توحيد الألوهية - (22) الرقى

منذ 2018-01-02

التداوي بالرُّقى من الكتاب والسنَّة لا يُنافي التوكل؛ لأن الله -تعالى- جعل الرُّقى سببًا في دفع مكروهات كثيرة على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد تواتَر فعله للرقية، وإقراره لغيره من صحابته، وتعاطي الأسباب التي جعلها الله أسبابًا بنصوص الوحي - لا يَقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله -تعالى- لا على السبب.

(22) الرقى

 

وهذه المسألة من المسائل بالغة الأهمية في هذا العصر؛ وذلك لكثرة المتصدِّين للرُّقية على المرضى؛ استجلابًا للشهرة أو المال - إلا مَن رحم الله منهم - حتى عُرفوا بين الناس، وأصبح يُشار إليهم بالبَنان، ويُسافَر إليهم من شتى الأقطار، بل تفرَّغوا من جميع أعمالهم الدنيوية لأجْل الرقية على المرضى، فتعلق بهم الناس، وظنُّوا أن الفائدة الحقيقية في القارئ، وليس في المقروء؛ لا سيما مع ضعف اليقين، وعدم التوكل على الله -تعالى- وغلبة الجهْل، ورأى المُشعوِذون والدجالون سوقًا رابحة في التلاعب بعواطف المرضى وأوليائهم، فتظاهروا في صورة العلماء الربَّانيِّين، وهم في الحقيقة يخلطون الحق بالباطل، ويُلبِّسون على السذَّج من الناس؛ ولهذا فسوف أتناول هذه المسألة - بعون الله تعالى - مميِّزًا الرقية الشرعية من غيرها، وأُبيِّن ما يَخدِش في عقيدة المؤمن منها، وكيف كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - يُعالِجون مَرضاهم بالرُّقى، وأُبيِّن أقوال أهل العلم المُعتبَرين في هذا الشأن، وأسأل الله أن يُرينا الحق حقًّا ويَرزقنا اتباعه، ويُرينا الباطل باطِلاً ويرزقنا اجتنابه.

 

تعريف الرقية، وكونها معروفة قبل الإسلام:

قال ابن منظور في لسان العرب: "والرُّقية: العُوذة، معروفة، قال رؤبة:

 

فما تركا مِن عُوذة يَعرفانِها *** ولا رُقية إلا بها رقَيانِي

 

والعُوذة والمعاذات والتَّعويذ: الرقية، يُرقى بها الإنسان من فزع أو جنون؛ لأنه يعاذ بها، وقد عوَّذه، يقال: عوَّذْت فُلانًا بالله وأسمائه وبالمعوذتين، إذا قلت: أعيذك بالله وأسمائه من كل شرٍّ"، فيَظهر مما تقدَّم أنه فسَّر الرُّقية بالعُوذة، والعوذة بالرقية، وأصل العَوذ والعِياذ هو الالتجاء والاعتصام، قال الليث: يقال فلان عَوْذٌ لك؛ أي: ملْجَأ، وفى الحديث: ((إنما قالها تعوُّذًا))؛ أي: إنما أقرَّ بالشهادتين لاجئًا إليها، ومُعتصمًا بها؛ ليدفع عنه القتل، وليس بمُخلص في إسلامه.

 

فكأن الراقي التجأ إلى الرقية، أو التجأ إلى مَن جعل الرُّقية سببًا للشفاء، أو المَرقي التجَأ إلى الراقي؛ كما قال -تعالى-: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة: 26، 27] في أحد التفسيرَين في الآية؛ كما روي في تفسير ابن كثير عن ابن عباس وأبي قلابة، وإلا فالرُّقية قد تَرِد وليس فيها لفظُ التعويذ، كما سيأتي - إن شاء الله.

 

والرُّقى معروفة للناس من قبْل الإسلام، يدلُّ على ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن عمرة بنت عبدالرحمن، أن أبا بكر الصديق دخَل على عائشة وهى تشتكي، ويهودية تَرقيها، فقال أبو بكر: ارْقيها بكتاب الله، يَعني بما في التوراة، وهذا دليل على أن أهل الكتاب كان عندهم رُقى يَرقون بها، وأنهم وإن غيَّروا الأحكام والعقائد، فإنهم لم يُغيِّروا الرُّقى؛ حفاظًا على فائدتها؛ فإنها إذا غُيِّرت لا تنفع، وهذا هو الذي يظهر والعِلم عند الله، وإلا فلو كانت مما دخله التحريف لَمَا أَمِنها أبو بكر على الرقية، وقد نقل ابن حجر عن المازري الاختلاف في استِرْقاء أهل الكتاب؛ فأجازها قوم، وكرهها مالكٌ؛ لئلا يكون مما بدَّلوه، لكن أجاب من أجاز بأن مثل هذا يَبعُد أن يقولوه، وهو كالطبِّ سواء، فإنَّ غير الحاذق لا يُحسن أن يقول، والحاذق يأنف أن يُبدِّل حِرصًا على استمرار وصْفِه بالحذْق لترويج صناعته، والحق أنه يَختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

 

ومما يدلُّ على أن الرُّقى معروفة قبل الإسلام ما رواه أحمد في المسند عن زينب امرأة ابن مسعود، قالت: كان عبدالله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تَنحنحَ وبزَق؛ كراهية أن يَهجم منَّا على شيء يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتُها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جنبي، ورأى في عنقي خيطًا، قال: ما هذا الخيط؟ قلتُ: خيطٌ أُرْقِيَ لي فيه، قالت: فأخذَه فقطَعه، ثم قال: إن آل عبدالله لأغنياءُ عن الشِّرْك؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَة شرْك))، قالت: فقلتُ له: تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يَرقيها، وكان إذا رقاها سكنتْ؟! قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان يَنخسها بيده، فإذا رقيتها كفَّ عنها، إنما كان يَكفيك أن تقولي كما قال - رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أذهب الباس، ربَّ الناس، اشفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يُغادِر سقمًا)).

 

فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ اليهودي عنده رقية يقرأ بها، ويَظهر من كلام ابن مسعود أنه لا يرى جواز رُقية أهل الكتاب؛ حيث لم يَستفسِر من زوجته عن نوع الرقية التي كان يَرقي بها، بل فسَّر ما تجده زوجتُه من الألم بسبب نخس الشيطان، وفسَّر سكون الألم بتعاون الشيطان مع اليهودي بتركِه النخس، فالشياطين تتعاون مع الكهَّان والمُشعوِذين؛ لأجْل إضلال الناس واستِدراجهم إلى الشِّرْك.

 

وليستْ معرفة الرُّقى خاصةً بأهل الكتاب، بل إن العرب في الجاهلية كانوا يعرفونها، فهذا ضِمادٌ كان يَرقي من الريح وهو في الجاهلية، ولما قَدِم مكَّة وسمع عن رسول الله أنه مجنون، قال: لو أني رأيتُ هذا الرجل لعلَّ الله يَشفيه على يديَّ، فلما قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسَمِع منه أسلَم، وبايَعه، والحديث في صحيح مسلم، وفى صَحيحِه أيضًا لمَّا نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرُّقى، جاءه آل عمرو بن حزم، وعرضوا عليه رُقاهم، فقال: ((ما أرى بأسًا، مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه، فلْيَفعلْ))، وذكر ابن حجر في "الإصابة" أن الذي عرض الرُّقية هو أخوه عمارة، كما ذكره البخاري في "التاريخ الصغير".

 

وفى "صحيح مسلم" كذلك قال -صلى الله عليه وسلم- إجابةً لعوف بن مالك الأشجعي: ((اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيها شرك)).

 

علاقة البحث في الرُّقى بالاعتقاد:

إنَّ علاقة البحث في الرُّقى بالاعتقاد من عدة اعتبارات:

فأولها: أن بعض الرُّقى فيها الاستعاذة بغير الله، والاستغاثة بالجنِّ ونحوها، والاستعانة بالرُّوحانيات مما يُضادُّ العقيدة، ويؤدِّي بالإنسان إلى الشرك، وهذه الرُّقى هي التي قال عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنها من الشرك، كما في الحديث الحسن الذي رواه الحاكم وأحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود قال: ".. كان مما حَفِظْنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَة مِن الشرك.."، وبيان الأمور الشركية المنافية لأصل التوحيد أو كمالِه من مباحث العقيدة.

 

ثانيًا: بعض الناس يعتمد على الرُّقى اعتمادًا كليًّا، ويظن أنها مؤثِّرة بذاتها، ولم يقف بها عند مرحلة السببية التي لا تؤثِّر إلا بقدرة الله ومشيئته، والاعتمادُ على الأسباب اعتمادًا كُليًّا يُضادُّ التوكُّل، الذي هو من صميم العبادة.

 

ثالثًا: بعض الناس يظن أن الرقية هي الشافية، وهذا مُعارض للعقيدة الصحيحة التي ذكَرها الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فالله - عزَّ وجلَّ - هو الشافي - سبحانه وتعالى.

 

رابعًا: بعض العلماء كره الرُّقى ظانًّا أنها تُنافي التوكل؛ فلهذه الأسباب وغيرها كان البحث في الرُّقى بحثًا عقَديًّا، ولهذا أيضًا تجد أن بعض أهل العلم الذين اهتمُّوا بتحقيق التوحيد وتصفيته من شوائب الشِّرك تكلَّموا على مسائل الرُّقى في كُتب التوحيد، وذلك كشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في كتاب التوحيد، وتجد من أهل العلم من ذكرها في كتب الطب كالبخاري وابن القيم؛ وذلك لأنَّهم لاحَظوا فيها معنى التداوي بالرُّقى المشروعة، وأما الرُّقى الشِّركية والبدعية، فموضوع البحث فيها من اختصاص كتب العقائد.

 

هل الرقية تُنافي التوكُّل؟!

كره بعضُ أهل العلم التداوي بالرقى والكيِّ، وبوَّب على ذلك الإمام البخاري فقال: "باب من لم يَرقِ"، وروى فيه حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وفيه: ((.. هم الذين لا يتطيَّرون، ولا يَكتوون ولا يَسترْقُون، وعلى ربِّهم يتوكلون..))، قال ابن حجر: فتمسَّكَ بهذا الحديث من كَرِه الرُّقى والكيَّ من بين سائر الأدوية، وزعم أنهما قادِحان في التوكُّل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة؛ أحدها - قاله الطبري والمازري وطائفة -: أنه محمول على مَن جارى اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يَعتقدون.

 

وقال غيره:

الرُّقى التي يُحمَد تَركُها ما كان من كلام الجاهلية، ومِن الذي لا يُعقل معناه؛ لاحتمال أن يكون كُفرًا، بخلاف الرُّقى بالذِّكر ونحوه، وتعقَّبه عياض وغيره بأن الحديث يدلُّ على أن للسبعين ألفًا مزيةً على غيرهم، وفضيلةً انفرَدوا بها عمَّن شاركهم في أصل الفضل والدِّيانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثِّر بطبْعِها، أو يستعمل رُقى الجاهلية ونحوها، فليس مسلمًا، فلم يَسلم الجواب.

 

ثانيها: قال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحَّة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدَّمتُ هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى، وهذا اختيار ابن عبدالبر، غير أنه مُعترَض بما قدَّمتُ مِن ثُبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء.

 

ثالثها: قال الحليمي: يُحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث مَن غفَل عن أحوال الدنيا، وما فيها من الأسباب المعهودة لدفع العوارض، فهم لا يَعرفون الاكتواء، ولا الاستِرقاء، وليس لهم ملجأ فيما يَعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرِّضا بقضائه، فهم غافلون عن طبِّ الأطباء، ورُقى الرُّقاة، ولا يُحسنون من ذلك شيئًا، والله أعلم.

 

رابعها: أن المراد بترك الرُّقى والكيِّ الاعتمادُ على الله في دفع الداء والرِّضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك؛ لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكن مقام الرِّضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومَن تبعه، ولعلَّ مُرادهم مدحُ الذين يَتركون أسباب التداوي المكروهة فقط، وليس مُرادهم بأن الأولياء يَتركون تعاطي جميع الأسباب؛ فإن ترك جميع الأسباب قدحٌ في الشرع، ومُخالفة للعقل والشرع، والمُتصوِّفة الذين يُقرِّرون ذلك نظريًّا يخالفونه عمليًّا؛ فترى أحدهم يَتناول الطعام والشراب واللباس ونحو ذلك مما يَحفظ حياته، قال ابن القيم: "فقد تضمَّنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسبَّبات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكُّل، كما لا يُنافيه دفع داء الجوع والعطش والحرِّ والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمُباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يَقدح في التوكُّل نفْسِه، كما يقدح في الأمر والحِكمة، ويُضعفه من حيث يظن مُعطِّلها أن تركَها أقوى من التوكُّل، فإنَّ ترْكها عجزٌ يُنافي التوكُّل، الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ولا بدَّ مع هذا الاعتماد من مُباشرة الأسباب، وإلا كان معطِّلا للأمر والحِكمة والشرع، فلا يجعل عجزه توكُّلاً، ولا توكُّله عجزًا".

 

وأما ترك التداوي، فقد ثبَت فيه حديث المرأة التي كانت تُصرع، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيك))، فقالت: "أصبر"؛ والحديث رواه البخاري، قال ابن حجر: وفى الحديث فضْل مَن يُصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يُورِث الجنة، وأن الأخْذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرُّخصة لمن عَلِم من نفسه الطاقة، ولم يَضعُف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي.

 

وقد اختلف العلماء في التداوي: هل هو مُباح وتركُه أفضل، أو مستحبٌّ، أو واجب؟

فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعي الثاني، ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكَّد حتى يُداني به الوجوب، ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه، وقال شيخ الإسلام: "ليس بواجب عند جماهير الأئمة؛ إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد"، والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الأمراض تَختلِف؛ فبعضها يغلب على الظن أن علاجه ميسور، وتركه يؤدي إلى التَّلَف، كرجل دخلت في عينه شوكة نِصفها بارز ونصفها داخل عينه، ويَسهُل نزعها، ورجل انقطع بعض عروقه فهو يَنزِف دمًا، وخياطته ميسورة، ويَغلِب على الظن نجاحها، ففي هذه الحالات وما شاكَلها أرى أنه يجب عليه التداوي، وأنَّ ترك التداوي في مثل هذا من الإلقاء باليد إلى التهلكة؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عالَج ما به من جراحات في غزوة أحد، وكذلك صحابته في سائر الغزوات، ولم يترك أحد منهم جراحاتِه تنزف توكُّلاً، بخلاف مرض الصرع ونحوه، الذي لا يغلب على الظن فيه شيء لا بالبُرْء ولا بالهلاك؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يَطلب من غيره رُقيةً والفائدة مَظنونة، وقد تكون الفائدة والشفاء راجحًا، ولكن يَرجو المريض ما هو أنفع له في الحياة الدنيا وفى الآخِرة؛ كما في قصة المرأة التي كانت تُصرع، وحديثها في البخاري.

 

والذي يظهر لي أيضًا في مسألة كون الرقية تُنافي التوكُّل:

أن القول الراجح - والله أعلم - هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومَن معه بأن التداوي بالرُّقى لا يُنافي التوكل؛ لأن فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بنفسه وبغيره مرات كثيرة، وكذلك جبريل - عليه السلام - وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - لا يدلُّ على مجرَّد الرخصة فحسب، بل يدل على أن من رَقى غيره من غير طلب منه أو رقى نفسه، فإنه محسن إلى غيره وإلى نفسه، وأنه لا ينقص بها تمام توكُّله، بخلاف الذي يطلب من غيره رقيتَه؛ فإن الأفضل للمريض ألا يَطلب إلا من الله -تعالى- وألا يُنزل حاجته إلا بالله، وعلى هذا يُحمل حديث المرأة التي كانت تُصرع، وهذا أيضًا يوافق حديث السبعين ألفًا، ولا يعكّر على هذا قولُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة لمَّا رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة))، والحديث في البخاري، ولا قول عائشة عند مسلم: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني أن أسترقي من العين"، فلعلَّ هذا مخصوص من العموم بالحديث الذي في المسند وصححه الدوسري في النهج، وذكر أنه عند أبي داود والترمذي عن عمران بن حُصَين بإسناد صحيح، وعند ابن ماجه عن بريدة، وعند مسلم عنه موقوفًا: ((لا رقية إلا من عينٍ أو حُمَة))؛ أي: لا رقيةَ أنفع، فلأجْل عِظَم نفع الرقية - بإذن الله - في العين والحمة، رخَّص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طلب الرقية، ولا ينافي هذا التوكل، وبهذا يتمُّ الجمع بين الأدلة، ويُحمَل كل حديث على معنى صحيح، والله أعلى وأعلم.

 

فالحاصل أن التداوي بالرُّقى من الكتاب والسنَّة لا يُنافي التوكل؛ لأن الله -تعالى- جعل الرُّقى سببًا في دفع مكروهات كثيرة على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد تواتَر فعله للرقية، وإقراره لغيره من صحابته، وتعاطي الأسباب التي جعلها الله أسبابًا بنصوص الوحي - لا يَقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله -تعالى- لا على السبب.

 

مشروعية الرقية وأنواعها:

إن الرقية مشروعة بالإجماع إذا تحقَّقت فيها شروط معلومة؛ قال ابن حجر: "وقد أجمع العلماء على جواز الرُّقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله -تعالى- وبأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يُعرف معناه من غيره، وأن يَعتقد أن الرقية لا تؤثِّر بذاتها، بل بذات الله تعالى"، والذي يظهر لي أن هذا الإجماع لا يُنتقض بما بوبه البخاري في صحيحه: "باب من لم يَرْقِ"، وأورد فيه حديث السبعين ألفًا المشهور؛ وذلك لأن طلبَ الرقية من أشخاص غيرُ فعل الرقية بالنفس، والألف والسِّين والتاء تفيد الطلب، فالاسترقاء غير الرقية، ولفظة "لا يَرقون" شاذَّة في الحديث، وحتى الذين كرهوا الرُّقى إنما كرهوها مع الجواز، وليس مع التحريم، وبالتالي يكون الإجماع سالمًا من غير مُعارَضة، والله أعلم، فانتبه لهذه المسألة؛ حتى يَسلم لك الإجماع، والله المستعان.

 

والأحاديث الدالة على جواز الرقية كثيرة جدًّا؛ فقد رقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسَه بالإخلاص والمعوذتين؛ كما في صحيح البخاري، وأمَر غيرَه بالرقية؛ كما روى البخاري عن أم سلمة أنَّ النبيَّ رأى في بيتها جاريةً في وجهِها سفعةً قال: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة))، والسفعة: سواد في الوجه، وقيل: لون يُخالف لون الوجه؛ من حمرة أو صفرة أو سواد.

 

وفعَله -صلى الله عليه وسلم- بغيره؛ كما روى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعوِّذ بعضهم، يَمسحه بيمينه: ((أذهب الباس، ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سقمًا))، وأقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- غيره على فعل الرقية، كما في صحيح البخاري، وقال لهم: ((أصبتم، اقسموا واضرِبوا لي معكم بسهم)).

 

فإذا تقرَّرت مشروعية الرُّقية بالإجماع المبني على الأحاديث الصِّحاح المُتكاثِرة التي مرَّ بعضها، فإن الرقية تَنقسِم قسمين، وهما: رقية لدفع البلاء قبل وقوعه، ورقية لدفعِه بعد وقوعه.

 

1- رقية لدفع البلاء قبل وقوعه، ومن أدلتها: ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: ((إن أباكما كان يُعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة))، ومنها: ما رواه البخاري أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفَّيه ثم نفث فيهما: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجْهه، وما أقبل مِن جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات، ومنها: ما رواه مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا نزل أحدكم منزلاً، فليَقلْ: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خَلق؛ فإنه لا يضرُّه شيء حتى يَرتحِل منه))، ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من قال في أول يومه أو في أول ليلته: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضرَّه شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة)).

 

وهناك أحاديث أخرى كثيرة في نفس هذا المعنى.

 

2- رقية لدفع البلاء بعد وقوعه، ومن أدلَّتها: حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى رقاه جبريل - عليه السلام -: ((بسم الله يُبْريك، ومن كل داء يَشفيك، ومن شرِّ حاسد، وشرِّ كل ذي عين))، ومنها: أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمَّد، اشتكيتَ؟ قال: ((نعم))، قال: ((بسم الله أَرقيك، من كل شيء يُؤذيك، من شرِّ كل نفْس أو عينِ حاسدٍ، اللهُ يشفيك، بسم الله أَرقيك))، ومنها: حديث عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مرض أحدٌ من أهله، نفث عليه بالمعوذتين، فلما مرض مرضَه الذي مات فيه، جعلتُ أنفث عليه وأمسحه بيدِ نفْسِه؛ لأنها كانت أعظمَ بركةً من يدي، ومنها: حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده منذ أسْلَمَ، فقال له: ((ضعْ يدَك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله، ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شرِّ ما أجد وأحاذر))، وهذه الأحاديث كلها في صحيح مسلم، وهناك أحاديث أخرى كثيرة غير ما ذكرتُ في نفس هذا المعنى.

 

هل الرُّقى توقيفية؟ وهل يُرقى من كل داء؟

لا شك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علَّم أمَّتَه كثيرًا من الرُّقى النافعة من القرآن ومن الأدعية، وذكَر أعدادًا وهيئات وصفات في الرقية والراقي، وزمان الرقية، كما سيأتي، وما كان هذا شأنَه فلا يجوز الزيادة عليه ولا النقص منه، ولا ذكْر وقتٍ لم يَقلْه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما ذكر أنه يُقرأ سبع مرات، لا يجوز أن نجعلها ثلاث عشرة أو نحو ذلك، وما قال: يُقال في أول الليل مثلاً، أو إذا أوى الإنسان إلى فِراشه، لا يجوز أن نجعله في الظهيرة أو بعد صلاة العصر؛ لأن الزيادة أو النقص في هذا الأمر استدراكٌ على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي، وأما إذا جرَّب إنسان رقيةً غير التي وردَت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتبيَّن له فائدتها، ولم يكن فيها محذورٌ من المَحاذير الشرعية التي سوف تأتي في ضوابط الرقية الصحيحة في هذا البحث - إن شاء الله - فالظاهر - والله أعلم - جَوازها؛ وذلك لما يلي:

أولاً: أن التداوي بالرُّقى من جنس التداوي بالأدوية الطبيعية المركَّبة من الأعشاب ونحو ذلك، وهذه مبنية على التجربة البشرية، ويستفيد فيها الناس بعضهم من بعض، وهي من جنس الزراعة والصناعة، ولا تتوقَّف معرفتها على التلقي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدلُّ دليل على ذلك حادثة تأبير النَّخل المشهورة والمروية في صحيح مسلم؛ ففيها الدلالة على أن ما يتعلق بأمر الدنيا من طبِّ الأبدان والزراعة والصناعة، ونحو ذلك، يؤخذ من التجربة والاجتهاد البشري، وما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال أيضًا ولم يستثن، فهو حقٌّ؛ فإنه تكلم في الرُّقى وفي الأدوية كثيرًا، وكلامه كله حقٌّ، وليس كلامه في الطبِّ من جِنس كلامه في تأبير النخْل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُقَرَّ على ظنِّه في تأبير النخل، ولأجل هذا استدرك وأمرهم بفعل التلقيح إن كان ينفعهم؛ كما في الحديث.

 

ثانيًا: لقد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث تدلُّ على أنه أقر بعض الصحابة على رقية تعلَّموها من غيره -صلى الله عليه وسلم- لمَّا تبيَّن له أنها خالية من الشرك؛ ومنها: رقية آل حزم، والمروية في صحيح مسلم، ومنها: رقية عوف بن مالك الأشجعي عند مسلم أيضًا، وفى هذا دَلالة على جواز الرقية المتلقَّاة بالتجربة ما لم تشتمل على الشرك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقل لهم: مَن علَّمكم الرقية؟ ولم يقل: لا يجوز أن تُأخذ رقية إلا من الكتاب والسنَّة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يَجوز كما هو مُقرَّر في علم الأصول، ولو كان تعلُّم الرقى مسدودًا إلا من طريق الوحي، لَمَا طلب منهم -صلى الله عليه وسلم- أن يَعرِضوا عليه رقاهم التي كانوا يَرقُون بها في الجاهلية.

 

ضوابط الرقية في الإسلام:

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن لنا ضوابط الرقية الصحيحة، ومن أعظم هذه الضوابط ما يلي:

أولاً: ألا تكون الرقية رقيةً شِركيةً؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لِعَوف عند مسلم: ((اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيها شرْك))، فكل رُقية اشتملتْ على شِرك، فهي رقية شركية لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخِر أن يتعاطاها، ومن ذلك الرقية المُشتملة على القسَم بالمخلوقات؛ لكون الحلف بغير الله -تعالى- شِركًا، والرقية المشتملة على الاستعانة بالمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو المشتملة على دعاء المخلوق من دون الله؛ ليَكشف أمرًا لا يَكشفه إلا الله، وهكذا كل رقية اشتملتْ على صرف شيء من الأشياء التي اختصَّ الله بها نفسَه في الكتاب أو السنَّة إلى غيره -تعالى- فهي رُقية شِركية.

 

ثانيًا: ألا تكون الرُّقية رقيةً سِحريَّةً؛ وذلك لأن الله -تعالى- حرَّم السِّحر وبيَّن أنه كفر؛ كما في سورة البقرة، وبيَّن أن الساحر لا يُفلح مُطلَقًا: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]، وفى البُخاري: ((اجتنبوا الموبقات؛ الشرك بالله، والسِّحر))، ويقول شيخ الإسلام: "أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتلُه، وقد ثبت قتل الساحِر عن عُمر وعثمان وحفصة وابن عمر وجندب، ورُوِيَ ذلك مرفوعًا عنه"، وعلى هذا؛ فالرقية السِّحريَّة مُحرَّمة، ولا يجوز لمسلم أن يأتي ساحرًا لكي يرقيه؛ وذلك لما يلي:

1- لو كان يجوز للمسلم أن يذهب للسَّحَرة التماسًا للدواء من رقية أو نحوها، لَمَا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقتل الساحر وفيه منفَعة للناس؛ ففي المستدرك قال -صلى الله عليه وسلم-: ((حدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف)).

 

2- بيَّن الله -تعالى- في آية البقرة أن الذين يتعلَّمون السحر إنما يتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم، وهذا لفظ عام يُبيِّن أن السحرَ ليس فيه نفْع بوجه من الوجوه، ولو كان فيه دواءٌ ونحو ذلك، لكان فيه فائدة ونفع، وهذا خلاف نص القرآن.

 

3- بيَّن الله -تعالى- أن الساحر لا يفلح حيث أتى، ولو كان فيه فائدة لأحدٍ، لكان هذا نوعًا من الفلاح، وهو لا يُفلح بإطلاق.

 

4- بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن اللهَ لم يجعل شفاء أمَّته فيما حرّم عليها، والسحر محرَّم بالإجماع، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تداوَوا بالمحرَّم))؛ والحديث رواه أبو داود وحسنه عبدالقادر الأرناؤوط وشعيب، قال ابن القيم: "وهنا سرٌّ لطيف في كون المحرَّمات لا يُستشفى بها؛ فإن شرط الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول، واعتقادُ منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء؛ فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حلَّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العَين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حُسنِ ظنِّه بها، وتلقِّي طبْعه لها بالقَبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانًا، كان أكرهَ لها وأسوأ اعتقادًا فيها، وطبْعه أكره شيء لها، فإذا تناوَلَها في هذه الحال، كانت داءً له لا دواءً، إلا أن يَزول اعتقاد الخبث فيها، وسوءُ الظنِّ والكراهة لها بالمحبَّة، وهذا يُنافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قطُّ إلا على وجه الداء".

 

5- بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن: ((من أتى كاهنًا أو عرَّافًا فصدَّقه، فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم))، ولا شك أن الساحرَ أشدُّ من الكاهن والعرَّاف، والكهانة والعرافة تدخل في السحر أحيانًا، فإذا كان حُكم من يأتي الكاهن والعرَّاف ما تقدَّم، فالساحر من باب أَولى، بل جاء النصُّ على الساحر في أثر ابن مسعود: ((مَن أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم))، وهذا هو الحق الذي تؤيِّده الأدلة، والأثر في "مجمع الزوائد"، وصحَّحه الدوسري في "النهج السديد".

 

ثالثًا: ألا تكون الرقية من عرَّاف أو كاهن، ولو لم يكن ساحرًا؛ وذلك لأنَّ العراف والكاهن لا يجوز لأحد أن يأتيهما ويصدِّقهما، وطلبُ الرقية من العراف والكاهن فتْح بابٍ لإتيان الناس إليه، والطمع فيما عنده من رقًى، ويُنتقض بذلك مقصودُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم))؛ والحديث رواه أحمد والحاكم وغيرهم، وصحَّحه الدوسري في "النهج"، وقال: رواه البيهقي، وهذا لفظ عام، فمن طلب من الكاهن والعراف رقيةً، فقد صدَّقه بما يقول، والأصل فيه الكذب، ومن كان الأصل فيه الكذب، فالواجب عدم الذهاب إليه؛ سدًّا للذريعة، ودرءًا للمفسَدة.

 

رابعًا: أن تكون الرُّقية بعبارات ومعنى مفهوم، فإن ما لا يُعقَل معناه وما لا يُفهَم لا يؤمن أن يكون فيه شركٌ، وما كان مظنَّة الشرك فلا يجوز تعاطيه، وراجعْ كلام ابن حجر السابق.

 

خامسًا: ألا تكون الرُّقية بهيئة محرَّمة؛ كأن يتقصَّد الرقية حال كونه جُنبًا، أو في مقبرة، أو حمام، أو حالة كتابته حروف أبا جاد، أو حالة نظره في النجوم، وما شابه ذلك من الهيئات المحرَّمة، كتلطُّخه بالنجاسات، أو كشف عورته، قال ابن عباس في قوم يَكتبون حروف أبا جاد وينظرون في النجوم: "ما أدري من فعل ذلك له عند الله من خلاق"؛ رواه عبدالرزاق والبيهقي، وقال الدوسري في النهج: إسناده صحيح.

 

فإن هذا مشابهٌ لحال السَّحَرة والمشعوذين والدجالين، وهذا بخلاف الهيئات المُباحة التي ثبتت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كنفْثه في حال الرقية، وكأمره للعائن أن يغسل بعض أجزاء بدنه، وبخلاف الهيئات المباحة التي لا تكون من عمل السحرة والمُشعوِذين.

 

سادسًا: ألا تكون الرقية بعبارات محرَّمة، كالسبِّ، والشتم، واللعن؛ لِما تقدَّم من أن الله -تعالى- لم يجعلِ الدواء في المحرَّم.

 

سابعًا: ألا يظنَّ الراقي والمرقيُّ أن الرُّقية وحدها تستقل بالشفاء أو دفع المكروه؛ يقول ابن القيم: "والأدعية والتعوُّذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضارِبه لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد قويًّا، والمانع مفقودًا، حصلتْ به النكاية في العدو، ومتى تخلَّف واحد من هذه الثلاثة، تخلف التأثير"، وكذلك الرقية؛ فلا بد أن تكون رقيةً مُباحةً أو مُستحبَّةً، ولا بد أن يكون القارئ مُخلصًا مُستجمِعًا لشرائط الدعاء، ولا بد أن يريد اللهُ - عزَّ وجلَّ - الشفاء ويُقدِّرَه.

 

حكْم التفرُّغ لأجل القراءة على الناس واتخاذها حِرفة:

لقد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخِّرة بعض طلاب العلم بالرقية على المرضى، وبلغتْ شهرتهم الآفاق؛ نظرًا لكثرة المواصلات وسهولتها، وأمام كثرة الناس وكثرة ما يُعطونه من المال للراقي، تفرَّغ هؤلاء القراء من أعمالهم، وقصَروا أوقاتهم على القراءة على المرضى، ووسَّعوا دُورَهم واستعدُّوا للزائرين، ورتَّبوا لهم مواعيد كما تفعل المستشفيات المتخصِّصة تمامًا، واتَّخذوا هذا العمل حِرفةً لهم، فما حُكم هذه الصورة بهذه الكيفيَّة التي لا يُعرف لها مثيل في العصور المتقدِّمة؟!

 

وأمام هذا التساؤل أقول - وبالله التوفيق -:

من المعلوم أن الله -تعالى- أباح الرُّقى كما تقدَّم في مبحث مشروعية الرُّقية بضوابطها الشرعية، وأباح أخذ الأُجرة عليها كما في صحيح البخاري؛ حيث قال: باب الشروط في الرُّقية بفاتحة الكتاب، وروى بسنده عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتابُ الله)).

 

فإذا علم إباحة الرُّقى، وعلم إباحة أخْذ الأُجرة عليها، انحصر موضوعُ البحث في الكيفية التي تتم بها الرقيةُ عند بعض القراء المتأخِّرين، وهي: التفرُّغ لهذا العمل واتِّخاذه حِرفةً، والاشتهار به بين الناس، وهذه الكيفية - في نظري - قد يترتَّب عليها مفاسدُ كثيرة بالنسبة للقارئ، وبالنسبة للمَقروء عليهم، ومن هذه المفاسد ما يلي:

أولاً: أنه مع وجود الجُموع الكثيرة من الناس عند القارئ قد يظنُّ عوامُّ الناس أن لهذا القارئِ خصوصيةً معيَّنةً، بدليل كثرة زحام الناس عليه، وتطغى حينئذٍ أهمية القارئ على أهمية المقروء، وهو كلام الله -تعالى- بل لا يكاد يفكِّر كثير من هؤلاء في أهمية المقروء وفائدته، إنما تتجه الأنظار للقارئ، والأصل في الرقية هو المقروء، والقارئ تبَعٌ لذلك، ولا أُنكر ما لصلاح القارئ وقوة إيمانه وثقته بربِّه وتوكُّله عليه من تأثير، ولكنه تابع للمؤثر الأصلي، وهو كلام الله ربِّ العالمين، فكل ذريعة تُضعف ثِقة الناس بالمقروء، فإنه ينبغي أن تُسدَّ، ولا تفتح، يقول ابن القيم: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخِرة، وما كل أحد يؤهَّل ولا يوفَّق للاستِشفاء، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدْق وإيمان وقَبول تامٍّ واعتقاد جازم واستيفاء شروط، لم يقاومه الداءُ أبدًا، وكيف تُقاوِم الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها".

 

ثانيًا: أنه بالنظر إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه وسيرة علماء الإسلام الموثوق بعلمهم وفضلهم، لم نرَ أحدًا منهم انقطع عن أعماله وقصَر نفسه على مُعالَجة المرضى بالرُّقى، واتخذها حِرفةً، واشتهر بها بين الناس، بحيث إذا ذُكر اسمه اقترن بهذه الحرفة، ولا شك أن الناس في كل زمان تَكثُر فيهم الأمراض، ولم نرَ أحدًا من خلفاء المسلمين نصَّب قارئًا يقرأ على المرضى، كما يُنصِّب المُفتين والقضاة، وإنما المريض يقرأ على نفسه من كتاب الله، وإن قابله عالم ذو فضل وديانة وطلب منه الرقية وقرأ عليه، فلا حرج، ومن المعلوم أن المشروع بأصله قد يُمنَع إذا صاحبتْه كيفية مُستحدَثة؛ كما هو مشهور من فعل ابن مسعود - رضي الله عنه - ولو كان الانقطاع لمعالجة المرضى بالرقى واتخاذها حِرفةً والاشتهار بها بين الناس خيرًا، لسُبِقْنَا إليه، ولا يظن أحدٌ أن المرضى في هذا الزمان أكثرُ منهم في الأزمان الأخرى، ولأجل ذلك لم يَتكاثَروا على الخلفاء، ولا على الأئمة الأربعة كتَكاثُرهم على من اشتهر بالقراءة في هذه الأزمان؛ وإنما الذي يجلب الشهرة للقارئ هو تخصيص مكان لهم، واستقبالهم فيه متى أرادوا، وتخصيص مواعيد معيَّنة مثل ما يصنع الطبيب وصاحب المتجر وصاحب المصنع، وفي ظني أن شيخ الإسلام لو فتح دكَّانًا للقراءة على المرضى واستقبلهم متى أرادوا، لَمَا استطاع أن يكتب سوداء في بيضاء، لا سيَّما في زمن الجهل وتفشي الأميَّة والخرافات، والتعلُّق بالمشايخ وأصحاب الطرق، وما ترك علماء أهل السنة هذا الأمر إلا من فِقهِهم - رحمهم الله تعالى رحمةً واسعةً.

 

ثالثًا: أن الشياطين عندما ترى تعلق الناس بشخصٍ ما قد تساعده وهو لا يَشعُر، فتُعلن خوفها منه، وخروجها من المريض ونحو ذلك؛ لتزداد ثقةُ الناس بالشخص أكثرَ مِن ثِقتهم بما يتلوه، وليعتقدوا أن فيه سرًّا مُعيَّنًا، وقد قال ابن مسعود لزوجته عندما قالت له: "كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، وكان إذا رقاها سكنتْ!"، قال: "إنما ذلك عمل الشيطان؛ كان يَنخسها بيده، فإذا رقيتها كفَّ عنها"؛ والحديث في المسند، وصححه الألباني.

 

ومكْر الشياطين بالناس مكرٌ كبير لا يُدركه إلا أصحاب الفقه في دين الله، فإن الناس إنما يتَزاحمون على القارئ ويَضربون له أكباد المطي، إذا سمعوا ما يُنشَر عنه من الحكايات الغريبة، وكيف أن أكثر المصروعين تكلَّمت الشياطين على ألسنتهم أمام القارئ، وتعهَّد عليها الشيخ بعدم العودة إلى ذلك المصروع، فإذا كثرت هذه الأخبار كثرةً كبيرةً حفَّزت كل مريض لرؤية هذا الشيخ؛ للتأكُّد من أنه ليس فيه جني، وهذه الحال بهذه الكثرة لو كانت من الكرامات، فينبغي للقارئ أن يَخاف من عاقبتها، فكيف إذا كان لا يَضمن أن يكون الأمر استِدراجًا واحتيالاً من الشياطين؟!

 

رابعًا: قد يتوهَّم القارئ الذي يَزدحِم الناس على بابه، ويرى كثرة المرضى الذين يعافيهم الله بسبب رُقيته، وكيف أن الشياطين تخاف منه، وتَخرُج من المصروعين!

 

أقول: قد يتوهَّم أنه من الأولياء الأبرار، ويُصيبه العُجب ونحو ذلك، وقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - يخشون من هذا الأمر ويَسدُّون مداخله؛ ففي "تذكرة الحفاظ" للذهبي قال ابن عيينة: رأى عمر بن الخطاب مع أُبيٍّ جماعةً، فعلاه بالدرَّة، فقال أُبيٌّ: أعلم ما تصنع - يرحمك الله - فقال عمر: "أما علمت أنها فِتنة للمَتبوع، مذلَّة للتابع؟!"، فهذا عُمر خاف على أبيٍّ من كثرة الأتباع والتلاميذ الذين يطؤون عقبه، وهما من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - فغَيرهم أَولى بالخوف وسدِّ الذريعة، وليس حال القارئ المتقدمة صفتُه كالطبيب الذي يَزدحِم الناس على بابه؛ فإن الطبيب يُعالِج بعلاج معروف، ولا يَشعر أن العلاج لا ينفع إلا إذا وصفَه هو، بل يعتقد أن الأمر مرتبط بالعلاج لا بالطبيب، بخلاف الراقي فإنه قد يظنُّ أن الأمر مرتبط به هو لا بالعلاج؛ لأن القرآن موجود عند المسلمين جميعًا، ويستطيعون قراءته، ومع هذا يَحرِصون على أن يقرأ هو، فقد يدخله العُجب والزهو، ويظنُّ بنفسِه الظُّنون، ولا شك أن الابتعاد عن مثل هذا أَولى.

 

خامسًا: من المُلاحَظ على القراء أصحاب الكيفية المتقدِّمة أنهم قد يقولون بغير علم؛ وذلك أنهم إذا قرؤوا على المريض ولم يتكلَّم الجنِّي على لسانه، قالوا: ليس فيك جنِّي، وأنت بكَ عَين، أو ليس بك جني ولا عين، ونحو هذا، ولسان حالهم يقول: إننا لا نقرأ على مصروع إلا ويلزم أن تُخاطبنا الجنُّ وتتكلم؛ فَرَقًا منَّا أو من قراءتنا، وليس على هذا أَثارةٌ من علم؛ فإن المصروع إذا قُرئ عليه وخوِّف الجن الذي بداخله، فقد يتكلم الجني ويخاف، وقد لا يتكلم ولا يخاف، فمن أين لهم القطع بأنه ليس في المقروء عليه جنيٌّ أو عين؟! وقد يترتَّب على هذا أن المريض يترك الأدعية النبوية في مثل هذه الحالات، بِناءً على قول القارئ، والله -تعالى- يقول: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

 

سادسًا: من الملاحظ على القراء أصحاب الكيفية المتقدِّمة، أنهم يجمعون الفئام من الناس فيقرؤون عليهم جميعًا قراءةً واحدةً؛ حِرصًا على كسب الوقت أمام كثرة الزائرين، ثم يَدورون على أوعيتهم يَتفُلون فيها واللعاب والرذاذ الذي خالط القراءة قد يَنقضي في الوعاء الأول والثاني، فمن أين لهذا القارئ أن لعابه كلَّه مبارك حتى ولو لم يخالط قراءة القرآن، وكيف يستجيز أن يَتفُل في مائة وعاء أو أكثر أو أقلَّ بِناءً على قراءة واحدة؟! وأين هذا الدليل على هذه الصورة من عمل السلف الصالح؟!

 

سابعًا: نظرًا لِما تُدرُّه تلك الكيفية السابقة على أصحابها من أموال طائلة، فقد يقوم بعض المُشعوِذين والدجالين فيَتظاهرون بالقراءة، فيَفتحون دكاكين لهذا الغرض، ويَخلطون الحق بالباطل، فيُفتح على الناس باب شرٍّ كبير، ولا يَحصُل إنكارٌ على المُشعوِذين؛ لاختلاط أمرهم بالقرَّاء الذين لا يَخلطون مع قراءتهم شعوَذة وكهانة؛ فيصعب التمييز، والذرائع المُفضية إلى الشر يجب سدُّها، حتى وإن كان قصدُ صاحبها الحقَّ، وقد منَع ابنُ مسعود وأصحابه وجمعٌ من العلماء المحقِّقين تعليق القرآن - مع أنه كلام الله - سدًّا للذريعة؛ لئلا يُفضي ذلك إلى تعليق التمائم، وقد أفتى بهذا التعليل أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة في الفتوى رقم992 وتاريخ: 4/4/1395 هـ.

 

ثامنًا: أن بعض القراء أصحاب الكيفيَّة المتقدِّمة الذين يتفرغون للقراءة على الناس، ويتخذونها حِرفةً لهم، يظنُّون أن ذلك من المستحبات، والاستحباب هو أمر شرعي، وهو عبادة، وهذا يجرُّهم إلى الوقوع في البِدعة؛ فإنَّ من استحبَّ شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله خلفاؤه الراشدون مع وجود المقتضِي له في عصرهم، قد أتى بابًا من البدع، والرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وإن قرؤوا على المرضى، وأخَذوا الأُجرَة على ذلك، إلا أنهم لم يتفرَّغوا لهذا الأمر، ولم يَشتهِروا به شهرةً واضِحة بين الناس، بحيث إذا ذُكِرَ أحدُهم ذُكِرَ بأنه هو القارئ على المصروعين؛ لاقتصاره على هذا العمل، ولم يتَّخذوه حِرفةً ومهنةً لاكتِساب الرزق يَقتصرون عليها.

 

تاسعًا: لقد اشتهر بعض الصحابة بإجابة الدعاء؛ كسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومِن الذين دعا لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باستجابة الدعاء، وبعض التابعين كأُوَيس القرني - رحمه الله - ومع هذا لم يُؤثَر أن المسلمين تزاحموا على أبوابهم أفواجًا إثْر أفواج لطلب الدعاء، مع حاجة المسلمين إلى إجابة دعائهم في صلاح دينهم ودنياهم، مع أنه لا مانعَ شرعًا من أن يأتي الفرد من المسلمين ويطلب من أحدهم الدعاء، وقد فعل عمرُ ذلك مع أويس؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشده إلى ذلك، ومع هذا لا شكَّ بأن عمر لو رأى أن أهل المدينة اجتمعوا على أويس لطلبِ الدعاء، وقَدِم أهل مكة وأهل العراق وغيرهم لأجْل هذا الغرض، لمنعَهم مع فعله هو له؛ وذلك خشيةً على الناس من الفِتنة، وخشيةً على أويس من الفتنة أيضًا، ومِن فقْه أويس أنه حاول إخفاء نفسه، ولم يُعرِّض نفسه ولا غيره للفتنة - فرحمه الله رحمةً واسعةً - والقصة كاملة في صحيح مسلم.

 

وفي نظري أن الرقية كالدعاء، بل هي دعاء، ومثل ذلك لو تقاطَر أهل البلد على رجل يَظهر من حاله الصلاح بأولادهم لأجْل تَحنيكهم بتمرة ونحو ذلك، فإنه ينبغي أن يَمتنع من ذلك؛ خشيةً عليه وعليهم من الفتنة؛ يقول الشيخ/ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في مثل هذه الصورة وغيرها من صور التبرُّك: "ومنها أن فعل هذا مع غيره -صلى الله عليه وسلم- لا يؤمن أن يَفتِنه وتُعجبه نفسه فيُورِثه العُجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدْح في الوجه، بل أعظم"، فما الظن بالذي يَقدَم عليه الآلاف من الناس لأجل القراءة عليهم، ويتركون القضاة والمُفتين وأهل العلم، ألا يُخشى عليه الفتنة؟!

 

عاشرًا: إذا تبيَّن أن هذا الأمر فيه مَفسدة على الناس، وخاصَّةً العوام منهم الذين يتعلقون بالقارئ أكثر من تعلُّقهم بالله وبكلامه، حتى يظنوا ارتباط الشِّفاء بالشخص؛ نظرًا لِما يرَونه من شدَّة الزحام عليه، الأمر الذي لا يرونه عند كثير من العلماء الصُّلَحاء، وفيه مفسَدة على القارئ نفسه من جهة الشُّهرة والعجب، وابتداع كيفية في الرُّقية لم تكن معروفة عند السلف الصالح، كالقراءة على مئات من الناس بقراءة واحدة، والنفث في أوعيتهم جميعًا بعد هذه القراءة، فلا شكَّ أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، خاصةً إذا عظمت المفسدة على المصلحة، كما قال -تعالى-: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108] فسبُّ المشركين لله -تعالى- مفسدة عظيمة، وسبُّ المؤمنين لآلهة المشركين مصلحة عظيمة، وهنا قدَّم درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لعِظَم المفسدة.

 

حادي عشر: أن المتفرِّغ للرقية على الناس فيه مشابهة للذي يتفرَّغ للدعاء للناس؛ فالرقية والدعاء من جنس واحد، فهل يليق بطالب علم أن يقول للناس: تعالوا إليَّ أَدعُ لكم؟! وهذا مخالف لهدي السلف الصالح؛ فقد كان عُمر وغيره من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - يَكرهون أن يُطلب منهم الدعاء، ويقولون: أأنبياء نحن؟!

 

ثاني عشر: أن انتشار هذه الظاهرة قد يوهِم عوام الناس ومَن لا علم عنده بأن هذه الكيفية هي الطريقة الصحيحة للرقية، فيظلُّ الناس يَطلبون الرقية من غيرهم، وتتعطَّل سنَّة رُقية الأفراد لأنفسهم، وانطِراحهم بين يدي ربِّ السموات والأرض، وسؤاله الشفاء، والله -تعالى- أعلى وأعلم.

 

وفى معارج القبول أن الرُّقى إذا فُعلت من حمَة - وهى تُطلَق على لدغ ذوات السُّموم كالحيَّة والعقرب وغيرها - أو عين، وهي من الإنس كالنفس من الجن، فهي حق، ولها تأثير، لكن بإذن الله، قال -تعالى-: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ [القلم: 51] فسَّر الآيةَ بإصابة العين ابنُ عباس ومجاهدُ وغيرُهما، وفى تحقيقها أحاديث، منها ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن العينَ حقٌّ)).

 

فإن تكن الرُّقى من خالص الكتاب والسنَّة؛ بألا يُدْخَل فيها غيرهما من شعوذة المشعوذين، وألا تكون بغير اللغة العربية، بل تتلى الآيات على وجْهِها، والأحاديث كما رُويت وعلى ما تُلقِّيَت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا همْز ولا رمز؛ فذلك هو هديُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان عليه هو وأصحابه والتابعون بإحسان، ومِن شِرعته التي جاء بها مؤدِّيًا عن الله - عزَّ وجلَّ - وذاك لا اختلاف في سنِّيته بين أهل العلم؛ إذ قد ثبت ذلك من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله وتقريره؛ فرَقَاه جبريل - عليه السلام - ورقى هو -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه، وأمر بها، وأقرَّ عليها.

 

أما الرُّقى التي ليست بعربية الألفاظ، ولا مفهومة المعاني، ولا مشهورة ولا مأثورة في الشرع ألبتة، فليست من الله في شيء، ولا من الكتاب والسنة في ظل ولا فَيْء، بل هي وسواس من الشيطان أوحاها إلى أوليائه، وعليه يُحمَل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود الصحيح: ((إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَة شرك))؛ وذلك لأن المتكلِّم بها لا يدري أهي من أسماء الله -تعالى- أو من أسماء الملائكة، أو من أسماء الشياطين، ولا يدري هل فيها كفْر أو إيمان، وهل هي حق أو باطل، أو فيها نفع أو ضرر، أو رقية أو سحر؟!

 

ولعَمر الله لقد انهمك غالب الناس في هذه البلوى غاية الانهماك، واستعملوها على أضْرُب كثيرة وأنواع مختلفة، لكن خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن الرُّقى لا تجوز إلا باجتماع ثلاثة شروط، فإذا اجتمعت فيها، كانت رقية شرعية، وإن اختلَّ منها شيءٌ، كانت بضدِّ ذلك، وهذه الشروط هي:

1- أن تكون من الكتاب والسنَّة، فلا تجوز من غيرهما.

 

2- أن تكون باللغة العربية محفوظة ألفاظها، مفهومة معانيها، فلا يجوز تغييرها إلى لسان آخر.

 

3- أن يعتقد أنها سبب من الأسباب، لا تأثير لها إلا بإذن الله - عزَّ وجلَّ - فلا يعتقد النفع فيها لِذَاتها، بل فَعَلَ الراقي السببَ، والله هو المسبِّبُ إذا شاء - سبحانه وتعالى.

 

وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه أحمد وأبو داود: ((إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَة شرك))، الرُّقى هي التي تسمَّى العزائم، وخصَّ منها الدليلُ ما خلا من الشرك؛ فقد رخَّص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمَة، وقوله: ((التمائم)) هي شيء يعلَّق على الأولاد من العين، وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة، وهى: ما يُعلَّق بأعناق الصِّبْيان من خرزات وعِظام لدفع العين، وهذا منهيٌّ عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يُطلب دفع المؤذيات إلا من الله وبأسمائه وصفاته - تبارك وتعالى - لكن إذا كان المعلَّق من القران، فهذا قد رخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخِّص فيه، ويجعلُه من المنهي عنه، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه - كما ذكر شيخ الإسلام/ محمد بن عبدالوهاب في كتاب "التوحيد"، لكن الشيخ: محمد حامد الفقي - رحمه الله - في تعليقه على هذا الكلام قال: الرواية بذلك ضعيفة، ولا تدلُّ على هذا؛ لأن فيها أن ابن عمرو كان يحفِّظ أولاده الكبار، ويكتبه في ألواح ويعلقه في عنق الصغار، فالظاهر أنه كان يُعلِّقه في اللوح ليَحفظه الصغير، لا على أنه تميمة، والتميمة تُكتب في ورقة لا في لوح، وبدليل تحفيظه الكبار، وكيفما كان، فهو عمل فرديٌّ من عبدالله بن عمرو، لا يُترك به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمل كبار الصَّحابة.

 

ولذلك فعلى قول من قال: إن العلماء من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، أقول: إن صحّ الاختلاف، فالصحيح - إن شاء الله - أن تعليق ذلك لا يجوز؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:

الأول: عموم النَّهي، ولا مُخصِّص لهذا العموم.

الثاني: سدُّ الذريعة؛ فإنه يُفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.

الثالث: أنه إذا علَّق، فلا بد أن يَمتهنه المعلِّق بحمله معه في قضاء الحاجة والاستِنجاء ونحو ذلك.

 

وأما قوله: "التِّوَلَة"، فهي شيء يصنعونه يَزعُمون أنه يُحبِّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، وبهذا فسره ابن مسعود - رضي الله عنه - راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم، قال الحافظ: التِّوَلَة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مُخفَّفًا -: شيء كانت المرأة تجلب به محبَّة زوجها، وهو ضرب من السحر، والله أعلم.

 

وكون كل ذلك من الشرك؛ لأنه يُراد به دفع المضارِّ وجلْب المنافع من غير الله - تبارك وتعالى.

 

بعض الرُّقى الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:

ذكر البخاري - رحمه الله - في صحيحه مجموعة من الرُّقى النبوية المصطفويَّة، وذلك في باب الرُّقى بالقرآن والمعوذات، وفي باب الرُّقى بفاتحة الكتاب، وفي باب رقية العين، وفي باب رقية النبي -صلى الله عليه وسلم- فليَرجع إليها من شاء، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 3
  • 1
  • 30,078
المقال السابق
(21) بعض المسائل التي لها علاقة بتوحيد الألوهية
المقال التالي
(23) الشفاعة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً