نِعمَ المُصَلَّى (28) فلسطين قضية الأمة
أيمن الشعبان
فأعدائنا يعلمون أن الصراع على أرض فلسطين، هو صراع أمة بأكملها لا قومية ولا قطرية ولا فئوية ولا حزبية، في الوقت الذي تنكرنا وتنكبنا لأبسط وسائل النصرة والعزة، في زمن التطور والتكنولوجيا والابتكارات..
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة:
وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س28/ هل فلسطين قضية الفلسطينيين فقط؟:
يكاد يكون الجواب على هذا السؤال هو من أعظم ثمار هذه السلسلة والحلقات من " نعم المصلى"، بسبب ضعف الولاء الشرعي والارتباط العقدي الإيماني بتلك القضية، والآلة الإعلامية المضللة الموجهة، لاختزال تلك القضية وتفريغها من محتواها الحقيقي.
بداية لابد أن نثبت حقيقة هامة جدا، هي أن الحديث عن المسجد الأقصى هو حديث عن مدينة القدس وحديث عن فلسطين كامل فلسطين التي هي قلب بلاد الشام، تلك الأرض المباركة المقدسة، فلا يمكن الفصل بين كل هذه الأجزاء بتسميات وجغرافيا مصطنعة!
بداية الصراع كانت القضية في نفوس معظم المسلمين هي قضية إسلامية، ثم بعد بث الشائعات والأكاذيب والأراجيف وضعف الوازع الديني، سادت ثقافة الجانب القومي، حتى أصبحت قضية عربية بامتياز ردحا من الزمان، ثم شيئا فشيئا صغرت الدائرة واختزلت القضية أكثر فأكثر حتى أصبحت قضية دول الطوق! ثم قضية فلسطينية تخص الفلسطينيين أنفسهم!
الحقيقة الكبرى والقضية العظمى، التي ينبغي أن ترسخ في عقول وأذهان وقلوب بل وتفكير المسلمين، والتي لا ينبغي التهاون فيها أو إغفالها والذهول عنها تحت أي ظرف، ولابد لكل مسلم مراجعة نفسه وسلوكه ونهجه ومعتقده وعمله تجاهها؛ أن قضية الأرض الطيبة المقدسة المباركة هي قضية أمة بالكامل، منذ أن أوجد الله الخليقة على وجه الأرض حتى قيام الساعة، لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوحي ورسالة التوحيد في بداية الزمان ووسطه وآخره.
إذا قلنا أن قضية فلسطين عربية وليست إسلامية، فإننا سنُخرج من دائرة المسؤولية والصراع أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم غير عربي! وإذا اختزلت كونها قضية فقط الفلسطينيين كما يشاع في بعض المؤسسات الإعلامية – بقصد أو غير قصد- فإنها ستنحصر بعدد لا يتجاوز خمسة عشر مليونا، بذلك نذبح القضية بأيدينا! وهذا ما يسعى له الأعداء ويبذلون جهودا مضنية من أجله.
من هنا عمل الأعداء على بث الشائعات والأكاذيب والأراجيف، في تلك القضية لزعزعة الثقة في النفوس، من ذلك أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود؟! وهذه فرية كبيرة للأسف صدقتها معظم الشعوب، وانعكست سلبيا على اهتمام الناس ومسؤوليتهم تجاه الأقصى.
فمن باع أرضه هل يعيش في مخيمات البؤس والشتات بطريقة بائسة وشظف العيش؟!
فهل من باع أرضه يطالب بها مرة أخرى بعد البيع حتى الآن؟!
هل من باع أرضه يصر على العودة لها مهما كلف الثمن؟!
ثم هل سمعتم يوما ما أخرج اليهود وثيقة رسمية في أي محفل من المحافل الدولية وقالوا هذه تثبت أننا اشترينا الأرض فلا تطالبوا بها؟!! لم ولن يحصل!
لِمَ لا تكون هذه القضية قضية أمة وقد ذكرنا على مدار ما مضى من حلقات؛ العديد من الحقائق والفضائل والأحداث العظام على ثرى هذه الأرض، فهي أول قبلة وثاني مسجد وضع وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال وأحد أربعة مساجد لا يدخلها الدجال، مهاجر الأنبياء ومعدنهم وفيها قبورهم، وغيرها كثير من الخصال!
لو لم يكن لهذه الأرض إلا أنها مسرى حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماوات لكفت بأن تكون قضية كل مسلم ومسلمة، مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم وقومياتهم ولغاتهم، وإلا لماذا نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيت المقدس؟ لأنها قضية أمة، ولماذا دعا موسى عليه السلام أن يدفن بأطراف الأرض المقدسة لما لم يتسن له دخولها؟ لأنها قضية أمة.
لماذا جاء عمر رضي الله عنه بنفسه لتسلم مفاتيح بيت المقدس، وكان يحكم من مصر إلى السند وقيل فتحت في عهده أكثر من 2000 إقليم وقرية ومدينة، فلم يتسلم مفاتيح أي منها إلا القدس! في إشارة لأهمية تلك البقعة وقداستها وأنها ملك للمسلمين، ثم أوقفها عمر رضي الله عنه، فلا يحق لأحد التنازل عن أي شبر منها.
لو لم تكن قضية فلسطين قضية أمة، فما الذي دفع القائد نور الدين محمود زنكي – من السلاجقة الأتراك- بعد ما حصل من قتل عظيم وانتهاك لحرمات الأقصى، حتى ظن الناس أن بيت المقدس لن يرجع إلى المسلمين، إلا أنه شمّر عن ساعد الجد ونشر التوحيد والسنة وقمع البدعة وقرب العلماء ووحد الدويلات، ونشر العدل وأنصف المظلومين، وأكثر من الأوقاف وأخذ على عاتقه تحرير المسجد الأٌقصى.
ذكر أبو شامة المقدسي في كتاب الروضتين في أخبار الدولتين:( أنه جاء إلى نور الدين ذات يوم جماعة من العلماء فقالوا: جئنا نروي عنك بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مسلسلاً قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم, فتبسم نروه عنك. فالتفت إليهم نور الدين والهم يعصر فؤاده وهو يقول: كيف ابتسم والمسجد الأقصى راسف في قيود الذل والهوان , تحت سنابك خيل الأعداء؟! ).
ثم تبعه تلميذه صلاح الدين الذي هو ثمرة نور الدين زنكي رحمهما الله، وصلاح الدين من أكراد أرمينيا أصله! فحرر بيت المقدس من الصليبيين سنة 583هـ، وهكذا تبقى هذه القضية قضية أمة بأكملها، والصراع على أرضها صراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، يقول عليه الصلاة والسلام( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال )[1].
وما الذي جعل الأمير مودود – من السلاجقة الأتراك- أمير الموصل بعد اغتصابها، أن يبدأ بقيادة الجيش واستعادة بعض المدن في الشام وتحالف مع أمير دمشق طُغتِكين، وكان من أوائل من جاهد الصليبيين قبل ظهور عماد الدين زنكي وولده نور الدين، وعندما رجع مع أمير دمشق للاستراحة سنة 507هـ وبعد أداء صلاة الجمعة في المسجد الأموي، جاء أحد الباطنيين فطعنه أربع طعنات، وكان صائما ولم يفطر وقال لا ألقى الله إلا صائما، وأرسل ملك الافرنج برسالة إلى أمير دمشق يقول فيها: إِنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا فِي يَوْمِ عِيدِهَا فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا.[2]
ثم تعلمون موقف السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عندما ضغطوا عليه لتسليم جزء من فلسطين لليهود، وفقد إمبراطوريته وخسر الدولة العثمانية بسبب موقفه البطولي للحفاظ على فلسطين، ثم ما الذي جعل القائد عز الدين القسام من الساحل السوري يدافع عن فلسطين ويقاتل من أجلها؟ إلا لأنها قضية أمة.
لقد أيقن أعداء الإسلام وأعداء هذه القضية من اليهود ومن تحالف معهم، بأنه عندما يستشعر المسلمون حقيقة هذه القضية وأنها قضية أمة، فعند ذلك سوف يندحرون ويتغلب عليهم المسلمون، تقول غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان اليهودي (1969-1974): نحن لا نخاف من المسلمين إلا عندما يصلون الفجر في المسجد كما يصلون الجمعة.
فأعدائنا يعلمون أن الصراع على أرض فلسطين، هو صراع أمة بأكملها لا قومية ولا قطرية ولا فئوية ولا حزبية، في الوقت الذي تنكرنا وتنكبنا لأبسط وسائل النصرة والعزة، في زمن التطور والتكنولوجيا والابتكارات!! فمتى ما حققنا ذلك وغرسنا في نفوسنا حقيقة الصراع فسوف نُقلق مضاجع المحتلين، فكما أن للغاصبين استراتيجيات كذلك للمحرِرِّين استراتيجيات، أولاها حقيقة استشعار المسؤولية وحمل الهمّ وإيقاظ الهمة في جميع الأحوال والظروف، لأن صحة الانتهاء من صحة الابتداء.