توحيد الألوهية - (9) فضل الشهادتين
حقيقة التوحيد انجذابُ القلب إلى الله تعالى بأن يتوبَ من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال، نال ذلك، فإنه قد تواتَرت الأحاديث بأنه يَخرُج من النار مَن قال: "لا إله إلا الله"
الجمع بين أحاديث فضل الشهادتين وأحاديث الوعيد على الكبائر:
اعلَمْ أنَّ الأحاديث الدالة على أنَّ الشهادتين سببٌ لدخول الجنة والنجاة من النار، لا تَناقُض بينها وبين أحاديث الوعيد، التي فيها مَن فعَل ذنبَ كذا، فالجنة عليه حرامٌ، أو لا يدخل الجنة مَن فعَل كذا؛ لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جِنان كثيرة؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ أهل الجنة أيضًا متفاوتون في دخول الجنة، وفي السبق، وارتفاع المنازل، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي أُعِدَّت لِمَن لَم يَرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه مَن لَم يَرتكب ذلك الذنب، وهذا واضح مفهوم للعارف بلُغة العرب.
وكذلك لا تَناقُض بين الأحاديث التي فيها تحريمُ أهل الشهادتين على النار، وبين الأحاديث التي فيها إخراجُهم منها بعد أن صاروا حُمَمًا؛ لإمكان الجمْع بأنَّ تحريم مَن يدخلها بذنبه من أهل التوحيد، يكون بعد خروجه منها برحمة الله، ثم بشفاعة الشافعين، ثم يَغتسلون في نهر الحياة، ويَدخلون الجنة، فحينئذٍ قد حُرِّموا عليها، فلا تمسُّهم بعد ذلك، أو يكون المراد أنهم يُحرَّمون مُطلقًا على النار التي أُعِدَّت للكافرين، والتي لا يَخرج منها مَن دخَلها، وهي ما عدا الطبقة العُليا من النار التي يَدخلها بعض عُصاة أهل التوحيد، ممَّن شاء الله تعالى عقابه وتطهيرَه بها على قدْر ذَنبه، ثم يَخرجون فلا يبقى فيها أحدٌ.
وقد ذهَب طائفة إلى أنَّ هذه الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وهذا بعيد جدًّا؛ فإن كثيرًا منها كان بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود، وبعضها كان في غزوة تبوك، وهي في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء منهم مَن يقول: الأحاديث منسوخة، ومنهم مَن يقول: هي مُحكمة، ولكن ضمَّ إليها شرائط، ويُلتفت في هذا إلى أن زيادة النصِّ هل هي نسْخٌ أم لا؟! والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور.
وقد صرَّح الثوري بأنها منسوخة، وأنها نسَختها الفرائض والحدود، وقد يكون مرادهم بالنسخ: البيان والإيضاح؛ فإن السلف كانوا يُطلقون النَّسخ على مثل هذا كثيرًا، ويكون مرادهم أن آيات الفرائض تُبيِّن توقُّف دخول أهل الجنة الجنةَ، والنجاة من النار - على فعْل الفرائض واجتناب المحرَّمات.
وقالت طائفة: تلك النصوص المُطلقة قد جاءت مقيَّدة في أحاديثَ أُخَر، في بعضها: "مَن قال: لا إله إلا الله مُخلصًا"، وفي بعضها "مُتيقِّنًا"، وفي بعضها "مُصدِّقًا بها قلبُه لسانَه"، وهذا كلُّه إشارة إلى عمل القلب وتحقُّقه بمعنى الشهادتين، فتحقُّقه بمعنى شهادة أنْ "لا إله إلا الله": ألاَّ يَأْلَه قلبُه غيرَ الله؛ حبًّا ورجاءً، وخوفًا وطمعًا، وتوكُّلاً واستعانةً، وخضوعًا وإنابةً وطلبًا.
كما ورَد إطلاق الكفر والشِّرك على كثيرٍ من المعاصي التي مَنْشَؤُها طاعة غير الله تعالى، أو خوفه أو رجاؤه، أو التوكُّل عليه، كما ورَد إطلاق الكفر والشِّرك على الرياء، وعلى الحَلِف بغير الله تعالى، وعلى التوكُّل على غير الله والاعتماد عليه، وعلى مَن سوَّى بين الخالق والمخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وفلان، وكذلك قوله: ما لي إلاَّ الله وأنت، وكذلك ما يَقدح في التوحيد وتفرُّد الله تعالى بالنفع والضُّر، والرُّقى المكروهة، وإتيان الكُهَّان وتصديقهم بما يقولون، كذلك اتِّباعُ هوى النفس فيما نَهى الله عنه، قادحٌ في تمام التوحيد وكماله؛ ولهذا أطلَق الشرع على كثيرٍ من الذنوب - التي مَنْشَؤُها من هوى النفس - أنها كفرٌ وشِرك؛ كقتال المسلم، ومن أتى حائضًا أو امرأة في دُبرها، ومَن شَرِب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يُخرِج من المِلَّة بالكلية، ولهذا قال السلف: "كُفرٌ دون كفرٍ".
ويَشهد لهذا القول أيضًا الحديث الصحيح عند البخاري: ((تَعِس عبدُ الدينار، تَعِس عبدُ الدرهم، تَعِس عبد الخَميصة، تَعِس وانتكَس، وإذا شِيكَ، فلا انْتَقش))، فدلَّ هذا على أنَّ مَن أحبَّ شيئًا وأطاعه، وكان غاية مقصوده ومطلوبه، ووالَى لأجْله - فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبودَه وإلهه، ويدلُّ عليه أيضًا أنَّ الله تعالى سمَّى طاعة الشيطان في معصيته عبادةَ الشيطان؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].
وقال شيخ الإسلام في هذه الأحاديث: إنها فيمَن قالها ومات عليها، كما جاءَت مقيَّدة بقوله: "خالصًا من قلبه"، "غير شاكٍّ"، "بصدقٍ ويقين"، فإن حقيقة التوحيد انجذابُ القلب إلى الله تعالى بأن يتوبَ من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال، نال ذلك، فإنه قد تواتَرت الأحاديث بأنه يَخرُج من النار مَن قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه ما يَزِنُ شعيرة، وما يَزِن ذرَّة، وتواتَرت بأنَّ كثيرًا ممَّن يقول: "لا إله إلا الله" يدخل النار، ثم يَخرج منها، وتواتَرت بأن الله حرَّم على النار أن تأكُل أثَر السجود من بني آدمَ، فهؤلاء كانوا يُصلُّون ويَسجدون لله تعالى، وتواتَرت بأنه يُحرَّم على النار مَن قال: "لا إله إلا الله"، ومَن شَهِد أنْ "لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله"، لكن جاءَت مقيَّدة بالقيود الثِّقال، وأكثر مَن يقولها لا يَعرف الإخلاص، وأكثر مَن يقولها تقليدًا وعادةً، ولَم تُخالط حلاوة الإيمان بَشاشة قلبه، وغالب مَن يُفتَن عند الموت وفي القبور أصحاب المعاصي، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداءٌ بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].
وحينئذٍ فلا مُنافاة بين الأحاديث؛ فإنه إن قالها بإخلاصٍ ويقينٍ تامٍّ، لَم يكن في هذه الحال مُصِرًّا على ذنبٍ أصلاً؛ فإن كمال إخلاصه ويَقينه يُوجب أن يكون الله أحبَّ إليه من كل شيءٍ، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادةٌ لِما حرَّم الله، ولا كراهة لِما أمَر الله، وهذا هو الذي يُحرَّم على النار، وإن كانت له ذنوبٌ قبل ذلك؛ فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبَّة، وهذا اليقين - لا يَترك له ذنبًا إلاَّ مُحِيَ كما يَمحو الليلَ النهارُ، فإنَّ قالها على وجْه الكمال المانع من الشِّرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مُصرٍّ على ذنبٍ أصلاً، فيُغفَر له، ويُحرَّم على النار، وإن قالها على وجْهٍ خلَص به من الشِّرك الأكبر دون الأصغر، ولَم يَأْت بعدها بما يُناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يُقاومها شيءٌ من السيِّئات، فيَرْجَح لها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة، فيُحرَّم على النار، ولكن تَنقص درجته بقدْر ذنوبه، وهذا بخلاف من رَجَحتْ سيِّئاته بحسناته، ومات مُصِرًّا على ذلك، فإنه يَستوجب النار.
- التصنيف:
- المصدر: