات رمضان، فيجب تقليل النوم قدْر الإمكان، وجعْله في النهار، وشغْل الليل بالصلاة والذِّكر، وقراءة القرآن.
وقد ورَدَت عن بعض السلف آثار في بيان المراد بإحياء الليل، وأنه تَحصل بقيام غالبه، وهو قريب من الأوَّل، أو إحياء نِصْفه، وقيل: تحصيل فضيلة الإحياء بساعة، ونُقِل عن الشافعي وغيره أنَّ فضيلة الإحياء تحصل بأن يُصلي العشاء في جماعة، ويَعزم على أن يُصلي الصُّبح في جماعة، وفيه نظر؛ لأنه يتنافى مع مقاصد الحديث، وهو ضرورة البَذْل الزائد المُفضي للتأهُّل للمغفرة العامة، والله أعلم.
وهذا الإحياء المذكور يشمل كلَّ ليالي رمضان بوجْهٍ عام، والعشر الأواخر بوجْه خاصٍّ، وليلة القدر بأخص.
ومثل هذا الاجتهاد يحتاج إلى إعداد وعزيمة، ومُجاهدة ومُكابدة للنوم والتعب من جُهد العبادة، ويساعد على ذلك قلة الطعام، وتنويع العبادات بين قيام وركوع وسجود، وذِكر وتلاوة القرآن، وصُحبة العابدين لشَحْذ الهِمَم، وجِماع ذلك كله أن يَستمطر العونَ والمَدد والألطاف من الله - عزَّ وجلَّ - فهو القادر على أن يُقيمَك بين يديه الدهر كلَّه، دون نصَبٍ أو إرْهاقٍ أو سآمة.
ثانيًا: إشاعة الأجواء الإيمانيَّة في البيوت؛ بِحَثِّ الأهل على الاجتهاد في الطاعة والعمل، وإيقاظهم لصلاة التهجُّد، ويدلُّ على ذلك قول عائشة: "وأيْقَظ أهله".
ثالثًا: شدُّ المِئْزر، والمراد به على الراجح: اعتزال النساء، وعدم الجِماع والمباشرة والاستمناء، ووجهه كون النبي -صلى الله عليه وسلم- معتكفًا في المسجد؛ لطلب ليلة القدر، والمعتكف مأمور بمُجانبة النساء، ويؤخَذ من هنا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يَعتزل نساءَه، ويتفرَّغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
رابعًا: الاعتكاف؛ قال ابن رجب: وإنما كان يَعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر؛ قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتحلِّيًا لمناجاة ربِّه وذِكره ودعائه، وكان يَحتجر حصيرًا يتخلَّى فيها عن الناس، فلا يُخالطهم ولا يُشْغَل بهم، وذهَب الإمام أحمد إلى أنَّ المعتكِف لا يُستحبُّ له مُخالطة الناس، حتى ولا لتعليم عِلمٍ وإقراء قرآنٍ، بل الأفضل له الانفرادُ بنفسه، والتخلِّي بمناجاة ربِّه وذِكره ودُعائه.
وهذا الاعتكاف هو الخَلوة الشرعيَّة، وإنما يكون في المساجد؛ لئلا يُترك به الجُمَع والجماعات، فإن الخَلوة القاطعة عن الجُمَع والجماعات منهيٌّ عنها؛ سُئِل ابن عباس عن رجلٍ يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يَشهد الجُمعة والجماعة؟ قال: هو في النار، فالخَلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد، خصوصًا في شهر رمضان، وخصوصًا في العشر الأواخر منه؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فالمعتكِف قد حبَس نفسه على طاعة الله وذِكره، وقطَع عن نفسه كلَّ شاغلٍ يَشغله عنه، وعكَف بقلبه وقالَبه على ربِّه، وما يُقرِّبه منه، فما بَقِي له همٌّ سوى الله وما يُرضيه عنه.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطْعُ العلائق عن الخلائق؛ للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قَوِيت المعرفة بالله والمحبَّة له والأُنس به، أوْرَثَت صاحبها الانقطاعَ إلى الله بالكليَّة على كلِّ حال، وكان بعضهم ما يزال منفردًا في بيته، خاليًا بربِّه، فقيل له: أمَا تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: "أنا جليس مَن ذكَرني"، وسيأتي الكلام عنه في الوسيلة الثالثة والسبعين -إن شاء الله تعالى.
خامسًا: إقلال الطعام للغاية، أو الوصال للسَّحر، وقد اختلَف العلماء في هذا الوصال، والصحيح - إن شاء الله - أنَّ الوصال إلى السَّحر فقط جائز؛ لما في البخاري: ((فأيُّكم أراد أن يواصِل، فليواصِل إلى السَّحر))، والغاية منه كما قال العلماء: خَواء البطن وشرايين الشهوات من مادة الثوران، وخَواء البطن مَجْلَبة لامتلاء القلب بصنوف المعارف، وكلما ازدَاد الجوع وألَمه، رقَّ القلب ولانَ وخشَع؛ قال ابن رجب: ويتأكَّد تأخير الفطر في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر، قال زِرّ بن حُبَيْش في ليلة سبع وعشرين: "مَن استطاع منكم أن يؤخِّر فطره، فليفعل، وليُفْطِر على ضياح اللبن"، وضياح اللبن - ورُوِي ضيح اللبن - هو اللبن الخائر الممزوج بالماء.
سادسًا: الاغتسال بين المغرب والعشاء كلَّ ليلة من العشر الأواخر، وقد ورَدت فيه بعض الأحاديث الضعيفة والآثار المستفيضة عن سلف هذه الأُمَّة في التنظيف والتزيُّن والتطيُّب بالغسل والطِّيب، واللباس الحَسَن، وهي مشمولة بالنصوص العامة الآمِرة بالتنظُّف والتزيُّن والتطيُّب، والمستقرئ لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والسلف يَجزم بحِرْصهم على الاغتسال في أزمنة العبادة ومواسم الطاعة.
واعلم أيُّها النابه، أنَّ كلَّ هذه الوظائف تحوم حول تحصيل ليلة القدر وموافقتها، وهي ليلة حَرِىٌّ بالمسلم أن يستميتَ في تحصيل فضْلها وثوابها، ولا تنفع الأماني والأحلام في إثبات تَحَرِّيكَ لها، بل لا بدَّ من التشمير، وأن تُرِيَ الله من نفسك خيرًا؛ حتى يرى إقبالك فيَقبلك، واجتهادك فيَلْطُف بمقامك، ويَهِبك منشور الولاية، ويَضع اسْمك في ديوان العُتقاء من النار.
- لا تُهمل الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطعْتَ إلى ذلك سبيلاً؛ فإنها من صميم رسالتك في هذا الوجود، فوق كون هذا الأمر ثمرة النُّسك وتعظيم الأمر والنهي، وترْكه مُؤْذِنٌ بجَعْل الطاعات والعبادات بلا طعمٍ أو ثمرة، وما ثمرة صفِّ الأقدام أمام ربٍّ يتجاوز الناسُ حُرُماته، ويُجاهرونه ويُبارزونه بالمعصية وأنت لا تغضب له؟!
فإذا عجَزت عن الدعوة إليه، ودَلالة الناس عليه، وأمرهم بالمعروف ونَهْيهم عن المنكر، فاعْتَذِر إلى الله تعالى بإلقاء النصيحة، ولا عليك أن يترَكَها الناس؛ ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
• لو كنت إمامًا أو خطيبًا أو داعيًا، فاجْتَهِد أن يكون لك دورٌ مع الناس في وصولهم إلى خالقهم ومَلِيكهم؛ فالدلالة على الله مهنة الأنبياء والرُّسل، وما إخال الدالَّ على الله محجوبًا عن الدخول مع الداخلين، ثم لا تَنس تشديد الحساب على نفسك في طاعتها، خاصة فيما تأتيه جَهرة، كإمامة أو خطابة، حتى تُنقِّي بواطِنَك من وَالِجَات الهوى.
• لو ضاع منك معظمُ الشهر، فلا تَحرِم نفسك الاجتهادَ في باقيه، ولا يُلْقِيَنَّ الشيطانُ في قلبك اليأسَ، فتقْعُد عن الاجتهاد، فلا يَبعد أن تُرى مع المشمِّرين، فيَهِبك الله لهم، فتَسْعد:
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ المُدَلَّلِ
تَمْشِي الهُوَيْنَى وَتَجِي فِي الأَوَّلِ
• إذا لَم يقع عليك الهمُّ من خوف الردِّ وعدم القَبول، فهو أمارة سوءٍ، فمن صفات المتقين أنهم: ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، قال مالك بن دينار: الخوف على العمل ألاَّ يُتقبَّل أشدُّ من العمل، وقال عطاء السُّلَيْمي: الحذَر على العمل ألاَّ يكون لله، وقال عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد: أدركْتُهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعَلوه وقَع عليهم الهمُّ: أيُقبَل منهم أم لا؟!
قال ابن رجب: كان بعض السلف يظهر عليه الحزنُ يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرحٍ وسرور، فيقول: صدقتُم، ولكني عبدٌ أمرَني مولاي أن أعملَ له عملاً، فلا أدري أيَقبله منِّي أم لا؟!
رُوِي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري، من هذا المقبول فنُهنِّيه؟ ومَن هذا المحروم فنُعزِّيه؟:
تَرَحَّلَ الشَّهْرُ وَالهَفَاهُ وَانْصَرَمَا
وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ فِي الجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا
وَأَصْبَحَ الغَافِلُ الْمِسْكِينُ مُنْكَسِرًا
مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا
مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَا
تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلاَّ الهَمَّ وَالنَّدَمَا
• لا تَجزع من هَوْل التبعات وضِيق الأوقات بالعمل والدراسة ورعاية الأهل، إلى آخر هذه المنظومة، وكذلك المرأة لا يَهُولَنَّها ضخامة ما تقوم به من تربية الأولاد ورعاية البيت؛ فكل هذا
• وإن تفاقَم - لا يمنع القيام بواجب الخدمة للمعبود، والبَذل في هذا الشهر.
وسببُ تحاشي أولئك أنهم مُتَّكِلون على قوَّتهم، معتمدون على مهارتهم، فهنا يُوكَلون إلى ضَعفهم وعَورتهم، أمَّا صِدْق اللجوء إلى الله تعالى، فهو كفيل بقلب قوانين الزمان والجهد والقوَّة، فيَضحى اليوم مديدًا دون أن تشعرَ، وقوَّتك التي كانتْ تَخور أمام الأحمال الثِّقال، تراها عند الطاعات وثَّابة!
أمَا تعجَب من الصحابة، كيف كانوا يَغزون وزادُهم تمرات يَمصونها، فيُقِمْنَ أصلابَهم أمام أعدائهم؟!
بِاللهِ ثِقْ وَلَهُ أَنِبْ وَبِه اسْتَعِنْ
فَإِذَا فَعَلْتَ فَأَنْتَ خَيْرُ مُعَانِ
• لا تُخلِ الأوقات من عمل نافعٍ، وقيِّد عندك البدائل، حتى إذا ما داخَلتْ نفسَك السآمةُ من عمل، كان عندك غيره ليَشْغَلك، وسيأتي - إن شاء الله - خُطة يوم تَنال به الجنة بفضْل الله تعالى، فاحرِص ولا تُفرِّط.
الوسيلة السادسة والستون: قيام ليلة القدر:
إن الرَّتابة الدائمة، والسير على وتيرة واحدة في الحياة، يَبعث على السآمة والمَلل، لكن الإسلام العظيم أعطى الحياة طعمًا آخرَ ترمي به خلف ظهرها كلَّ سآمة ومَللٍ، ففي الصلوات الخمس كسْرٌ لرَتابة اليوم، وفي صلاة الجمعة كسْر لرَتابة الأسبوع، وفي شهر رمضان كسْرٌ لرتابة العام، وفي ليلة القدر كسْرٌ لرتابة ليالي الشهر، وفي كل محطة من هذه المحطَّات يجدِّد الإنسان إيمانه، ويعيش حياة جديدة حين يَقِف على معانٍ يتذوَّقها لأوَّل مرة؛ لتُعيده إلى الصواب إن كان قد انحرَف، وترفع هِمَّته إن كان قد وَهَن أو كَسِل، والله - سبحانه - هو الذي بيده اختصاص التفاضل، فهو الذي فضَّل بعض النبيين على بعض، وفضَّل بعض الشهور على بعضٍ، وفضَّل بعض الأوقات على بعض، بل وفضَّل بعضَ الطعام على بعض؛ ﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾ [الرعد: 4]، ومن ذلك تفضيله لليلة القدر على سائر الليالي.
وقد سُمِّيَت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لخطرها وشرَفها على جميع الليالي، أو كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]: "يُكتب في أمِّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزقٍ أو موتٍ، أو حياةٍ أو مطرٍ، حتى يُكتب الحاجُّ؛ يحجُّ فلان، ويحجُّ فلان".
فليلة القدر أفضل ليالي السنة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 - 3]؛ أي؛ إنَّ العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذِّكر وغير ذلك، خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ قال الإمام الرازي: "واعلم أنَّ مَن أحياها، فكأنما عبَد الله تعالى نيِّفًا وثمانين سنة، ومَن أحياها كلَّ سنة، فكأنما رُزِق أعمارًا كثيرة"، لكنَّ الأمر أعظمُ مما قال الإمام وأغلى، وتأمَّل قوله تعالى: ﴿ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾، ولَم يقل: كألف شهر، وذلك - والله أعلم - إشارة إلى أنها خيريَّة مُطلقة ليس للعدد فيها مفهومٌ، وكلما كان العبد أشدَّ إخلاصًا لله، وأكثر إقبالاً عليه، كانتْ مُضاعفة ثوابه أعظمَ، ألاَ ما أعظم هذه الليلة! ليلة من أنوارها كأنها نهار، ليلة هي أحلى حسنات الدهر، وأطْيَب لحظات العُمر، نعم والله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾، ليلة تُفَتَّح فيها الأبواب، ويُقََرَّب فيها من تابَ، ولا يُرَدُّ مَن طرَق الباب، بل يُسمَع منه الخطاب، ويأتي على الفور الجواب، فيُكتَب له الليلة ما لا يُدركه العقل من الثواب، فماذا أنتم فاعلون؟!
يا مَن ضاع عُمره في لا شيء، اسْتَدْرِك ما فاتَك الليلة، فإنها تَعدِل العُمر كلَّه، بين يديك الجواهر والدُّرر، فلا تُضيِّع عُمرك في الطين والمدر، فالعِبرة ليست بطول الأعمار، بل بما تَحويه من أعمال الأبرار، وليس المهم أن تمتدَّ بك الحياة، ولكنَّ المهمَّ أن تملأها بالخير، ورُبَّ لحظة واحدة من مُجتهد خير من أيام الحياة كلها من غافلٍ بليد، فاقْتَنِص كلَّ لحظة اليوم، ولا تُفَرِّط في رأس مالك؛ فإنه لا يُعوَّض.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحرِّيها؛ لذا كان يوقِظ أهله ليالي العشر؛ رجاء أن يدركوها، بل وحثَّ على قيامها بأبلغ العبارات، وأعظم الترغيب والتشويق في قوله في الصحيحين: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، مع قوله في الحديث الآخر الصحيح: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، وهو في صحيح الجامع، وقد يُقال: إنَّ أحدهما يُغني عن الآخر؛ فليلة القدر ليلة من ليالي رمضان، فلِمَ هذا التخصيص بعد التعميم؟! وإذا عُرف السبب، بطَل العجب كما يقولون، والسبب يُخبرنا به الإمام النووي، فيقول: "قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها، سببٌ لغُفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لِمَن وافَقها وعرَفها، سببٌ للغفران - وإن لَم يَقُمْ غيرها".
قُلْت: فإنْ وفَّقه الله تعالى للاثنين معًا، غُفِرت ذنوبه، وما تبقَّى له من الأجر العظيم والثواب الجزيل تُرفَع به درجاته في جنات النعيم - إن شاء الله تعالى - والله أعلى وأعلم.
ولَم يُحدِّدها النبي -صلى الله عليه وسلم- بليلة معيَّنة، بل قال في الحديث الذي صحَّحه الألباني: ((إني أُرِيت ليلة القدر، ثم أُنْسِيتها، فالْتَمِسوها في العشر الأواخر في الوِتر))، وفي الحديث الذي حسَّنه الألباني: ((ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدد الحَصى))، وصحَّح الألباني حديث: ((الْتِمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان))، وروى أحمد بإسنادٍ صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن كان متحرِّيًا، فليتحرَّها ليلة سبع وعشرين؛ يعني: ليلة القدر))، وروى أحمد عن ابن عباس أنَّ رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبيَّ الله، إني شيخ كبير عليلٌ، يشقُّ علىَّ القيام، فأمُرني بليلة؛ لعلَّ الله يوفِّقني فيها لليلة القدر، فقال: ((عليك بالسابعة))، وروى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذي، وصحَّحه عن زِرِّ بن حُبَيْش، قال: سَمِعت أُبَي بن كعب يقول - وقيل له: إنَّ ابن مسعود يقول: مَن قام السنة، أصابَ ليلة القدر - فقال أُبَي: والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان - يَحلف ما يَستثني - والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة سَبع وعشرين، وأمارتها أن تطلُعَ الشمس في صبيحة يومها لا شُعاعَ لها"، وفي رواية قال أُبَي: "والله لقد عَلِم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكن كَرِه أن يُخبرَكم، فتتَّكِلوا".
لكن الذي يَغفُل عنه كثيرٌ من الناس أنه لا يَلزم من تخلُّف العلامة عَدَمها، ورُبَّ قائمٍ فيها لَم يَرَ من علاماتها شيئًا، وهو أفضل عند الله وأكرم ممن رآها، لكنه كَسِل ونامَ.
وللعلماء في تعيين هذه الليلة آراءٌ، فمنهم مَن يرى إنها ليلة الحادي والعشرين، ومنهم مَن يرى إنها ليلة الثالث والعشرين، ومنهم مَن يرى إنها ليلة الخامس والعشرين، ومنهم مَن ذهَب إلى إنها ليلة التاسع والعشرين، ومنهم مَن قال: إنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر الأواخر، وأكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين؛ قال ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذَكر ستة وأربعين قولاً في تعيينها: "وأرْجحُها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأرجاها ليلة سبع وعشرين".
والذي أراه ألاَّ يَستغرق تحديدُها منَّا كثيرَ وقتٍ وطولَ نقاشٍ في شهر نحن أحوجُ ما نكون فيه إلى اغتنام كلِّ لحظة، وقد قال البغوي: وفي الجملة أبْهَم الله هذه الليلة على هذه الأُمَّة؛ ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان؛ طمعًا في إدراكها، كما أخْفَى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخْفَى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسْمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات؛ ليَرغبوا في جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليَجْتهدوا في الطاعات حَذرًا من قيامها.
إذا تقرَّر هذا وعَلِمت أخي يا بن الإسلام ما ورَد في الحثِّ عليها، فاعْلَم أنه ينبغي لكلِّ موفَّق مُريد للكمال والسعادة الأبديَّة أن يبذُل وُسْعه، ويَستفرغ جُهده في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان وقيامها؛ لعلَّه يُصادف تلك الليلة الجليلة التي اختصَّ الله بها هذه الأُمَّة، وآتاهم فيها من الفضل ما لا يَحصره العددُ.
قال الإمام الشَّعْبي في حقِّ ليلة القدر: "ليلها كنهارها"، وقال الشافعي: "أستحبُّ أن يكون اجتهادُه في نهارها كاجتهاده في ليلها"، وهي لفتة ذكيَّة؛ فاغتنام هذه الليلة لا بدَّ له من إعداد وتجهيز، ويَستغرق ذلك أغلبَ ساعات النهار، حتى إذا ما بدأت الليلة، لَم يَضِع منها شيء؛ فالفضل اليوم لا يُقدَّر بثمنٍ، وضياع الدقيقة خسارة فادحة، واللحظة الواحدة غالية غالية، ولن يعرفَ المُفرِّط فداحة خسارته إلاَّ يوم القيامة، ولاتَ ينفع الندم، فتأسَّف على كلِّ ساعة من ساعات هذه الليلة مرَّت فارغة من الذِّكر، وابْكِ على كلِّ لحظة لا يُؤْنِسك فيها مصحفٌ ولا دعاء.
فيا أخي الحبيب، إنَّ هذا عشر شهر مبارك الليالي والأيام، وهو سبب لِمَحو الذنوب والآثام، وفيه يتوفَّر جزيل الشكر والإنعام، فاعتذِر إلى المولى الكريم، وأقْبِل بقلبك عليه، وقِفْ بالخضوع لَدَيه، وانكسِر بين يديه؛ فإنه رحيم كريم.
أخي الحبيب، أنت الآن في رمضان، وهو وَحْده عُمر طويل، لِمَن رامَ الثواب الجزيل؛ فإن في لياليه ليلةً واحدة خيرٌ من ألف شهر، فاجتهِد - رَحِمك الله - بإخلاص الأعمال لله، وبادِر بالتوبة والاستغفار، والاجتهاد إلى ذي الجلال والإكرام، واعْلم أخي أنَّ الموتى في قبورهم يتحسَّرون على زيادة في أعمالهم: بتسبيحة، أو تحميدة، أو ركعة، رُئِي بعضهم في المنام فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغَفلة، وفي الترمذي: ((ما من مَيِّت يموت، إلاَّ نَدِم؛ إن كان مُحسِنًا، نَدِم ألاَّ يكون ازدادَ، وإن كان مُسيئًا، نَدِم ألاَّ يكون نَزَع)).
فاجْتَهِد أخي غاية ما تستطيع من الاجتهاد، وتحرَّ ليلة القدر، وأكْثِر من الدعاء، ولا سيَّما بالعفو؛ فقد روى أحمد وابن ماجه والترمذي وصحَّحه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ عَلِمت أيُّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ، فاعفُ عني)).
والعفو اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المتجاوز عن سيِّئات عباده، الماحي لآثارها وإن عَظُمت، وفي الحديث إشارة إلى أنَّ شِدَّة حياء العبد من ربِّه، تُوجِب عليه سؤالَ العفو لا الرضا؛ إذ الرضا لا يكون إلا للمتطهِّرين من الذنوب، وأمَّا مَن تلطَّخ بالمعاصي، فلا يَليق به إلا سؤال العفو! لكن لماذا سؤال العفو حتى بعد اجتهاد أيام العشر؟! يُجيبك ابن رجب - رحمه الله - فيقول: "إنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأنَّ العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يَرَوْن لأنفسهم عملاً صالحًا، ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصِّر".
أخي يا بن الإسلام، من فِقْه الرجل اليوم - وهو يتعبَّد في ليلة القدر - أن يعلمَ مقياس تفاضُل العبادات وتمايُز القُربات، فيقرأ الحديث الذي صحَّحه الألباني في صحيح الجامع: ((موقف ساعة في سبيل الله، خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجَر الأسود))، يقرأ ذلك ثم يشعر بازْدراء نفسه أنها ليْسَت في صفوف المجاهدين اليوم، ولا تَلبس عُدَّة الحرب، ثم يُتبع هذا الازدراء بعملٍ، ينوي نيَّة لا يعلم صِدقَها إلاَّ الله أنه سيبدأ المسير فورَ سماع النَّفير، ويقدِّم دليل صِدقه، وشهادة إخلاصه؛ وهو أن تُسيطر على أحلامه منذ اليوم تفاصيلُ الموتة المطَهَّرة، والمصرع الرائع، المُسَمَّى في عُرف الإسلام: شهادة.
وأنتِ - أُخيَّتي يا بنت الإسلام - لا تَظني نفسك بعيدة عن هذا الميدان، معذورة بالقعود عن القتال، فأين قلبك الحي إذًا؟! أين عزمك الفَتِيُّ تُجاه ما يحدث لذراري المسلمين؟! ألا تُجاهدين عدوَّنا ولو بالنيَّة الصادقة؟! ألا تُريدين أن تكوني ممن وصَفهم ابن الجوزي بقوله: "ولله أقوامٌ ما رَضُوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يُبالغون في كلِّ علْمٍ، ويَجتهدون في كلِّ عملٍ، ويُثابرون على كلِّ فضيلةٍ، فإذا ضَعُفت أبدانُهم عن بعض ذلك، قامَت النيَّات نائبةً وهم لها سابقون".
وما تكون هذه النيَّات اليوم إن لَم تكن الغزو والشهادة؟!
الوسيلة السابعة والستون: عليك بهذه النصائح؛ حتى يعينك الله تعالى على استثمار رمضان:
• إياك والظلم؛ فإنه مُحرَّم وعاقبته وخيمة أليمة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم: ((اتَّقوا الظلم؛ فإن الظلمَ ظلمات يوم القيامة)).
• ومع التحذير من الظلم يأتي الحَثُّ على التحلُّل من المظالَم، وهذا الأمر من الواجبات التي غفَل عنها أكثر الناس، فترى الواحد منهم يَظلم مَن حوله، وهو يعلم أنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة؛ روى البخاري وأحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن كانت له مَظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء، فليَتَحَلَّلْه منه اليوم، قبل ألاَّ يكون دينار ولا دِرهم، إنْ كان له عملٌ صالح، أُخِذ منه بقدْر مَظلمته، وإن لَم تكن له حسنات، أُخِذ من سيِّئات صاحبه، فحُمِل عليه))، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما عند الطبراني في الكبير، وصحَّحه الألباني: ((اتَّقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تُحْمَل على الغمام، يقول الله: وعِزَّتي وجلالي، لأنْصُرنَّك ولو بعد حين))، وروى أحمد والبزَّار بإسناد حسن أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتَّقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس دونها حجابٌ)).
• إيَّاك والغيبة والنميمة، والكلام في أعراض الناس وأكْل لحومهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((أتدرون ما الغِيبة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذِكرك أخاك بما يَكره))، قيل: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إنْ كان فيه ما تقول، فقد اغْتَبتَه، وإن لَم يكن فيه ما تقول، فقد بَهَتَّه)).
والنميمة هي نَقْل الكلام على جهة الإفساد؛ قال تعالى: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة نَمَّام)).
وأنْصَحك - أخي يا بن الإسلام - بسَماع محاضرة: "آفات اللسان"؛ للدكتور: محمد إسماعيل المقدّم - حَفِظه الله - فستجد خيرًا كثيرًا.
• إيَّاك أن تتمنَّى الموت بسبب ضررٍ نزَل بك، إلاَّ أن تخافَ الفتنة في الدين؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((لا يتمنَّى أحدُكم الموت؛ إمَّا مُحسنًا فلعلَّه يَزداد، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّه يَستعتِب))، وفي رواية: ((لا يتمنَّى أحدكم الموت، ولا يَدْعُ به من قبل أن يَأتِيَه؛ إنه إذا مات انقطَع عمله، وإنه لا يَزيد المؤمنَ عمرُه إلاَّ خيرًا))، وفي الصحيحين أيضًا: ((لا يَتمنَّيَنَّ أحدكم الموت لضَررٍ أصابه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً، فليقل: اللهم أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).
• إياك أن تغضَبَ إلاَّ إذا انتُهِكت حُرُمات الله؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، وقال -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال له: أوْصِني، قال: ((لا تَغْضَبْ))، فردَّد مرارًا، قال: ((لا تَغْضَبْ))؛ كما رواه البخاري.
• لا تكنْ صاحبَ وجهين، تأتي هؤلاء بوَجْه، وهؤلاء بوَجْه آخرَ؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجْهٍ)).
• احْذر شهادة الزور؛ فإنها محرَّمة، بل من أكبر الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر؟))، قلنا: بلى، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان مُتَّكئًا، فقام فجَلَس، فقال: ((ألاَ وقول الزور، وشهادة الزور))، فما زال يُكرِّرها؛ حتى قلنا: ليْتَه سكَت.
• إيَّاك أن تلعنَ إنسانًا بعينه أو دابَّة؛ فإنه محرَّم؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((لا يَنبغي لصِدِّيق أن يكون لعَّانًا))، وعنده أيضًا: ((لا يكون اللعانون شُفعاءَ ولا شُهداءَ يوم القيامة)).
أمَّا اللعن الجائز، فهو لَعْنُ الصفات، واللعن العام، كمَن يَلعن الظالمين والفاسقين، وغير ذلك، أما اللعن الخاص، فلا يجوز إلاَّ بدليل.
• إيَّاك أن تَسُبَّ المسلمين؛ سواء الأحياء منهم أو الأموات؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((سِباب المسلم فُسوق، وقِتاله كُفر))، وقال كما عند البخاري: ((لا تَسبُّوا الأموات؛ فإنهم قد أفْضَوْا إلى ما قدَّموا)).
• إيَّاك أن تَحسُدَ أحدًا على ما آتاه الله من فضْله؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((لا تتباغَضوا، ولا تَحاسدوا، ولا تَدابَروا، ولا تقاطَعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاث)).
• إيَّاك والتجسُّس والتسمُّع لكلام مَن يَكْره استماعك؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((ولا تجسَّسوا، ولا تنافَسوا، ولا تَحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاثٍ)).
• إياك أن تحتقر أحدًا من إخوانك المسلمين، أو تَسْخَر منه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]، وقال -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم: ((بحَسْب امرئ من الشرِّ أن يَحقِرَ أخاه المسلم)).
• احْذَر من أكْل الرِّبا؛ فإنه من أكبر الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 279].
فأبْشِر يا آكل الربا بحربٍ من الله ورسوله! وفي الصحيحين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اجْتَنِبوا السَّبع الموبقات))، قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: ((الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتْل النفس التي حرَّم الله قتْلَها إلا بالحقِّ، وأكْل مال اليتيم، وأكْل الرِّبا، والتولِّي يوم الزحف، وقَذْف المُحْصَنات الغافلات المؤمنات))، وقد لَعَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكلَ الربا ومُوكله؛ كما روى مسلم.
• إياك أن تحلقَ بعض رأْسك وتترك البعض، وهو ما يسمَّى بالقَزَع؛ فقد نَهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين.
• لا تَقتنِ كلبًا إلاَّ كلبَ صيدٍ، أو ماشية، أو زرعٍ؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((مَن اقتَنى كلبًا إلا كلبَ صيد أو ماشية، فإنه يَنقص من أجْره كلَّ يوم قيراطان)).
• إياك أن تَحلفَ بالله كاذبًا عامدًا؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((مَن حَلَف على مال امرئ مسلم بغير حقٍّ، لَقِي الله وهو عليه غضبان)).
• لا تمرَّ بين يدي المصلي في الصلاة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: ((لو يَعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقفَ أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه))، قال الراوي: "لا أدري قال: أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين سنة".
• إياك أن تتبوَّل أو تتغوَّط في طريق الناس وظلِّهم، وموارد المياه ونحوها؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وفي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا اللعَّانَيْن))، قالوا: وما اللعَّانان؟ قال: ((الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظِلِّهم)).
• لا تُشِر إلى مسلم بسلاح ونحوه؛ سواء كنت جادًّا أو مازحًا؛ ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يُشِيرُ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يَدري لعلَّ الشيطان يَنزع من يده، فيقع في حُفرة من النار)).
• إيَّاك وإضاعة المال في غير وجوهه التي أَذِن فيها الشرع؛ فقد روى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تَعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تَفرَّقوا، ويَكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
• هناك الكثير من المُحرَّمات انتشَرَت بين المسلمين، وهذه المحرَّمات تُعتبَر سببًا رئيسًا في ضياع رمضان منهم، فعليك أخي يا بن الإسلام - إن أردتَ أن تستغلَّ رمضان - أن تَجتنبَ هذه المعاصي والمُحرَّمات، وحتى لا أُثقل عليك أكثر من ذلك، سأذكر لك هذه المحرَّمات مختصرةً، فاجْتَنِبْها، وإن أردَت زيادة تفصيل، فارجِع إلى الكتب المعنيَّة بهذا الشأن، ككتاب "تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين"؛ لابن النحاس الدمشقي، أو كتاب "محرَّمات استهان بها الناس، يجب الحَذر منها"؛ للشيخ: محمد صالح المنجد، وهو الذي أَنْقُل عنه هنا - إن شاء الله - فإن أردْتَ دليلاً أو زيادة توضيحٍ، فارجِع إليه.
• الإشراك بالله، وهو أعظم المُحرَّمات على الإطلاق، ومنه ما هو أكبر، مُخرج عن مِلة الإسلام، وصاحبه مُخلَّد في النار إن مات على ذلك، ومن مظاهر هذا الشِّرك المنتشرة في كثيرٍ من بلاد المسلمين عبادة القبور، والنَّذر لغير الله، والذَّبح لغير الله، وتحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله، أو اعتقاد أنَّ أحدًا يَملك الحقَّ في ذلك غير الله، أو التحاكُم إلى المحاكم والقوانين الجاهليَّة عن رضا واختيار مُستحِلاًّّ ذلك، ومن أنواع الشِّرك كذلك: السِّحر، والكهانة، والعرافة، والاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس، واعتقاد النَّفْع في أشياء لَم يَجعلها الخالق كذلك، الرِّياء بالعبادات، الطِّيرَة، الحَلِف بغير الله، الجلوس مع المنافقين والفُسَّاق استئناسًا بهم، أو إيناسًا لهم، ترك الطمأنينة في الصلاة، العَبَث وكَثرة الحركة في الصلاة، سَبْق المأموم لإمامه في الصلاة عمدًا، إتيان المسجد لِمَن أكَل بصلاً أو ثومًا أو ما له رائحة كريهة، الزنا، اللواط، امتناع المرأة من فراش زوجها بغير عذرٍ شرعي، طلب المرأة الطلاق من زوجها من غير عُذرٍ شرعي، الظِّهار، وَطء الزوجة في حَيْضها، إتيان المرأة في دُبرها، عدم العدل بين الزوجات، الخَلوة بالأجنبيَّة، مُصافحة المرأة الأجنبية، تَطَيُّب المرأة عند خروجها، ومُرورها بعِطْرها على الرجال، سفر المرأة بغير مَحْرَم، تَعَمُّد النظر إلى المرأة الأجنبيَّة، والعكس، وكذلك النظر إلى الأمرد بشَهْوة، وكذلك نَظَرُ الرجل إلى عَورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة، وكل عورة لا يجوز النظر إليها لا يجوز مَسُّها ولو من وراء حائل، الدِّياثة، التزوير في انتساب الولد لغير أبيه وأمِّه، وجَحْد الرجل لولده، كتْمُ عيوب السلعة، وإخفاؤها عند بيعها.
بيع النجش، البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة، القمار والمَيْسِر، السرقة، أخْذ الرِّشوة وإعطاؤها، غصْبُ الأرض، قَبول الهَديَّة بسبب الشفاعة، استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجرَه والعكس، عدم العدل في العطيَّة بين الأولاد، سؤال الناس المالَ من غير حاجة، الاستدانة بدَيْنٍ لا يُريد وفاءَه، سَماع المعازف والموسيقا، الاطلاع على بيوت الناس دون إذنٍ، تناجي اثنين دون الثالث، إسبال الثياب، تحلِّي الرجل بالذهب على أي صورة كانت، لُبْس القصير والرقيق والضَّيِّق من الثياب للنساء، وصْل الشعر بشعر مُستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء، تَشَبُّه الرجال بالنساء والعكس: في اللباس، أو الكلام، أو الهيئة، صبْغُ الشَّعر بالسواد.
تصوير ما فيه رُوح في الثياب والجُدران والورق، ونحو ذلك، والاحتفاظ بها في بيتك، فتُحْرَم من دخول الملائكة، الكذب في المنام والرُّؤى، الجلوس على القبر، والوطء عليه، وقضاء الحاجة في المقابر، عدم الاستتار من البول، سوء الجوار، المضارة في الوصيَّة، اللعب بالنَّرد، النِّياحة، ضَرْب الوجه، والوَسم في الوجه، هَجْرُ المسلم فوق ثلاثة أيام دون سببٍ شرعي.
• عمومًا: احْذَر من ارتكاب كلِّ ما نَهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ الله تعالى يَغار، وغَيْرة الله أن يأتي المرءُ ما حرَّم الله عليه)).
ولسوف أعقِد لك - بمشيئة الله - فصلاً في نهاية هذه الوسائل، أتناوَل فيه بعضَ الشرور التي يجب كَفُّها عن الناس، وكذلك بعض المحرَّمات والمكروهات والمخالفات، وما ينبغي للمسلم الحذرُ منه والبُعد عنه والتورُّع فيه، وترْك ما فيه بأْسٌ إلى ما ليس فيه، والله المستعان، وعليه التُّكلان، وهو حسبي ونعم الوكيل.
فإن كنتَ أخي يا بن الإسلام ممن تلبَّس بمعصية من هذه المعاصي أو من غيرها - وهو كثير -فتُبْ إلى ربِّك، وارْجِع إليه عازمًا على عدم العودة؛ لعلَّ الله يوفِّقك لاستثمار رمضان، فتُعْتَق من النار.
الوسيلة الثامنة والستون: استحضار النيَّة وتحسينها في جميع الأعمال:
حتى الأعمال الدنيوية، فلو نويتَ فيها نيَّة صالحة، أُثِبْتَ عليها؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى)).
الوسيلة التاسعة والستون: الحرص على الأعمال التي تُديم الحسنات بعد الموت:
فلقد علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمَّته الحرِصَ على جمْع الحسنات التي تجعل العبد ينجو من النار، ويفوز بجنة العزيز الغفَّار.
ومن شدَّة حِرْص النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ورحمته بنا، دلَّنا على تلك الأعمال التي تَجلِب لنا الحسنات حتى بعد موتنا، فقال -صلى الله عليه وسلم- كما روى ابن ماجه، وحسَّنه الألباني: ((إنَّ مما يَلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته: عِلمًا نشَره، وولدًا صالحًا ترَكه، ومُصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجْراه، أو صدقة أخرَجها من ماله في صحَّته وحياته، تَلحقه من بعد موته)).
وقال أيضًا كما روى البزَّار وحسَّنه الألباني: ((سَبْع يجري للعبد أجرُهنَّ وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفَر بئرًا، أو غرَس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترَك ولدًا يَستغفر له بعد موته))، قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "ينبغي على الإنسان أن يعرفَ شرَف زمانه، وقدْر وقته، فلا يُضَيِّعُ منه لحظة في غير قُربة، ويقدِّم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتَكُنْ نيَّته في الخير قائمة من غير فتور، فإذا عَلِم الإنسان أنه وإن بالَغ في الجدِّ بأن الموت يَقطعه عن العمل، عَمِل في حياته ما يدوم له أجْرُه بعد موته، فإذا كان له شيءٌ في الدنيا - وقَف وقفًا، أو غرَس غرسًا، أو أجْرَى نهرًا - ويسعى في تحصيل ذريَّة تَذكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يُصَنِّف كتابًا في العلم، فإنَّ تصنيف العالِم ولدُه المُخلَّد، وأن يكون عاملاً بالخير، عالِمًا فيه، فينقل من فِعْله ما يقتدي به الغير، فذلك الذي لَم يَمُت، والله أعلم، وصلى الله على محمدٍ وآله وسلم".
الوسيلة السبعون: استباق الخيرات والبحث عن الجوائز:
فما أحلى الجوائز! وما أغلاها عندما تكون من الله ربنا! تَعَمُّ فوائدها في حياتنا الدنيا، وتدوم فوائدها إلى الأبد، فابْحَث - أخي يا بن الإسلام - عن الجوائز، وأنا أَذكر لك هنا جائزتين، وليس ذلك حصرًا للجوائز، ولكن لإلقاء الضوء على هذا الأمر العظيم الفائدة، فالفرق بين المؤمنين وغيرهم هو الرغبة فيما عند الله تعالى، فاللهم أعْطِنا ولا تَحرمنا يا ربَّ العالمين.
ولسوف تَنطلق من هذه الجوائز إلى جوائزَ أخرى لا تنتهي، ولكني سأذكر لك بعض الأمثلة؛ لتتمكَّن من البحث عن الجوائز العظيمة من الله الكريم - تبارك وتعالى.
- فعندما نتوضَّأ يُعطينا الله جائزتين، الأولى: يغفر لنا جميع ما تقدَّم من الذنوب، والثانية: يَفتح لنا أبواب الجنة الثمانية؛ ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن توضَّأ هكذا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، وفيه: ((ما منكم من أحدٍ يتوضَّأ، فيُسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، إلاَّ فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء)).
فهذا مثال تسير عليه في البحث عن الجوائز العظيمة من الله الكريم، وأُضيف إليك أخي مجموعة أخرى من الأمثلة، ولكن دون أدلة؛ حتى لا أُطيل عليك، فابْحَث عن أدلتها وهي مشهورة، وابْحَث عن أعمال أخرى وجوائز أخرى، وقيِّدها في كُنَّاشِك - كُرَّاسك - لتنفع بها نفسك وغيرك وقت الحاجة، والله المستعان.
• عندما نحبِّب الناس في الدين، يُعطينا الله جائزتين: يَفتح لنا سُبل الخيرات، ويُنجينا من مهالك الدنيا والآخرة.
• عندما نقرأ آية الكرسي، يُعطينا الله جائزتين: يَحفظنا طولَ الحياة، ولا يكون بيننا وبين الجنة إلاَّ لقاء الله.
• عندما نَبِرُّ الوالدين ونَصِل الرَّحم، يُعطينا الله جائزتين: يبسط لنا في أرزاقنا، وينسَأ لنا في أعمارنا.
• عندما نُحسن معاملة الأهل، يُعطينا الله جائزتين: تَطيب حياتنا وحياة أبنائنا، وتستمرُّ حسناتنا بعد مماتنا.
• عندما نَرفُق بأهلنا، يُعطينا الله جائزتين: نكون من خير الناس، وتَمتلئ حياتنا بالخيرات.
• المرأة التي تَحتجب من دون محارمها، يُعطيها الله جائزتين: تكون من خير النساء، وتُعرَف بالعِفَّة والمَهابة.
• الزوجة المُحبة لزوجها، والتي هي سكَنٌ ودواءٌٍ له، تفوز بجائزتين: تَطِيب حياتها وحياة بيتها في الدنيا، ويكون عَمَلُها هذا مع إيمانها سببَ نعيمها في الجنة.
• عندما نُحافظ على الصلوات المكتوبات، فإننا نحصل على جائزتين: يُنجينا الله من الحريق، ويكون لنا عهدٌ عند الله أن يُدخلنا الجنة.
• عندما نقوم بالتسبيحات بعد الصلوات، فإننا نحصل على جائزتين: لا نَخيب في حياتنا أبدًا، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منَّا إلاَّ مَن يَصنع مثلنا.
• عندما نقول: "سبحان الله وبحمده" مائة مرة، يُعطينا الله جائزتين: يَغفر لنا ما تقدَّم من الذنوب ولو كانت مثل زَبَد البحر، ويَغرس لنا مائة شجرة في الجنة، وفي الحديث: ((ما من نخلة في الجنة إلاَّ وساقُها من ذهبٍ)).
• مَن صلَّى الضحى أربع ركعات، يُعطيه الله جائزتين: يَكفيه الله حتى آخر النهار، ويكون أجره كأجْر المعتمر.
• عندما ندعو الله في كلِّ شيء، نَحصل على جائزتين: يكون كلُّ شيء في حياتنا عبادة، ولا نتعب في أيِّ شيء.
• عندما نذكر الله دائمًا، فنتكلم عن الله في الناس، ونتكلَّم مع الله في نفوسنا، فإننا نحصل على جائزتين: نكون من أقوى الناس وأحسنهم؛ لأن الله يكون معنا، ونتشرَّف بذِكر الله لنا.
• عندما نُكثِر من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الله يُعطينا جائزتين: يكفينا ما أهمَّنا، ويَغفر لنا ذنوبَنا.
• عندما نستمرُّ في تعلُّم أمور ديننا، ننال جائزتين: نكون على سبيل النجاة دائمًا، ويُسَهَّل لنا طريق إلى الجنة.
• عندما نؤدي الزكاة، ننال جائزتين: تكون برهانًا ودليلاً على الإيمان، وتُطفِئ الخطيئةَ كما يُطفِئ الماءُ النارَ.
• مَن تصدَّق بعدل تمرة من كسْبٍ طيِّبٍ، يحصل على جائزتين: يقبلها الله بيمينه، ويُربِّيها له حتى تكون كالجبل.
• مَن استغنى عن سؤال الناس، فإنه يحصل على جائزتين: يُغنيه الله، ويَضمن له النبيُّ الجنةَ.
• عندما يهلُّ علينا رمضان، يُعطينا الله جائزتين: يفتح أبواب الجنة، ويُغْلِق أبواب النار.
• من صام شهر رمضان، يَحصل على جائزتين: له في كلِّ يوم دعوة مستجابة، ويدخل الجنة من باب الريَّان.
• عندما نُتابع بين الحج والعُمرة، نحصل على جائزتين: ينفي الله عنا الفقر إلى الأبد، وينفي عنا الذنوب.
• عندما نشرب من ماء زمزمَ، نحصل على جائزتين: شفاء الأَسْقام، وتحقيق ما نتمنَّاه حين نشربها.
• عندما نتحاب في الله، ونتجالَس ونتزاوَر فيه، ننال جائزتين: وَجَبت لنا محبَّة الله، ونكون في ظلِّه يوم القيامة.
• مَن يسَّر على مُعْسِر، فإنه يحصل على جائزتين: يُنجيه الله تعالى من كرب يوم القيامة، وله في كلِّ يوم صدقة، فإنْ حلَّ الدَّيْن، فله في كلِّ يوم صدقتان.
• عندما نصلي أربعين يومًا في جماعة مع التكبيرة الأولى، ننال جائزتين: بَراءة من النار، وبراءة من النفاق.
• من أتى صلاة الجماعة، فلم يُدْركها، يُعطيه الله جائزتين: يُعطيه الله مثل أجْر مَن صلاَّها وحضَرها، ويَغفر له كمَن صلاها، قلت: بشرط ألاَّ يكون مُفرِّطًا متهاونًا، وأن يكون قد أحسَن الوضوء، والله أعلى وأعلم.
• مَن صلَّى العشاء والصُّبح في جماعة، فإنه يحصل على جائزتين: كأنما صلَّى الليل كله، ونجا من سوء الظنِّ.
• مَن صلَّى الصُّبح في جماعة، ثم قعَد يذكر الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلَّى ركعتين، يُعطيه الله جائزتين: كانت له كأجْر حَجَّة وعُمرة تامَّة، تامَّة، تامَّة، وكانت أحبَّ من عِتق أربعة من ولدِ إسماعيل.
• مَن صلَّى النافلة في البيت، أعطاه الله جائزتين: جعَل الله في بيته خيرًا، وفاز بيته بنعمة الحياة.
• مَن بات طاهرًا متوضِّئًا، فإنه يحصل على جائزتين: وكَّل الله به ملكًا يدعو له بالمغفرة، وما سأل الله شيئًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه إيَّاه.
• مَن قرأ آية الكرسي قبل نومه، فإنه ينال جائزتين: لا يزال عليه من الله حافظٌ، ولا يَقربه شيطان حتى يُصبح.
• مَن قام الليل وأيْقَظ أهله، فإنَّ الله تعالى يُعطيهم جائزتين: يتفضَّل عليهم - سبحانه - برحمته، ويَكتبهم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
• مَن اغْتسَل يوم الجمعة وخرَج مبكرًا ماشيًا، واستمَع وأنْصَت، فإنه يحصل على جائزتين: كان له بكلِّ خُطوة عمل سنة، أجْر صيامها وقيامها، وحرَّمه الله على النار.
• عندما نقرأ سورة الكهف يوم الجمعة، نحصل على جائزتين: أضاء لنا من النور ما بين الجُمعتين، وأضاء لنا من النور بيننا وبين البيت العتيق.
الوسيلة الحادية والسبعون: حاوِل أن تعيش يومًا رمضانيًّا؛ لتهيئة رقبتك للعِتق من النار:
لا بدَّ - أخي يا بن الإسلام - من برنامج عملي للمحافظة على الإشراقة الإيمانيَّة، لا بد أن تعرِف كيف تعيش يومًا من أيام رمضان؛ لأن الأمة - في مجموعها -لَم تَذُق طعْمَ رمضان منذ أن ذاقَت طعْم الهزيمة، ومنذ أن عاشَت معنى الذُّل للأعداء، منذ أن تخبَّطت وتلوَّنت، ولَم تَذُق طعْمَ النصر، ولَم تتوجَّه إلى الله تعالى، ولو صامَت الأُمَّة يومًا كما ينبغي - منذ جرى لها ذلك - لتغيَّرت، ولو تغيَّرت، لغيَّر الله حالها؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
ولكي تعيش رمضان كما ينبغي، وتُصنع فيه صناعة الرجال، فلا بدَّ من السَّيْر على الخطوط الرئيسية الآتية:
تحديد الأهداف:
فنحن بحاجة إلى تحديد الأهداف التي ندخل بها رمضان، ثم رسم الطريق لتحقيق هذه الأهداف، ثم رسم خُطة للتقويم - تقويم العمل - ثم متابعة تحصيل الثمار، فمن الأهداف التي يمكن أن ندخل رمضان بها: تشوق القلب للرحمة، استحضار نيَّة المغفرة للذنوب المتقدِّمة والمتأخِّرة، سُمو الرُّوح للعِتق من النار، سُمو الرُّوح للارتفاع عن كثافة المادة وهَمِّ الفَرْج والبطن، إقامة حاكميَّة الله على النفس، إقامة دستور الأخلاق، التدريب على المداومة، هذه بعض الأهداف، وهناك كثير غيرها، فما هو الطريق لتحقيقها؟!
الطريق لتحقيق الأهداف:
لا بدَّ من إعداد العُدُّة، ويكون ذلك بما يلي: تقليل ساعات النوم، تقليل كميَّة الأكل ما أمكنَ، تقليل الكلام، تقليل الخُلْطة بالبشر؛ يعني إجمالاً: التخلُّص من سموم القلب الضارة.
إن البرنامج الموضوع لتحصيل هذه الأهداف، لن يستطيع أن يقومَ به مَن ينام عشر ساعات، أو ثماني، أو سِتًّا في رمضان، إنما يَكفيك في رمضان أن تنام أربع ساعات، ولا تَنزعج؛ فأنا وأنت نعرف كثيرًا مِن أهل الدنيا مَن ينام أقلَّ من ذلك، وسَلْ طالب الثانوية العامة، تُذهلك إجابته! وهو يريد الحصول على شهادة الثانوية العامة، وأنت تريد الحصول على الجنة، فأيُّهما أغلى؟! إنني لا أريد منك غير التضحية بيسيرٍ من النوم والطعام، والكلام والاختلاط، ضَحِّ أخي، وإن لَم تُضَحِّ في رمضان، فلن تُضَحِّيَ أبدًا، أليس كذلك؟!
- التصنيف:
- المصدر: