بن لادن.. لماذا لا نصدق الكذبة ؟
مفارقة كبرى أن يعلن قتل أسامة بن لادن في زمن الثورات العربية، التي تسقط حكاما يمثل بن لادن النقيض الواضح لهم، فهم -في أفضل الأحوال- من أبناء الطبقة الوسطى الذين استغلوا مناصبهم لتكديس ثروات فاحشة....
مفارقة كبرى أن يعلن قتل أسامة بن لادن في زمن الثورات العربية، التي
تسقط حكاما يمثل بن لادن النقيض الواضح لهم، فهم -في أفضل الأحوال- من
أبناء الطبقة الوسطى الذين استغلوا مناصبهم لتكديس ثروات فاحشة، وهو
الثري الذي أنفق المليارات في سبيل وطنه بمعناه الإسلامي
الواسع.
حكام الاستبداد سقطوا وترنحوا لأنهم أرادوا توريث "الجمهوريات" أو
ورثوها بالفعل، وأسامة كان وريثا مفترضا لأسرة بن لادن، إحدى أكثر
الأسر العربية ثراء، لكنه تخلى عن ميراثه، أو لم يبال بأن يذهب
الميراث عنه.
المستبدون بدؤوا مسيرتهم السياسية من نقطة بعيدة عن واشنطن، ثم
انجذبوا إليها وداروا في فلكها ليحافظوا على كراسيهم، وبن لادن بدأ
حياته قريبا من أميركا -شاء أم أبى- مشاركا في الجهاد الأفغاني ضد
الاحتلال السوفياتي، ثم انطلق بعيدا عنها.
حكام العهد العربي البائد تخلت عنهم واشنطن عندما أصبحوا يمثلون عبئا
ترى أن لا تتحمله، وبن لادن أصر على مواجهة أميركا، التي لم يكن لديها
مانع من "التفاهم" معه قبل 11/9.
لكن: هل يكون إعلان أوباما أن قوة أميركية قتلت أسامة مجرد كذبة؟ وإن
كان، فلم لا نصدق الكذبة؟
هناك من دون شك شيء ما "مريب" أو "Fishy" حسب التعبير الإنجليزي الذي
يعني الريبة، كما ينطوي على معنى "المناورة" و"رائحة الخداع"، ويعني
أيضا "الوجه البارد". وكلها معان أحسبها واردة في البيان الذي ألقاه
الرئيس الأميركي باراك أوباما معلنا مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن
لادن، وواردة كذلك فيما تناقله تيار الإعلام العالمي الرئيسي من أنباء
بشأن الحادث.
كان أوباما يحتاج بشكل خاص إلى "وجه بارد" ليؤكد مقتل بن لادن مع أنه
لم يظهر دليلا واحدا يؤيد التأكيد، الذي استند فيه فقط إلى نفوذه
بصفته "أقوى رجل في العالم"، غير مبال بأن يطابق سلوكه -هو رئيس
الولايات المتحدة.. الديمقراطية فرضا- سلوك زمرة المستبدين العرب،
كالقذافي والأسد وصالح ومبارك وبن علي من قبل، الذين لم تهتز لهم شعرة
وهم يدلون بأسوأ الأكاذيب، ظانين أنهم، وبفضل منصبهم لا غير، قادرون
على إخفاء "رائحة الخداع" التي تفوح من تصريحاتهم، أو أن سلطتهم تزكم
أنوفنا بحيث لا نشمها!
طبقا لتصريح أوباما وما تلاه وما ارتبط به من تصريحات رسمية وأخبار،
يفترض أن الرئيس الأميركي بحث مع فريقه للأمن القومي طيلة شهور
المعلومات المرتبطة بتحديد مكان وجود بن لادن في مبنى من ثلاثة طوابق،
داخل مجمع سكني قريب من قاعدة عسكرية، بمدينة إبت آباد، التي تبعد 60
كيلومترا شمال العاصمة الباكستانية إسلام آباد، ثم سمح أوباما الأسبوع
الماضي لمجموعة صغيرة من العسكريين بتنفيذ عملية أدت إلى مقتل بن لادن
وابنه وسيدة حاولت حماية جثته، وذلك بعد تبادل للنار استمر 40 دقيقة،
ولم ينته إلا بعد أن فرغت ذخيرة بن لادن، لكنه لم يؤد إلى مقتل أو
إصابة أي أميركي من الفريق الذي تحطمت إحدى 3 مروحيات استخدمها في
العملية، وأنهى مهمته بأن سلم المعتقلين من حرس وأعوان زعيم "القاعدة"
إلى السلطات الباكستانية، ثم حمل الجثث معه من باكستان إلى أفغانستان،
قبل أن يعود ليحمل جثة بن لادن إلى بحر العرب، حيث ألقاها، أو
دفنها.
توالي التصريحات كان يضيف إلى القصة تفاصيل، بهدف تحسين جانبها
"الإنساني"، بما أن صياغتها الأولى -كما وردت على لسان أوباما- لم تكن
تهتم بأكثر من التفاخر، كقوله "تحققت العدالة. أُعلن للأميركيين
والعالم أن الولايات المتحدة نفذت عملية أدت إلى مقتل بن لادن زعيم
تنظيم القاعدة الإرهابي" وكأنه -ضمنا- يتقمص شخصية القذافي وهو يدعو
أنصاره إلى الخروج للساحات والرقص والغناء.
ومن المفارقات أن الشباب الليبي تعقل ولم يستجب لدعوة القذافي
الصريحة، أما الشباب الأميركي فقد احتشد بالآلاف أمام البيت الأبيض،
مستجيبا لدعوة رئيسه الضمنية وهو يحتفل بالرقص والغناء!
أهم المحسنات التي أدخلت على القصة، التصريح الخاص بأن طقوس الدفن
الإسلامية أقيمت قبل إغراق جثة بن لادن بكيسها المثقل في البحر. وهو
تصريح جاء بعد دقائق من صدور بيان لشيخ الأزهر د. أحمد الطيب يدين
إلقاء الجثة في البحر، مؤكدا أنه عمل لا يقبله الإسلام.
وطبقا لقاعدة "عمل سيئ يقود إلى عمل سيئ آخر" فإن "المحسنات" جاءت
محملة بكذب أشد فداحة وخداع رائحته فواحة، حيث الطقوس الإسلامية، طبقا
لتصريح من أسمته وكالة الأنباء الفرنسية مسؤولا أميركيا كبيرا، كانت
أن "تلا ضابط الصلاة التي قام مترجم بتعريبها، ثم وضعت الجثة على
قاعدة ألقيت منها في المحيط"!
فهل يشبه هذا الوصف "صلاة الجنازة" من قريب أو بعيد؟ إن المشهد كما
ورد في تصريح المسؤول الأميركي -الذي أنصحه بإبقاء اسمه مستورا- أقرب
إلى "قس" يرتل صلاته على جثمان بحار قبل أن يلقى به في الماء!
ادعاء "الدفن" في البحر وحده جاء مذيلا بأكذوبتين أخريين، على سبيل
التبرير، تقول الأولى إنه كانت هناك "صعوبة في إقناع أي بلد باستضافة
الجثمان"!! حتى في "أنتركتيكا" لم تعثر "سيدة العالم وقطبه الأوحد"
على مساحة "متر في متر" تجعلها قبرا لبن لادن! الدولة التي لم تستأذن
ولم تهتم باستصدار أي غطاء دولي يضفي مشروعية -ولو شكلية- على
احتلالها لأفغانستان تقف شديدة التهذيب عاجزة حتى عن الاستئذان للتصرف
في مساحة متر مربع واحد لا غير من الدولة التي تحتلها كلها! كذا
يقولون! وكذا فلنصدق!
أما الأكذوبة الأخرى فتقول على لسان مسؤول أميركي مجهول آخر: إن
الهدف من إغراق الجثمان في البحر هو منع تحول قبر بن لادن إلى مزار
ديني! سبحان الله، هل تتصور الإدارة الأميركية أن المسلمين -كلهم أو
بعضهم- يعتقدون أن بن لادن من "أولياء الله الصالحين"، لدرجة أنهم
كانوا سيشدون الرحال إلى قبره حيث كان، ولهذا لم تجعل له قبرا معلوما؟
لو صح أن هذا التصور قائم لديها فإن إغراق الجثمان يكون عملا عدائيا
وتحديا واضحا لمشاعر المسلمين، الذين زعم أوباما وهو يعلن مقتل بن
لادن أن إدارته لا تعاديهم!
كما ترون فإن رائحة الخداع تفوح واضحة من التبريرات والتحسينات، مع
كونها أكثر وضوحا في سياق القصة الأصلية، التي تطرح أسئلة مركزية لا
إجابة لها، منها: كيف يذهب الجيش الأميركي -رائد الحروب المتلفزة- إلى
عملية، هي الأهم بالنسبة له على الإطلاق، من دون كاميرا واحدة؟ هل كان
قتل بن لادن أكثر صعوبة من قصف أفغانستان والعراق الذي تابعناه على
الشاشة لحظة بلحظة كأنه مباراة كرة؟ لماذا لم يهتم البنتاغون بتوثيق
العملية بالفيديو أو بالصورة في أضعف الإيمان؟
إن هذا النقص -الفادح- يشكل خللا في القصة، جرت محاولة لتجاوزه -فيما
يبدو- ببث صورة ملفقة لجثة بن لادن عبر قناة "جيو" الباكستانية، وهي
صورة سبق أن بثت -ضمن تلفيق آخر- عبر الإنترنت في 2009، واضطرت القناة
لسحبها بعد أن أثبتت وكالة فرانس برس أنها مزيفة، حيث فحصتها بواسطة
برمجيات خاصة، أظهرت أن اللحية والجزء الأسفل من الوجه من صورة أقدم
لبن لادن، وأكد رئيس تحرير قسم الصور في الوكالة ملادن أنتونوف أن
"اللحية غير واضحة، ونرى بوضوح أنها مركبة". فهل كان تحمل وزر نشر
الصورة المزيفة هو المساهمة التي تحملت باكستان عبئها دعما لرواية
الإدارة الأميركية؟
إن الجزء الوحيد "الحقيقي" في واقعة الصورة "المزيفة" هو أنها تؤكد
عدم امتلاك الإدارة الأميركية أية صورة توثق روايتها، وأنها تدرك
فداحة هذا النقص، ولهذا سعت لسده بالتزوير، ولاحظ أن سياق انعدام
الدليل الحقيقي والاستعاضة عنه بآخر مزيف أو بتبرير بادي التلفيق
والتكلف هو السياق الذي يسيطر على بنية التصريحات الرسمية بشأن مقتل
بن لادن.
ولا شك في أن جثة بن لادن هي الدليل الأكثر أهمية، وعدم وجودها هو
الفجوة الأبرز، وبالتالي فإن تبرير هذا الغياب بالحديث عن إغراق -أو
دفن- هذه الجثة في البحر هو الزعم الأكثر سخفا، بين مجموعة مزاعم كلها
سخيف، منها سقوط مروحية، بعد إصابتها بطلقات نارية جعلتها تتحطم كما
قال شاهد عيان، أو تتعطل كما قالت المصادر الأميركية، ثم لا يصاب ولو
واحد من ركابها! ومنها قيام 3 مروحيات وفرقة مسلحة بقصف بيت، وتبادل
إطلاق النار مع من فيه لمدة 40 دقيقة، ثم لا تتدخل الشرطة، ولا
القاعدة العسكرية الباكستانية التي لا تبعد عن البيت إلا أمتارا؟ ألم
يخطر ببال أحدهم في باكستان أن البلاد تتعرض لهجوم إرهابي؟
لو قالت الإدارة الأميركية إن العملية تمت بالتنسيق مع السلطات
الباكستانية لكان تبريرا يمكن قبوله، لكن "رامبو" الأميركي أصر على
أنه قام بالعمل منفردا، بل إن تصريحات المسؤولين في الإدارة الأميركية
أشارت إلى شعورهم بـ"الصدمة" لعجز الباكستانيين -أو صمتهم- إزاء إقامة
بن لادن على مثل هذه المقربة من قاعدة عسكرية.
سلسلة غير محبوكة من المزاعم، ربما كانت تستر قصة أخرى، تتعلق
بتداعيات لعملية القتل خرجت عن السيطرة. أو أن واشنطن تأكدت من وفاة
بن لادن -ربما في عملية سابقة أو تحت وطأة المرض- ورغبت في استثمار
هذه المعلومة مدعية أنها قتلته بهدف:
• إعادة هيبة البنتاغون المهدرة في أفغانستان، خاصة بعد هروب أكثر من
خمسمائة معتقل طالباني من سجن في قندهار، في عملية محبوكة هي صفعة
مدوية غطت أصداؤها الطريق من كابل إلى واشنطن.
• التشويش على فضيحة وجود معتقلين أبرياء في غوانتانامو مقابل
الإفراج عن مشتبه فيهم، وهي الفضيحة التي أعلنتها دفعة أخرى من
تسريبات ويكيليكس.
• دعم فرصة فوز الرئيس باراك أوباما بفترة رئاسية ثانية، وهي الفرصة
التي كانت تبدو بعيدة لأسباب داخلية، أهمها: الأزمة الاقتصادية،
وتجميد قانون "الرعاية الصحية"، وهو الإنجاز الأبرز لأوباما، ووصول
العلاقة مع الاتحادات العمالية في ويسكونسن إلى طريق مسدود.
فضلا عن أزمة بقعة النفط وتداعياتها، وتقدم الحزب الجمهوري مدعوما
بحركة "تي بارتي"، والتشكيك في أن الرئيس ولد خارج أميركا، مما يفقده
واحدا من شروط الترشيح، على نحو اضطر البيت الأبيض معه لنشر صورة
موثقة من شهادة ميلاد أوباما تؤكد أنه ولد في هاواي.
وعلى الصعيد الخارجي فإن الثورات العربية جاءت خصما من رصيد
الاستخبارات الأميركية، التي لم تتوقع ما حدث، وفقدت "حلفاء" مهمين،
وأفلت الزمام من يديها ليسير "التغيير" في طريق غير التي كانت تدخره
لوقت الحاجة.
إضافة إلى التراجع الواضح في أفغانستان، والإصرار الشعبي على إخراج
القوات الأميركية من العراق. ويبدو أن أوباما يريد الخروج من أزماته
والحصول على رئاسته الثانية بفضل سيناريو قتل بن لادن، مثلما فعل سلفه
جورج دبليو بوش عندما استغل القبض على صدام حسين في سيناريو "الحفرة"
الذي اتضح فيما بعد أنه ملفق، للفوز بفترة رئاسته الثانية.
مقارنة هذه المكاسب الواضحة والموثقة بمزاعم سيناريو القتل
المتداعية، ترجح أننا أمام "كذبة ما"، أدعو للتظاهر بتصديقها، رغم كل
ما أشرت إليه. إذ إن أول ما يترتب على تصديقها هو مطالبة الولايات
المتحدة بالانسحاب فورا من أفغانستان، وبالتبعية من باكستان، ذلك أن
الأمر كله بدأ حين طلبت واشنطن من حكومة طالبان تسليمها أسامة بن لادن
في 2001، وعندما رفضت طالبان شنت القوات الأميركية عدوانها على
أفغانستان مباشرة من دون أي سند قانوني. والآن وقد حمل الجنود
الأميركيون بن لادن -بزعمهم- ورموه في البحر، تنتفي أية ذريعة
للاحتلال، مهما كانت واهية.
أيضا، ومن النتائج المهمة للتظاهر بالتصديق أن الولايات المتحدة تفقد
كبرى الفزاعات التي كانت تستخدمها لتطويع شعبها ودول الغرب، وتهديد
العالم الإسلامي عبر اتهامات باطلة.
لقد أخطأت واشنطن مرتين: مرة عندما سلطت آلتها الإعلامية ضد بن لادن
وحده، واعتبار "الإرهاب مجسدا في رجل"، وهو فرض لازمه أن يتلاشى خطر
الإرهاب بموت الرجل. وأخطأت واشنطن مرة أخرى عندما أعلنت موت بن لادن
حتى لو كانت قتلته فعلا، وحتى لو كان هذا القتل سيمنح أوباما رئاسة
أخرى، ويخفف النقد الموجه لإدارته وللبنتاغون، لأنها بهذا الإعلان
ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض لها ذهبا.
وهي حقيقة يدركها البعض في واشنطن، معبرا عن إدراكه في تصريحات تحاول
التأكيد على أن الإرهاب باق والحرب عليه مستمرة، لكنها تصريحات يحتاج
التدليل على صحتها إلى "دجاجة" أخرى غير تلك التي ذبحت، وتربية الدجاج
تحتاج إلى بعض الوقت!
- التصنيف: